باب الحماسة
قال الشيخ أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن
المرزوقي الأصفهاني
﵀
الحماسة: الشجاعة، والفعل منه حسن ورجل أحمس. وكانت العرب تسمي قريشًا: حمسًا لتشددهم في أحوالهم دينًا ودنيا وتسمى بني عامر: الأحامس، وكأنهم ذهبوا فى واحد حُمس إلى أنه صفة، فجمعوه جمع الصفات، كما يقال أحمر وحمر، وأشقر وشقر، وذهبوا في واحد الأحامس إلى أنه اسم، فجمعوه جمع الأسماء كما يقال أحمد وأحامد، وأجدل وأجادل. وهم يخرجون الأسماء إلى باب الصفات كثيرًا فيقولون: بنو فلان الذوائب لا الذنائب، والمراد هم الأعالي لا الأسافل، كما يخرجون الصفات إلى باب الأسماء كثيرًا. وعلى هذا الأساود: الحيات، والأداهم، القيود: قال:
أوعدني بالسجن والأداهم
والأباطح: جمع الأبطح. وكل ذلك صفات أخرجت إلى باب الأسماء. وقال الدريدي: حمس الشر: اشتد. والحمس: قريش، وكنانة وحزاعة، تحمسوا في دينهم. وبنو حماس: قبيلة من العرب، وكذلك بنو حميس. وقوله:
1 / 19
قال بعض شعراء بلعنبر
المراد بني العنبر، ولهذا وجب ألا يصحب الكسرة التي في الراء التنوين. وإنما حذف النون من بني لاجتماعه مع اللام من العنبر، وتقاربهما في المخرج. وذلك لأنه لما تعذر الإدغام منه جعل الحذف بدلًا من الإدغام. وإنما تعذر الإدغام لأن الأول متحرك والثاني ساكن سكونًا لازمًا، فلما كان من شرط المدغم تحريك الثاني إذا أدغم الأول فيه، وكان لام التعريف ساكنًا سكونًا لازمًا، جعل الحذف لكونه مؤذيًا إلى التخفيف المطلوب من الإدغام بدلًا لما تعذر هو. ولا يلزم على هذا أن يحذف النون من بنى النجار لأن اللام قد أدغم فى النون التى بعده، فلا يمكن تقدير إدغام النون التى قبله فيه، حتى إذا تعذر جعل الحذف بدلًا من الإدغام، بدلالة أن ثلاثة أشباه لا يصح إدغام بعضها في بعض، ومما يشبه هذا من اجتماع المتجانسين من كلمتين واستعمال الحذف في أحدهما بدلًا من الإدغام قولهم علماء بنو فلان، والمعنى على الماء. ومما يشبه لكنهما التقيا في كلمة واحدة، قولهم ظللت ومسست يقال منهما ظلت ومست، وإن شئت ظلت ومست. تلقى حركة المحذوف على فاء الفعل. قال الله تعالى: " فظلتم تفكهون ". وإنما تعذر الإدغام ها هنا لأن لام الفعل في مثل هذا المكان إذا اتصل به ضمير الفاعل يسكن البتة، فلما لزمه السكون لم يصح إدغام العين فيه، فلذلك حذف.
والعنبر في اللغة: الترس والطيب. وعنبرة الشتاء: شدته. وعنبرة القوم: خلوص أنسابهم. ويقال: رأيته بهذا البلد عنبريًا. يضرب به مثلًا في الهداية. وبنو العنبر أهدى قوم. ويمكن تقدير النون زائدة فيه، فيكون فنعلًا من عبرت، كأنه بحسن تأتيه للاهتداء يعبر الطرق. ومنه قيل في البعير: " هو " عبر أسفار.
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، هم بنو أخي العنبر بن عمرو بن تميم، وإذا كان كذلك فمدح هذا الشاعر لهم يجري مجرى الافتخار بهم، وفي بني مازن عصبية
1 / 20
شديدة قد عرفوا بها وحمدوا من أجلها، ولذلك قال بعض الشعراء موبخًا لغيرهم:
فهلا سعيتم سعي عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
كأن دنانيرًا على قسماتهم ... وإن كان قد شف الوجوه لقاء
وقصد الشاعر في هذه الأبيات عندي إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه ومهتضميه، وتهييجهم وهزهم، لا ذمهم. وكيف ووبال الذم راجع إليه؟! لكنه في هذا المعنى سالك لطريقة كبشة أخت عمرو بن معد يكرب في قولها:
أرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلىقومه لا تعقلوا لهم دمي
ألا ترى أنها قالت في جملة هذه الأبيات:
ودع عنك عمرًا إن عمرًا مسالم ... وهل بطن عمر غير شبر لمطعم
فلا يجوز أن يتوهم أنها كانت تهجو أخاها عمرًا أو تنسبه إلى العجز والتقصير في طلب ثأر أخيه، وعمر هو الذي كان يعد بألف فارس، ولكن مرادها بعثه وتهييجه. وهذا كما يقول العبد لمولاه والغلام لصاحبه وقد لحقتهما هضيمة من أجنبي: لو كنا في خدمة فلان عمك أو أخيك لما جسر هذا أن ينالنا بمكروه! ولا يجوز أن يقال إنهما هجوا سيدهما أو فضلا غيرهما عليهما، ولكن المراد تحريكهما لهما، وإذا كان الأمر على هذا فمن الظاهر بطلان قول من يذهب إلى أن هذا الشاعر هجا قومه ومدح بني مازن يؤكد ما قلته قوله:
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
لأنه لا يقال لمن يمسك عجزًا عن الانتصار إنه غفر، ولا لمن يقدر على جزاء الإساءة إنه اختار الإحسان. فإن قيل: أليس قد قال:
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا.
