بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله مالك رقاب الأمم، واضع الأيدي بعضها فوق بعض في العلم والكرم، والصلاة والسلام على من أرسله الله إلى العرب والعجم، وعلى آله وأصحابه نجوم الاهتداء والاقتداء في بيداء الظلم.
وبعد:
فيقول أفقر عباد الله الغني، علي بن سلطان محمد الهروي:
قد وقعت مباحثة بيني وبين بعض الفضلاء المكرمين من أعيان العلماء المحترمين، فقال: ورد في ((صحيح)) مسلم أنه صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على اليسرى.
صفحة ٣١
وفي البخاري: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة.
فالحديثان حجة على مالك في مخالفته لذلك.
فقلت له: المجتهد أسير الدليل في المطلب، فلا يتصور خلافه بلا سبب في المذهب، كيف وهو إمام المحدثين وإمام المخرجين، وفضائله لا تعد، وشمائله لا تحد؟!
صفحة ٣٢
وناهيك أن البخاري أخذ عن الإمام أحمد، وهو عن الشافعي، وهو عن مالك، بلا واسطة أحد.
وقال في حقه بشر الحافي -وهو من الطبقة العليا-: ((حدثنا مالك زينة الدنيا)).
وقال بعضهم: ((الإمام مالك بين العلماء كالنجم، فالطاعن فيه يستحق الشتم والرجم)).
فأظهر الإصرار، وأبى عن الاستغفار، وقال: لم يرد قط عنه صلى الله عليه وسلم الإرسال، فمع هذا قال بكراهة الوضع. فكيف الحال؟
صفحة ٣٣
فسألت بعض علماء المالكية عن مأخذ المسألة من الأدلة الحديثية، فلم يظهر من أحد منهم الجواب يكون على وفق الصواب.
فأتاني أحد من فضلائهم بل أوحدي من كبرائهم ب: ((شرح مسلم)) للقرطبي، متضمن لما يدفع به الغبي. ونصه:
اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
صفحة ٣٤
فروى مطرف وابن الماجشون عن مالك: أنه يقبض اليمنى على المعصم، والكوع من يده اليسرى تحت صدره، تمسكا بهذا الحديث.
وروى ابن القاسم:
أنه يسدلهما، وكره له ما تقدم، ورأى أنه من الاعتماد على اليد في الصلاة المنهي عنه في ((كتاب أبي داود)).
صفحة ٣٥
وروى أشهب: التخيير فيهما، والإباحة. انتهى.
ولكل وجهة، وكل يريد وجهه.
فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمة التحقيق:
إن وجه الوضع ظاهر، مؤيد بالحديث الصحيح، وبما ينبئ عن الأدب الصريح، وهو قول الجمهور من المجتهدين، ونقل المشهور من المخرجين.
صفحة ٣٦
ولا يعارضه حديث أبي داود من وجهين:
أما أولا: فلأصحية حديث ((الصحيحين)).
وأما ثانيا: فليعدم صحة المعارضة بين الحديثين؛ لاختلاف الوضعين في المحلين، فالوضع الوارد في ((الصحيح)) محله القيام على ما فيه التصريح، والاعتماد المنهي الوارد في أبي داود محله غير المحل المعهود؛ لأن لفظه:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده.
وفي نسخة: على يديه.
فقيل في معناه: ((وهو أن يجلس الرجل في الصلاة، ويرسل اليدين إلى الأرض من فخذيه)).
وقيل: ((هو أن يضع -يديه- على الأرض قبل الركبتين في الهوي)).
صفحة ٣٧
وفي رواية لأبي داود: نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة. فمعناه: أن المصلي لا يعتمد عند قيامه على يديه، بل يعتمد على ظهور قدميه، وهو مذهب الإمام الأعظم والهمام الأقدم أبي حنيفة؛ لما رواه أبو داود أيضا:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه.
فالرواية الأولى لأبي داود لا تصلح حجة للإمام مالك، وكذا الثانية؛ على ما بينا معناه هنالك.
وأما وجه الإرسال؛ أنه أقام المعارضة بين الحديثين، فإن رواية ((الصحيح)) تدل على الوضع، ورواية أبي داود -أعني: الثانية- تدل على المنع؛ لأن النهوض بمعنى: القيام المطلق، على ما في كتب اللغة محقق.
ومن قواعد الأصول المقررة عند أرباب الحصول: أنه إذا تعارض المأمور والمحظور، روعي جانب المحظور، ويرجح على فعل المأمور.
صفحة ٣٨
فإن قلت: كيف يعارض أبو داود الشيخين، وكتاباهما أصح الكتب بعد الاختلاف فيما بين ((الصحيحين))؟
قلت: هذا بالنسبة إلى أمثالنا من المقلدين، والتابعين للأدلة النقلية من المخرجين، لا بالنسبة إلى المجتهد المقدم عليهما؛ لأن الحديثين إذا ثبتا عنده، فله الترجيح بينهما.
صفحة ٣٩
على أنه ذكر الإمام ابن الهمام، أن قول الأصوليين: أصح الأحاديث ما في ((الصحيحين))، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما اشتمل على شرطهما، [ثم ما اشتمل على شرط أحدهما، ثم الصحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما] تحكم لا يجوز التقليد فيه، إذ الأصحية ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها، فإذا فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين، أفلا يكون الحكم بأصحية ما في الكتابين عين التحكم؟!
نعم، تسكن نفس غير المجتهد، ومن لم يخبر أمر الراوي بنفسه إلى ما اجتمع عليه الأكثر.
أما المجتهد في اعتبار الشرط وعدمه، والذي خبر الراوي، فلا يرجع إلا إلى رأي نفسه، فإذا صح الحديث في غير الكتابين، يعارض ما في الكتابين. انتهى.
صفحة ٤٠
بل أقول: أخذ المجتهد بتلك الرواية يدل على صحتها وعدالة رواتها، فلا يضر قول صاحب الأزهار أن الرواية الثانية لأبي داود ضعيفة؛ لأن خالد بن إياس الراوي لها ضعيف.
فإنا ندفعه بأن نقول: هو ضعيف عند القائل، وهو عدل عند الإمام الفاضل، وهذا الضعف إنما حدث في رجال الحديث بعد تقدم الاجتهاد به وتعلق التحديث.
لكن الإمام مالك يعكر عليه مجيء الحديث بلفظ: [نهى أن يعتمد الرجل على يديه]. ولعله ثبت عنده الاعتماد على اليد بلفظ الإفراد، فله اليد الطولى في العقل والرواية الفضلى في النقل.
والجواب عن جانب الجمهور: بإمكان الجمع المشهور؛ لرفع المعارضة ودفع المناقضة، بأن الوضع في حقيقة القيام، والمنع عند إرادة القيام، أو الوضع في قيام شرع فيه ذكر وقراءة، والمنع في قيام يكون بخلافه؛ كالقومة، وكما بين تكبيرات العيدين، وما بعد التكبيرة الرابعة في الجنازة.
صفحة ٤١
وأما وجه التخيير والإباحة؛ فهو مأخوذ من عدم الترجيح عند المعارضة، فإنهما إذا تعارضا تساقطا، فالتخيير والإباحة بهما ترابطا.
صفحة ٤٢
والحمد لله رب العالمين
صفحة غير معروفة