وبالجملة، فان الأولين إنما كانوا يقررون الاعتقادات فى النفوس بالتخييل الشعرى. ثم نبغت الخطابة بعد ذلك فزاولوا تقرير الاعتقادات فى النفوس بالاقناع. وكلاهما متعلق بالقول. ويفارق القول فى الرأى القول فى العادة والخلق أن أحدهما يحث على إرادة، والآخر يحث على رأى أن شيئا موجود أو غير موجود، ولا يتعرض فيه للدعوة إلى إرادته أو الهرب منه. ثم لاتكون العادة والخلق متعلقين بأن شيئا موجود أو غير موجود، بل إذا ذكر الاعتقاد فى الأمر العادى ذكر ليطلب أو ليهرب منه. وأما الرأى فانما يبن الوجود أو اللاوجود فقط، أو على نحو.
والرابع: «المقابلة»، وهو أن يجعل للغرض المفسر وزنا يقول به، ويكون ذلك الوزن مناسبا إياه. وأن تكون التغيرات الجزئية بذلك الوزن تليق به: فرب شىء واحد يليق به الطى فى غرض، وفى عرض آخر يليق به التلصيق وهما فعلان يتعلقان بالايقاع يستعملهما.
وبعد الربعة: «التلحين»، وهو أعظم كل شىء وأشده تأثيرا فى النفس.
وأما «النظر والاحتجاج» فهو الذى يقرر فى النفس حال المقول ووجوب قبوله حتى يتسلى عن الغم وينفعل الانفعال المقصود بطراغوذيا. ولا يكون فيها صناعة، أى التصديق المذكور فى كتاب «الخطابة» فان ذلك غير مناصب للشعر. وليس طراغوذيا مبنيا على المحاورة والمناظرة، ولا على الأخذ بالوجوه. والصناعة أعلى درجة من درجات الشعر، فان الصناعة هى تفيد الآلات التى بها يقع التحسين والنافعات معها. والشعر يتصرف على تلك تصرفا ثانيا؛ والصانع الأقدم أرأس من الصانع الذى يخدمه ويتبعه.
واعلم أن أصول التخييلات مأخوذة من الخطابة على أنها خدم للتصديقات وتوابع، ثم التصرف فيها بحسب أنه أصل هو للشعر، وخصوصا للطراغوذيات.
فصل فى حسن ترتيب الشعر، وخصوصا الطراغوذيا؛ وفى أجزاء الكلام المخيل الخرافى فى طراغوذيا
وأما حسن قيام الأمور التى يجب أن توجد فى الأشعار، فينبغى أن نتكلم فيه، فان ذلك مقدمة طراغوذيا وأعم منه وأعلى مرتبة.
صفحة ١٨٠