وقال أيضًا:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانًا وركبانا
1 / 21
قلت: ليس يزيد شيء مما قاله على قول كبشة:
ودع عنك عمرًا إن عمرًا مسالم.
وإذا كانت أبياتها باتفاق من أصحاب المعاني لا تكون هجوًا، فكذلك أبيات هذا العنبري. ومما يشهد للطريقة التي سلكناها ويؤيدها، أن في جملة أبياته التي وصف فيها قومه:
لاخبون نيرانهم حتى إذا خمدت ... شبوا لموقد نار الحرب نيرانا
وهذا المعنى هو مثل ما افتخر به غيره في صفات نفسه فقال:
أفر من الشر في رخوة ... فكيف الفرار إذا ما اقترب
بل الذي ذكره العنبري أزيد، لأنه وصفهم بالاحتمال والصبر ما أمكن، فإذا اهتاجوا زادوا على كل هائج. ألا ترى أنه قال:
شبوا لموقد نار الحرب نيرانا
ومعنى البيت لو كنت مازنيًا لم تغر بنو اللقيطة على إبلي.
ولقيطة ألحق بها الهاء وإن كان فعيلًا في معنى مفعولة، لأنه أفرد عن الموصوف به وجعل اسمًا. وهذا كما يقال النشيطة والذبيحة، والبنية في الكعبة.
فأما الاستباحة، فقد قيل هي في معنى الإباحة، وقد قيل: إن الإباحة هي التخلية بين الشيء وبين طالبه، والاستباحة اتخاذ الشيء مباحًا للنفس. وكأن الأصل في الإباحة إظهار الشىء للمناظر ليتناوله من شاء ومنه باح بسره بوحًا وبؤحًا. والمازن في اللغة: بيض النمل، ويقال: هو يتمزن على أصحابه، كأنه يتفضل عليهم. وذهل من ذهلت عن الشىء.
إذًا لقام بنصرى معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
اللام في لقام جواب يمين مضمرة، والتقدير إذًا والله لقام " بنصرى ".
فإن قيل: فأين جواب لو كنت؟ قلت: هو لم تستبح إبلى. وفائدة إذًا هو أن هذا أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل قال له: ولواستباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال: إذًا لقام بنصرى معشر خشن. قال سيبويه: إذًا جواب وجزاء، وإذا كان كذلك فهاذا
1 / 22
البيت جواب لهذا السائل وجزاء على فعل المستبيح. ويجوز أن يكون أيضًا إذا ًلقام جواب لو، كأنهأجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حرًا لاستقبحت ما يفعله العبيد، إذًالاستحسنت ما يفعله الأحرار. وقوله إن ذو لوثة يرتفع ذو عند حذاق النحوين بفعل مضمر، الفعل الذي بعده تفسيره، وهو لان. والتقدير إن لان ذو لوثة لانا. وإنما قالوا هذا لأن إن لما كان شرطًا كان بالفعل أولى، وعمله الجزم فيجب أن لايفارق معموله في اللفظ والتقدير. وليس هذا موضع الكلام على من يجعل ذو بعد إن وما أشبهه مبتدأ. ومعنى البيت إذًا والله لقام بنصرى، أي لتكفل به قوم أشداء عند الغضب، إذا الضعيف لان. ويقال: قام بالأمر، أى تكفل به. وهو القائم والقيم. وقام بالقسط والعدل في الرعية، وقام عليه إذا ساسه ووليه، ومنه القيوم والقيام في صفات الله تعالى، وقوله " إلاما دمت عليه قائمًا " أي قاهرًا. وأقمت الرمح فقام، بمعنى قمّته فتقوم. وقوله إن ذو لوثة تعريض منه بقومه ليغضبوا ويهتاجوا لنصرته. وهو في البعث والتهيج أحسن من التصريح، كما أنه في الذم والهجو كذلك. وهذا بعض الناس رواه إن ذو لوثةٍ وزعم أن ذو لوثةٍ ليس بجيد لأن الضعيف أبدًا مهينن، والواجب أن يقول إن القوي لان، واللّوثة هي القوة. والرواية الصحيحة هي ضم اللام من اللوثة. والفائدة ما ذكرت من التعريض بقومه. ولأن يكون طرفا البيت متناولين بمعنيين متقابلين، أحسن من أن يكونا مفيدين لمعنى واحد والمعشر اسم للجماعة لا واحد له من لفظه. وقال الخليل: هو اسم لجماعةٍ أمرهم واحد. ويقال جاءوا معشر معشر، أي عشرةً عشرةً. وخشن: جمع خشن وأخشن. والحفيظة: الخصلة يحفظ لها، أي يغضب. وقيل هي الحمية، وفي المثل: الحفائظ تحلل الأحقاد وقيل أيضًا أهل الحفائظ أهل الحفاظ. وذلك أن ذا الأنف يحترس من العار، فلايزال يتحفظ ويحافظ حتى يسلم منه. وكأن الأصل في الكل الحفظ الذي هو نقيض النسيان. وقد طابق الخشونة باللين فظهرت الصنعة به، وجاد البيت له، كأنه قال معشر خشنون عند الحفيظة إن كان ذوو اللوثة لينين عندها.
