فمن قال إن النفس واحدة فعالة بذاتها احتج بما سيحتج به أصحاب المذهب الآخر مما نذكره، ثم قال فإذا كانت واحدة غير جسم استحال أن تنقسم فى الآلات وتتكثر، فإنها حينئذ تصير صورة مادية، وقد ثبت عندهم أنها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة لنا إلى تعدادها ههنا، قالوا فهى بنفسها تفعل ما تفعل بآلات مختلفة، والذين قالوا من هؤلآء إن النفس علامة بذاتها احتجوا وقالوا لأنها إن كانت جاهلة عادمة للعلوم فإما أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها، فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم البتة، وإن كان عارضا لها فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشىء، فيكون موجودا للنفس أن تعلم الأشياء لكن عرض لها أن جهلت بسبب، فيكون السبب إنما يتسبب للجهل لا للعلم، فإذا رفعنا الأسباب العارضة بقى لها الأمر الذى فى ذاتها، ثم إذا كان الأمر الذى لها فى ذاتها هو أن تعلم فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم وهى بسيطة روحانية لا تنفعل؟، بل يجوز أن يكون عندها العلم وتكون معرضة عنه مشغولة إذا نبهت علمت، وكان معنى التنبيه ردها إلى ذاتها وإلى حال طبيعتها، فتصادف نفسها عالمة بكل شىء، وأما أصحاب التذكر فإنهم احتجوا وقالوا إنه لو لم تكن النفس علمت وقتا ما تجهله الآن وتطلبه لكانت إذا ظفرت به لم تعلم أنه المطلوب كطالب العبد الآبق، وقد فرغنا عن ذكر هذا فى موضع آخر وعن نقضه، والذين كثروا النفس فقد احتجوا وقالوا كيف يمكننا أن نقول إن الأنفس كلها نفس واحدة، ونحن نجد النبات وله النفس الشهوانية أعنى التى ذكرناها فى هذا الفصل وليس له النفس المدركة الحاسة المميزة، فتكون لا محالة هذه النفس شيئا منفردا بذاته دون تلك النفس، ثم نجد الحيوان وله هذه النفس الحساسة الغضبية، ولا تكون هناك النفس النطقية أصلا، فتكون هذه النفس البهيمية نفسا على حدة، فإذا اجتمعت هذه الأمور فى الإنسان علمنا أنه قد اجتمع فيه أنفس متباينة مختلفة الذوات قد يفارق بعضها بعضا، فلذلك تختص كل واحدة منها بموضع، فيكون للمميزة الدماغ ويكون للغضبية الحيوانية القلب ويكون للشهوانية الكبد،
صفحة ٢٥٢