فنقول: إن الغرض في الفلسفة أن يوقف على حقائق الأشياء كلها على قدر مايمكن الإنسان أن يقف عليه. والأشياء الموجودة إما أشياء موجودة ليس وجودها باختيارنا وفعلنا، وإما أشياء وجودها باختيارنا وفعلنا. ومعرفة الامور التي من القسم الأول تسمى فلسفة نظرية، ومعرفة الأمور التي من القسم الثاني تسمى فلسفة عملية. والفلسفة النظرية إنما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط، والفلسفة العملية إنما الغاية فيها تكميل النفس، لا بأن تعلم فقط، بل بأن تعلم ما يعمل به فتعمل. فالنظرية غايتها اعتقاد رأى ليس بعمل، والعملية غايتها معرفة رأى هو في عمل، فالنظرية أولى بأن تنسب إلى الرأى.
والأشياء الموجودة في الأعيان التي ليس وجودها باختيارنا وفعلنا هي بالقسمة الأولى على قسمين: أحدهما الأمور التي تخالط الحركة، والثاني الأمور التي لاتخالط الحركة، مثل العقل والبارى. والأمور التي تخالط الحركة على ضربين: فإنها إما أن تكون لاوجود لها إلا بحيث يجوز أن تخالط الحركة، مثل الإنسانية والتربيع، وما شابه ذلك، وإما أن يكون لها وجود من دون ذلك. فالموجودات التي لاوجود لها إلا بحيث يجوز عليها مخالطة الحركة على قسمين: فإنها إما أن تكون، لا القوام ولا في الوهم، يصح عليها أن تجرد عن مادة معينة، كصورة الإنسانية والفرسية، وإما أن تكون يصح عليها ذلك في الوهم دون القوام، مثل التربيع، فإنه لا يحوج تصوره إلى أن يخص بنوع مادة، أو يلتفت إلى حال حركة. وأما الأمور التي يصح أن تخالط الحركة، ولها وجود دون ذلك، فهي مثل الهوية، والوحدة، والكثرة، والعلية. فتكون الأمور التي يصح عليها أن تجرد عن الحركة، إما أن تكون صحتها صحة الوجوب، وإما ألا تكون صحتها صحة الوجوب، بل تكون بحيث لايمتنع لها ذلك، مثل حال الوحدة، والهوية، والعلية، والعدد الذي هو الكثرة. وهذه فإما أن ينظر إليها من حيث هى هى، فلا يفارق ذلك النظر النظر إليها من حيث هى مجردة، فإنها تكون من جملة النظر الذي يكون في الأشياء، لا من حيث هى في مادة، إذ هى، من حيث هى هى، لا في مادة، وإما أن ينظر اليها من حيث عرض لها عرض لايكون في وجود إلا في المادة. وهذا على قسمين: إما أن يكون ذلك العرض لايصح توهمه أن يكون إلا مع نسبة إلى المادة النوعية والحركة، مثل النظر في الواحد، من حيث هو نار أو هواء، وفي الكثير، من حيث هو أسطقسات، وفي العلة، من حيث هي مثلا حرارة أو برودة، وفي الجوهر العقلي، من حيث هو نفس، أى مبدأ حركة بدن، وإن كان يجوز مفارقته بذاته. وإما أن يكون ذلك العرض - وإن كان لايعرض إلا مع نسبة إلى مادة ومخالطة حركة - فإنه قد تتوهم أحواله وتستبان من غير نظر في المادة المعينة والحركة النظر المذكور، مثل الجمع والتفريق، والضرب والقسمة، والتجذير والتكعيب، وسائر الأحوال التي تلحق العدد، فإن ذلك يلحق العدد وهو في أوهام الناس، أو في موجودات متحركة منقسمة متفرقة ومجتمعة، ولكن تصور ذلك قد يتجرد تجردا ما حتى لايحتاج فيه إلى تعيين مواد نوعية.
فأصناف العلوم إما أن تتناول إذن اعتبار الموجودات، من حيث هى في الحركة تصورا وقواما، وتتعلق بمواد مخصوصة الأنواع،وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة لتلك تصورا لاقواما، وإما أن تتناول اعتبار الموجودات، من حيث هى مفارقة قواما وتصورا.
صفحة ٢