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
أراد أن يصف بني مازن بما يهتاج له قومه فينصرونه، فقال: هم قوم إذا ظهر لهم الشر واشتد سارعوا إليه غير متوقعين لتجمع، ولامعرجين على تأهب، لكنهم
1 / 23
يتبادرون أفرادًا وثباتٍ، وأشتاتًا وجماعاتٍ. وإبداءٌالناجذ - وهو ضرس الحلم - مثلٌ لاشتداد الشر. ومثله قول الآخر:
فمن يك معزال اليدين، مكانه ... إذا كشرت عن نابها الحرب خامل
فأما قول عنترة:
إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
وقول الأعشى:
سعة الشدق عن الناب كلح
وقول اللآخر:
وقد أسلم الشفتان الفما
فإنما هو صفةٌ للمصطلى بنار الحرب عند اشتداد الأمر عليه. ومثله لبعض البلغاء: صار الأكس كالأروق، والمحتال كالأحمق؟ وذو البصيرة كالأخرق. ويقال: عض على ناجده، إذاصبر على الأمر. ونجدته الأمور: أحكمته. قال الشاعر:
ونجدني مداورة الشؤون.
ويقول الرجل إذا أراد أن يتشدد على صاحبه: لأربنك ناجدي! والمعنى أنه يكشر له ويكلح في وجهه حتى يبدو ناجده. ويقولون: خلته لعبوسه يبتسم، ولإقدامه ينهجم. وقال بعضهم: النواجذ: الضواحك، واحتج بحديث النبي ﷺ أنه ضحك حتى بدت نواجذه. قال: وأقاصي السنان لايبديها الضحك. والصحيح الأول، فأما الخبر فمحول على المبالغة وإن لم تبدالنواجذ. وجواب إذا طاروا. ووحدانا هو جمع واحد، وواحد صفة، كصاحب وصحبان، وراع ورعيان. ويقال طرت إلى كذا، إذا أسرعت إليه، وطرت بكذا، أى
1 / 24
سبقت به. والزرافات: الجماعات، واشتاقه من الزرف، وهو الزيادة على الشيىء. ويقال زرفت القوم قدامى، أى قدمتهم فرقًا. وحكي في الزرافة تشديد الفاء، يقال جاء القوم بزرافتهم، أي بجماعتهم؛ وهو غريب. والمعنى أنهم لحرصهم على القتال وجرأتهم، لاينتظر بعضهم بعضًا، لكن كلًا منهم يعتقد أن الإجابة تعينت عليه إذا تشدد الشر لهم. وفي طريقته قول بعض الشعراء
قومٌ إذا هتف الصريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع.
سافع: آخذ بناصية فرسه. ومنه قول الله تعالى: " لنسفعًا بالناصية ".
وقول الآخر:
وكنت إذا جارى دعا لمضوفةٍ ... أشمر حتى ينصف الساق مئزري
لايسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
الأصل في الندبة - وإن اشتهرت ببكاء الأموات وقولهم عنده: وافلاناه: - الدعاء، وتسعوا فيه فقالوا: ندب فلان لكذا وكذا، إذا نصب له ورشح للقيام به. ويقولون: تكلم فلان فانتدب له فلان، إذا عارضه. والشاعر يقول: هؤلاء القوم، يعني بني مازن، لحسن محافظتهم وقوة تناهيهم في نصرة المنتسب إليهم والمعلق حبله بحبلهم، لايسألون الواحد منهم إذادعاهم حجة على دعواه، ولايراجعونه في كيفية ماألجأه إليهم، لكنهم يعجلون الإغاثة له. وهذا تعريض منه بما لحقه من قومه أو رآه من عاداتهم عندالاستغاثة بهم. والعرب تقول: يا أخا قريش؛ والمعنى يا واحدًامنهم. ومثله:
إذا استنجدوا لم يسألما من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
وقد وصف بني مازن غير واحد من الشعراء بمثل ما وصفهم هذا الشاعر، فمن ذلك قول بعضهم:
نفسي فداء لبني مازن ... من شمس في الحرب أبطال
وقول الآخر:
فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
1 / 25
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
رجع إلى صفة قومه بما يأنفون منه عنده؛ وتدخلهم الحمية لدى الإصغاء إليه، وليس قصده ذمهم فقال: لكن قومي وإن كان فيهم كثرة عدد وعدة ليسوا من دفع الشر وإنكاره، وقصده وإرتكابه في شيء، وإن كان فيه خفة وقلة. وقد قابل الشرط بالشرط في الصدر والعجز، وطابق العدد والكثرة بالهون والخفة في الكلام، ويريد أن يصفهم بأنهم يؤثرون السلامة والعفو عن الجناة ما أمكن، ولو أرادوا الإنتقام لقدروا بعددهم وعدتهم ولكن المراقبة والتقوى تدعوهم إلى إيثار الحسنى.
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
روى بعضهم من ظلم أهل الظلم والظلم بالفتح المصدر وبالضم الاسم. وهذه الرواية عندي أحسن. وقد بينت ما فى المغفرة والإحسان من الدلالة على أنهم كانوا يقدرون على إيثار ضدهما. والظلم: انتقاص الحظ والنصيب. وقيل هو وضع الشيء في غير موضعه، ونقيضه العدل. وينتصب إحسانًا بيجزون مضمرًا، كأنه قال: ويجزون من الإساءة إحسانًا. وجاز حذفه لأن الفعل قبله يدل عليه.
كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الناس إنسانًا
الخشية والخشى والمخشاة: مصدر خشى. ويقولون: هذا المكان أخشى من ذاك، وهو نادر لأن المكان يخشى فهو مفعول. ورجل خشيان وامرأة خشيانة. وقوله سواهم من جميع الناس هو استثناء مقدم، ولو وقع موقعه لكان الكلام لم يخلق لخشيته إنسانًاسواهم فكان يجوز في سواهم البدل والإستثناء والصفة، فلما قدم بطل أن يكون بدلًا وصفةً، لأنهما لا يتقدمان علىالموصوف والمبدل منه، فبقى أن يكون استثناء. وقد نبه بهذا الكلام أن احتما لهم لاحتساب الأجر على زعمهم، وإبقاءهم في الإنتقام لخشية فوات الذخر في دعواهم، فكأن الله لم يخلق لخوفه غيرهم.
1 / 26
وقال شهل بن شيبان الزماني: ويلقب بالفند. والفند في اللغة: القطعة العظيمة من الجبل، وجمعه أفناد. قال الدرديري: لقب به لعظم شخصه. قال: وهو أحد الفرسان. وقال غيره: لقب به لأنه قال لأصحابه في يوم حرب: استندوا إلي فإني لكم فند.
صفحنا عن بني ذهل ِ ... وقلنا القوم إخوان
صفحت عنه: عفوت عن جرمه. ويقال أعرضت عن الأمر صفحًا، إذا تركته. وقد يقال: أصفحت عنه، كما يقال أضربت عنه. ويقال: أبدى لي صفحته، إذا مكنك من نفسه. يقول عفونا عن جرم هؤلاء القوم، وراعينا من الأحوال المتواشجة بيننا وبينهم، ما حملنا على الإغضاء على قبيح يتفق منهم، والتجاوز عن هفوة تحصل من جهتهم، وقلنا: إن ما بيننا وبينهم من الاخوة يقتضي الإبقاء على الحال معهم، وانتظارًا لفيئة تكون منهم. وحقيقة صفحنا عن بني ذهل: أعرضنا عنهم: وليناهم صفحة أعناقنا ووجوهنا، وهي جانبها، فلم نؤاخذهم بما كان منهم. وقال في هذا المعنى ضربنا عنهم صفحًا، وفي القرآن: " أفنضرب عنكم الذكر صفحًا ".
عسى الأيام أن يرجع ... ن قومًا كالذي كانوا
إنما نسكر قوما لأن فائدته مثل فائدة المعارف، ألاترى أنه لافصل بين أن تقول عفوت عن زيد فلعل الأيام ترد رجلًا مثل الذي كان، وبين أن تقول فلعل الأيام ترد الرجل مثل الذي كان؛ لأنك تريد في الموضعين به رجلًا أوالرجل. والمعنى فعلنا ذلك بهم رجاء أن تردهم الأيام إلى أحسن ماكانوا عليه من قبل. وعسى من أفعال المقاربة. وأن يرجعن في موضع خبر عسى، ولو قال عسى أن يرجع الأيام قوما لكان أن يرجع في موضع فاعل عسى وكان يكتفي به؛ وذلك لأن عسى لمقاربة الفعل، والفعل لابد له من الفاعل، فإذا تقدم الفعل مع أن وتبعه الفاعل فقد حصل مايطلبه، فإذا وليه الاسم بقي ينتظر الفعل وإن ارتفع ذلك الاسم به، فيجري الفعل مع أن بعده مجرى خبر كان بعد إسم كان. ومعنى يرجعن: يرددن، وهو باب فعل وفعلته. يقال رجع فلان رجوعا ومرجعًا ورجعى ورجعانًا،
1 / 27
ورجعته رجعًا. ومعنى يرجعن قومًا يرددن بأمرهم أمر قوم، وبائتلافهم ائتلاف قوم. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وخبركان محذوف كأنه قال كالذي كانوه، أي كانوا عليه قبل من الائتلاف والاتفاق. والضمير الذي أظهرناه في كانوه هو الذي تصح الصلة به، لأن الموصول لابد من أن يكون في صلته ضمير يعود إليه إذا كان اسمًا، والذي ليس يرجع إليه من كانوا شىء إلاما أبرزناه من الضمير. ومن جوز حذف الجار والمجرور من الصفة في نحوقوله تعالى: " واتقوا يومًا لاتجزى نفس عن نفس شيئا " ويقدر فيه أن الكلام لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، لا يسوغ له أن يقدر في الصلة أيضا كذلك. وإذا كان الأمر على هذا فلا يجوز أن يكون التقدير يرجعن قومًا كالذي كانوا عليه، لأن مثل عليه لايجوز حذفه من الصلة، لاتقول الذي مررت جالس، وأنت تريد مررت به، والذي دخلت منطلق، وأنت تريد الذي دخلت عليه. وبمثل هذا توصل من زعم في الآية أن التقدير: واتقوا يومًا لاتجزيه نفس عن نفس شيئا، لأنه قال: الصفة كالصلة، فكما لا يجوز حذف فيه وأشباهه من الصلة، كذلك لا يجوز حذفها من الصفة، فاعلمه. ويجوز أن يكون قوله كالذي كانوا، أراد كالذين كانوا، وحذف النون تخفيفا، كما قال:
إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
فيكون المعنى يرجعن بهم قومًا كالذين كانوا من قبل. وفي هذا الوجه يجوز أن يجعل الذي للجنس، كما قال الله تعالى: " والذي جاء بالصدق وصدق به " ثم قال " أولئك هم المتقون "، والفصل بين هذا الوجه وبين الوجه الأول أنه أمّل في الوجه الأول أنهم إذا عفوا عنهم أدبتهم الأيام وردت أحوالهم في التواد والتحاب كأحوالهم فيما مضى، وأزالت من فساد ذات البين ما اعترض بسوء عشرتهم. وفي الوجه الثاني أمّل أن ترجع الأيام أنفسهم إذا صفحوا عنهم كما عهدت: سلامة صدور، وكرم اعتقاد وعهود.
فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان
فائدة أمسى وأصبح وظل وبات في مثل هذا المكان على حد الفائدة في صار لو وقع موقعها، ألا ترى قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا "، والبشارة بالأنثى تقع ليلًاو نهارا. وكذلك تقول: أصبحوا خاسرين وأمسوا نادمين، وإن كانوا في كل أوقاتهم على ذلك. " ولما " علم للظرف،
1 / 28
وهو لوقوع الشئ لوقوع غيره، ولهذا لابد له من جواب. ويقال صرح الشيء إذا كشف عنه وأظهره، وصرح هو إذا انكشف. ومثله بين الشئ وبين هو، وفي المثل قد يبين الصبح لذى عينيت. وفعل بمعنى تفعل واسع، يقال وجهه بمعنى توجه، وقدم بمعنىتقدم، ونبه بمعنى تنبه، ونكب بمعنى تنكب. فيقول: لما ظهر الشر كل الظهور وصار بحيث لايستره شئ ولم يبق بيننا وبينهم سوى الصبر على الظلم الصريح. والمعنى أنهم لما تجاوز الأحوال المتشابكة، والأخذ بالإنصاف والمعدلة، إلى استعمال الظلم ورفع الحشمة، حينئذ جازيناهم بمثل ما ابتدءونا. وذكر العريان مثل لظهور الشر. وقد اشتمل هذا الكلام على تفسير البيت الذي يتلوه، وهو قوله:
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
العدوان والعداء والعدو: الظلم. وأما قوله دناهم كما دانوا، والأول ليس بجزاء، فهذا لميلهم إلى المطابقة والموافقة، وإخراج اللفظ في معرض صاحبه ليعلم أنه جزاؤه على حده وقدره، أو ابتداؤه. وعلى ذلك قوله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " و" الله يستهزئ بهم " وما أشبهه. وجواب لما صرح دناهم. وقوله في البيت التالي هو تفصيل لما أجمله قوله دناهم، لأنه فسر كيف كان ذلك الجزاء. والدين لفظة مشتركة في عدة معان: الجزاء، والعادة، والطاعة، والحساب. وهو ها هنا الجزاء. ويقولون: كما تدين تدان أي كما تصنع يصنع بك.
مشينا مشية الليث ... غدا والليث غضبان
كرر الليث ولم يأت بضميره تفخيمًا وتهويلًا، وهم يفعلون ذلك في أسماء الأجناس والأحلام. قال عدي:
لا أرى الموت بسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فيقول: سعينا إليهم مشية الأسد ابتكر وهو جائع، وكنى عن الجوع بالغضب لأنه يصحبه. وهذا التشبيه أخرج ما لا قوة له في التصور إلى ما له قوة فيه، ومن روى عدا على أن يكون من العدوان فليست روايته بحسنة، لأن الليث في أكثر أحواله ظالم عاد. والمشية: اسم الحالة التي يكون عليها الماشي في مشيه، والمشية
1 / 29
المرة الواحدة، والفعل يتعدى إلى كل واحد منهما. والليث من أسماء الأسد. ويقال: استليث الرجل، إذ اشتد وقوي.
بضرب فيه توهي ... ن وتخضيع وإقران
تعلق الباء منه بمشينا، أي مشينا بضرب في ذلك الضرب تضعيف للمضروب به، وتذليل ولين. ويجوز أن يكون المعنى فيه توهين وصوت في القطع وكسر العظام وإطاقة وقوة. ويكون حينئذ تخضيع من الخضعة والخضيعة وهما اختلاط الصوت في الحرب. ومنه خضيعة بطن الفرس، قال الأصمعي: يقال للسياط خضعة لا أدري أمن الصوت هو أن من القطع. وقد روى بعضهم:
والضاربين الهام تحت الخضيعة
وقال: هي السيوف. وإقران من قولهم: أقرن فلان، أي أطاق. قال الله تعالى: " وما كنا له مقرنين ". وفي الأول إقران من قولهم: أقرن الدمل، إذا نضج ولان. ويقال استقرن الحبن أيضًا. وتخضيع من الخضوع يكون، وهو الذل. ويقال خضع الرجل وأخضع، إذا لين كلامه للنساء. وفي الحديث: نهى أن يخضع الرجل لغير امرأته، أي يلين كلامه.
وطعن كفم الزق ... غذا والزق ملآن
كرر ذكر الزق كما كرر ذكر الليث فيما قبله. وهذا الوصف أبلغ من قول النابغة:
وطعن كإيزاع المخاض الضوارب
1 / 30
وهذا التشبيه أبرز ما يقل في الاعتياد في صورة من يكثر فيه: ومثله:
فجبهناهم بضرب كما يخ ... رج من خربة المزاد الماء
أي وبطعن في اتساعه وخروج الدم منه كفم الزق إذا سال بما فيه وهو مملوء. وغذا يغذو غذاوًّا، إذا سال. وغذاه يغذوه غذوًا. والاسم الغذاء. فأما قول الهذلي:
فالطعن شغشة والضرب هيقعة
فهو حكاية صوت الوقع، وقوله غذا في موضع النصب على الحال، والأجود أن يجعل قد مضمرة.
وبعض الحلم عند الجه ... ل للذلة إذعان
يعتذر من تركهم التحلم مع الأوداء والأقارب، لما كان مفضيًا إلى اكساء ذل، واكتساب خضوع وعار. والتقدير: بعض الحلم إذعان للذلة عند جهل الجاهل. وهذا إذا توهم أن المحتمل إنما فعل ما فعله خوفًا وعجزًا؛ لاميلا منه إلى التجاوز والإغضاء واستبقاء الأخوة والوداد. ويقال: أذعن لكذا: إذا انقادله. ومنه ناقة مذعان. وأذعن بكذا: أقر به.
وفي الشر نجاة حي ... ن لا ينجيك إحسان
قوله في الشر نجاة أراد: وفي دفع الشر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يريد: وفي عمل الشر نجاة، كأنه يريد وفي الإساءة مخلص إذا لم يخلصك الإحسان. وهذا مثل قولهم: الطعن يظأر أي يعطف، ن وكما قال زهير:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... مطيع العوالي ركبت كل لهذم
وهذا الكلام يجري منه مجرى الإعتذار مما أجرى إليه مع القوم، فاعلمه ويقولون أيضًا: من لم تقومه الكرامة قومته الإهانة.
1 / 31
وقال أبو الغول الطهوي: الغول مأخوذ من غاله يغوله غولًا، إذا أهلكه. وهم يسمون كل داهية غولًا. وبذلك سموا الشيطان والحية غولًا. والغيلان عندهم سحرة الجن. قال:
كما تلون في أثوابها الغول
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني
لفظه لفظ الخبر. والمعنى معنى الدعاء. يقول: تفدى نفسي مالي أجمع فوارس يكونون عند الظن بهم في الحرب، وقد روى آخر البيت على وجوه تتقارب معانيها. روى: فوارس صدقت فيهم ظنوني. ويكون ظنوني في موضع رفع بصدقت وبروى: صدقت فيهم ظنوني بفتح الصاد. وتضعيف عين الفعل يدل على التكثير. وظنوني يرتفع بالفعل. وتخصيص اليمين في قوله: وما ملكت يميني لفضلها وقوة التصرف بها. وهم يقيمون البعض مقام الجملة فينسبون إليه الأحداث والأخبار كثيرًا، على ذلك قوله تعالى: " فظلت أعناقهم لها خاضعين ". وقولهم: عذت بحقو فلان. وهو عبد المقذ، وحر الوجه، ولئيم القفا وما أاشبهه. وفي القرآن: " أو ما ملكت أيمانكم ". وفوارس شاذ في الجموع عند سيبويه، لأن فواعل إنما تكون جمع فاعلة في صفات ما يعقل دون فاعل، واستدرك علىسيبويه هالك في الهوالك. وبيت الفرزدق:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار
1 / 32
وبيت عتيبة بن الحارث:
ومثلي في غوائبكم قليل
وقال أبو العباس المبرد: هو الأصل في جميعه، ن ويجوز في الشعر.
فوارس لا يملون المنايا ... إذا دارت رحى الحرب الزبون
مللت الشيء أمله ملالًا وملالة ومللًا، إذا سئمته. ويقال: فلان ذو ملة طرف، إذا ضجر بشيء فتطرفه. قال:
إنك والله لذو ملة
ويجوز الرفع في فوارس على أن يكون خبر ابتداء مضمر، كأنه قال: هم فوارس. ويجوز النصب فيه على أن يكون بدلًا من فوارس الأولى، ولا يملون في موضع الصفة للفوارس. والمعنى فدت نفسي فوارس لا يضجرون بمكايدة الحرب ومقاساة الشدائد فيها، ولا يكرهون المقاتلة إذا دارت رحى الحرب بأهلها. والزبون: الدفوع، ومنه الزبانية. وإنما شبه الحرب بالناقة الزبون فوصف بصفتها، وهي التي تزبن حالبها وتدفعه برجلها. قال:
تزبن بالخفاف والمناسم ... عن ذروة تخضب كف الهاشم
ويقولون: ثبت فلان في رحى الحرب، أي حيث دارت رحاها. ومنية ومنايا، كصحيفة وصحائف، والأصل منائي فاستثقلت الضمة في الياء فحذفت ثم فروا من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت الياء ألفًا فصار مناءا، فأبدلوا من الهمزة لتوسطها ألفين ياء فصار منايا.
ولايجزون من حسن بسيء ... ولايجزون من غلظ بلين
هذا الكلام من صفة الفوارس. يريد أنهم يعرفون مجاري الأمور ومقادير الأحوال فيوازنون الخشن بالخشن واللين باللين، كما قال الآخر:
تجازى الوافي بكيل واف ... ملآن والطفاف بالطفاف
1 / 33
وقوله بسيء أراد بسيٍ فخفف، كما قالوا في هين هين وفي لين لين. وروى بعضهم: بسي والمعنى أنهم يزيدون في الحزاء على قدر الابتداء. وليس ذلك بشيء لأن سيء في مقابلة حسن، كما أن اللين في مقابلة الغلظ، وفي العدول عنه إلىسيٍ إخلال بالتقابل، والبيت إنما حسن به.
ولا تبلى بسالتهم وإنهم ... صلوا بالحرب حينًا بعد حين
يقال: بلي الثوب يبلى بلى وبلاء، ويستعار فيقال: لبست فلانًا وبليته، إذا اسيمتعت به وتمليته. وإنما يصفهم بلاستمرار على حالة واحدة في مزاولة الحرب، وأن شجاعتهم لاتنقص ولاتبلى عند امتداد الشر، واتصال البلاء. والبسالة توصف بها الأسد والرجال، يقال أسد باسل وبسول. كما يقال رجل باسل وبسول. قال امرؤ القيس:
ما غركم بالأسد الباسل
وصلوا هو من صليت بكذا أي منيت به، وهو من الفعل فعلوا بكسر العين، ولهذا انضم اللام من صلوا، ولو كان فعلوا بفتح العين لقيل صلوا، كما قيل دعوا ورموا. فإن قيل: فأين جواب الشرط في قوله وإن هم صلوا بالحرب؟ قيل: هو متقدم، والتقدير إن صلوا ومنوا بالحرب لم تخلق شجاعتهم. وفصل بين الفعل وإن ب هم، لأنه ماض لم يظهر فيه أثر إن بالجزم. ولو كان مستقبلًا لظهر الجزم فيه، ولما حسن الفصل بينه وبين إن بالإسم. يقبح أن يقال إن زيد يأتني أكرمه، وتقول إن الله أقدرني على زيد فعلت به كذا. وهذا شيء يجوز في إن دون سائر حروف الجزاء، لأنه الاصل في الجزاء والحرف الذي لايزول عنه. وروى بعضهم: ولا تبلى بسالتهم من بلوته إذا اختبرته، ويكون المعنى لا يمكن اختبار شجاعتهم فيعرف غورها ومنتهاها على مر الأزمان، واختلاف الأحوال.
هم منعوا حمى الوقبى بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون
1 / 34
قوله بضرب يؤلف وقد وقع المنع والضرب جميعًا حكاية حال، لولا ذلك لقال: بضرب ألف. ومثله في القرآن: " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ". يقول: هؤلاء القوم الذين أشرت إليهم بقولي: فوارس صدقوا فيهم ظنوني، هم الذين منعوا حمى هذا المكان بضرب يجمع بين المنايا المتفرقة. وهذا تقييد بعد إطلاق، وتخصيص بعد تعميم: والحمى: موضع الماء والكلأ. ويقال: أحميت المكان، أي جعلته حمى. وحميته: ذببت عنه. وقوله يؤلف من صفة الضرب، ويحتمل وجوهًا: ويجوز أن يكون المعنى إن هؤلاء لو بقوا في أماكنهم ولم يجتمعوا في هذه المعركة لوقعت موتاهم متفرقة في أمكنة متغايرة، وأزمنة متفاوتة، فلما اجتمعوا تحت الضرب الذي وصفه صار الضرب جامعًا لتلك المنايا ووجوهها. وحكي عن أبي سعيد الضرير أن المعنى إذا وقع بهم ألف بين أقدارهم التي قدرت عليهم. ويجوز أن يكون المعنى أن أسباب الموت مختلفة، وكأن هذا الضرب جمع بين الأسباب كلها. ويجوز أن يكون المراد ضربًا لا ينفس المضروب ولا يمهله، لأنه جمع فرق الموت له. وقوله أشتاب المنون واحدها شت. والمنون: الموت، وهو من مننت أي قطعت.
فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون
نكب قد جاء متعديًا إلى مفعولين، قال أوس:
نكبتها ماءهم لما رأيتهم ... صهب السبال بأيديهم بيازير
والأكثر نكبت عن كذا. يقول: حرف عن هؤلاء القوم هذا الضرب اعوجاج الأعداء وخلافهم، وداووا الشر بالشر. وهذا كما يقال: الحديد بالحديد يفلح. وكما قيل: لايفل الحديد إلا الحديد. وأصل النكب: الميل، ولذلك يقال نكبت الإناء، إذا أملته. ونكب الرجل نكبةً. وعلى هذا النكباء في صفة الريح: والدرء، أصله الدفع، ثم استعمل في الخلاف، لأن المختلفين يتدافعان. ومثله:
وقومت عنه درأه فتنكبا
1 / 35
ولا يرعون أكناف الهويني ... إذا حلوا ولا أرض الهدون
يروى: ولا روض الهدون، وهو أفصح. والهدون: الصلح والسكون. وفي الحديث: هدنة على دخن، أي صلح على فساد دخيلة. يصفهم بالميل إلى الشر، والحرص على القتال والقتل، وأنهم يؤثرون جانب الخصومة على الصلح، وناحية الذعر على السكون، فيقول: الخصال السهلة والأمور الهينة، ولا ينزلون منازل الأمن والراحة. والهوينى: تصغير الهونى، و: تأنيث الأهوان. ويجوز أن يكون الهونى فعلى اسمًا مبنيًا من الهينة، وهي السكون. ولا تجعله تأنيث الأهون.
وقال جعفر بن علبة الحارثي:
ألهفى بقرى سحبل حين أحلبت ... علينا الولايا والعدو المباسل
التلهف يكون على الفائت بعد الإشراف عليه، يقولون: وا لهفاه، ووا لهف أماه. ولهف نفسه وأمه إذا قال ذلك. وفي المثل: إلى أمه يلهف اللهفان. وقوله ألهفى يجوز أن يكون منادى مفردا، ويجوز أن يكون مضافًا. فإذا جعلته مضافًا فإن أصله ألهفى أو ألهف. فإذا كان ألهفى فكأنه فر من الكسرة وبعدها ياء إلى الفتحة فانقلبت ألفا. وعلى ذلك يا غلاما أقبل. وقوله:
وهل جزع أن قلت وا بأباهما
وإنما، المعنى بأبى هما، وعلى ذلك طريقتهم في مدارى ومدارى، وعذارى وعذارى، وصحارى وصحارى، وفى بقى بقى، وفى رضى رضى. وإذا كان ألهف يكون الألف قد زيدت لامتداد الصوت به ليكون أدل على التحسر. وكذا إن جعلته ألهف مفردًا يكون الألف زيدت لذلك. ومعنى " أحلبت ": أعانت. وأصله الإعانة في الحلب خاصة، ثم استمرت في الإعانات كلها. وقد يكون الشيء مختصًا في الأصل ثم يصير بالعرف عامًا، كما قد يكون عامًا في الأصل ثم يصير به مختصًا. وروي: " الولايا " وهي جمع الولية، وهي البرذعة، وهي تكون كنايةً عن النساء إن شئت، وعن الضعفاء الذين لا غناء عندهم إن شئت. ويشبه هذا قول أم تأبط شرًا تؤبنه: " وا ابناه ليس بعلفوف، حشي من صوف، تلفه هوف ". وقولهم " هو كالحلس
1 / 36
الملقى ". ويروى: " الموالي " ومعنى البيت أنه يتلهف لما نزل بهم في الموضع الذي ذكره حين أعان الأعداء عليهم كون الحرم معهم أو من يجري مجرى الحرم من الضعفاء الذين لا دفاع بهم؛ لما وجب عليهم من الذب عنهم، والاشتغال بالحماية عليهم. ومن روى الموالي - وهم أبناء العم - فإنما خصهم بالذكر لأن الجفاء منهم أشد تأثيرًا في النفس. ألا ترى أن من كان بنو عمه عليه فهو كمن قوتل بسلاحه، ألا ترى إلى قول الآخر حيث يقول:
مخافة جورٍ من أميرٍ مسلطٍ ... ورهطي وما عاداك مثل الأقارب
والعدو إشارة إلى الجنس. والمباسل، من البسالة. وأجراه على لفظ العدو لا على معناه. وفي القرآن: " فإنهم عدوٌ لي إلا رب العالمين ".
فقالوا لنا ثنتان لا بد منهما ... صدور رماحٍ أشرعت أو سلاسل
التاء في " ثنتان " كالتاء في بنتان، إلا أنه لم يستعمل واحده كما استعمل بنت. وكذلك التاء في اثنتان كالتاء في ابنتان إلا أنهم لم يقولوا اثنةٌ كما قالوا ابنة. والشاعر حكى كما دار بينهم عند الالتقاء فيقول: أدارنا أعداؤنا على خصلتين حكمواعلينا بهما، وخيرونا فيهما، وهو الاستسلام الذي آخره الأسر، أو القتل الذي أوله الامتناع والدفع. وقوله " ثنتان " أراد خصلتان اثنتان، ثم فسرهما بقثوله " صدور رماح أشرعت " وخص الصدور لأن المقاتلة بها تقع، ويجوز أن يكون ذكر الصدور وإن كان المراد الكل كما قال:
الواطئين على صدور نعالهم
وإن كان الوطء للصدور والأعجاز. وكنى عن الأسر بالسلاسل. وقوله " لا بد منهما " أراد لا بد منهما على طريق التعاقب لا على طريق الجمع بينهما، وإلا سقط التخيير الذي أفاده " أو " من قوله " أو سلاسل ". ألا ترى أنه إذا قال خذ الدينار أو الثوب، وكل السمك أو اشرب اللبن، فليس فيه الجمع بينهما. وإذا كان الأمر على هذا فالمعنى لا بد من إحداهما. و" أشرعت ": هيئت للطعن. وكذلك شرعت. ويستعمل في السيف أيضًا وكان الأصل فيه مشارع المياه. وفي المثل: " أهون الورد التشريع "، أي إيراد الشريعة.
1 / 37
فقلنا لهم تلكم إذًا بعد كرةٍ ... تغادر صرعى نوءها متخاذل
يقول: أجبناهم وقلنا تلكم، " أي تلك " التخييرة وذلك التحكم. ولا يجوز أن تكون الإشارة بتلكم إلى واحدة من هاتين الخصلتين اللتين تقدم ذكرهما، لأنه لا اختيار فيهما لمختارٍ حكمه حكم هؤلاء، إلا أن يكون الكلام على طريق التهكم والسخرية. والمعنى إنما يكون ذلك بعد عطفةٍ وجلوٍ تترك بيننا قومًا مصروعين يخذلهم النهوض ولا يطيقون الحراك. وإذًا، هو جوابٌ وجزاءٌ، وهو ملغىً هاهنا. وكم من تلكم للخطاب لا للضمير، فلا موضع له من الإعراب. واختار أن يقول " متخاذل " لأن هذا النباء يختص بما يحدث شيئًا بعد شيء. على ذلك قولهم تداعى البناء كأن أجزاء النمهوض يخذل بعضها بعضًا فلا يكمل، وكأنه أنكر عليهم الاشترط والتحكم والإلجاء منهم إلى ذلك، فقال: يسوغ متا ابتدأتم فيه لكم بعد جولةٍ يتعقبها هذا الأمر. ويجوز أن يكون الحكم والتخيير بقوله " ثنتان لا بد منها " وقع بين الحرب والاستئسار، لا القتل والاستئصال، فاختاروا المحاربة. والإشارة بقوله تلكم حينئذ يجوز أن تكون على ما قدمته، ويجوز أنم تكون إلى ما دل عليه قوله أو سلاسل، من الأسر فكأنه قال: الخصلة الثانية نؤخرها وننظر في الأولى ماذا ينتتج منها. وقوله " تغادرصفةٌ للكرة، وقوله " نوءها " الضمير يعود إلى صرعى، والجمع مآله إلى التأنيث، ولو قال نوءهم لكان أحسن. والنوء: النهوض، وهو أصل المناوأة، وإن اشتهرت في المعاداة. ويكون النوء: السقوط أيضًا. ويشبه هذا قول الآخر:
ينوء بصدره والرمح فيه
ولم ندر إن جضنا من الموت جيضةً ... كم العمر باقٍ والمدى متطاول
جاض عن قرنه وحاص بمعنىً، أي عدل وانحرف. والعمر والعمر لغتان: الحياة والبقاء. ومنه قولهم: لعمر الله، وعمرك الله. إلا أنه في اليمين لا يستعمل إلا بفتح العين. وقوله " كم العمر " في موضع الظرف، والمعنى كم يومًا أو وقتًا العمر باقٍ. وارتفع العمر بالابتداء. والواو في وقته " والمدى متطاول " واو الحال، أي كم العمر باقٍ ومداه متطاول. ولم يأت بالضمير لأن الواو أغنى عنه، والمعنى لم نعلم إن عدلنا عن الحرب عدلةً كم بقي من أعمارنا، وغايات العمر ممتدة مبهمة حتى لا ينتهي أحدٌ منها إلى حد إلا وكما يرجو أن يتصل بعده أيضًا لا يأمن أن ينقطع، فكأنه قال: إذا كان الحال في الأعمار على هذا أبدًا فلا معنى للعدول عن الحرب، إذ لا
1 / 38