فانحنى انحناء الطاعة وقال: «وهل للعبد رأي بين يدي مولاه؟ إنما يأمره فيفعل.»
فقبض على أنامل عماد الدين بكفيه وأمره أن ينظر في عينيه ثم قال له: «أريد يا عبد الجبار أن تقتل الشيخ سليمان اللعين. تقتله وتخمد أنفاسه هكذا أريد.»
فأحس عماد الدين عند سماع ذلك الصوت على هذا الشكل بقشعريرة جرت في عروقه، وكأن شرارة كهربائية تطايرت أمام بصره. فأغمض جفنيه رغم إرادته. فقال راشد الدين: «قد أحسنت يا عبد الجبار (عماد الدين) إنك فاعل ما أريد، وسوف تنال جزاء أمانتك. واعلم أنك منذ الآن خادم لسليمان أو الشيخ سليمان كما يسمونه. فالبس لباس الخدم وغير قيافتك وابذل جهدك في إرضائه حتى تغتنم منه غرة تقتله فيها ولا يشعر أحد بك. وأحب أن يكون ذلك خارج القلعة. وأنت عند ذلك من طبقة المستنيرين.» ثم أدنى شفتيه من أذنه وقال له: «ومع الرجل امرأة بارعة في الجمال ستكون غنيمة لك مع سائر ما يمتلكه من أثاث وغيره. ويمكنك التعويل على صديقك ولدنا عبد الرحيم في بعض التفصيل. وهذا يكفي، امض الآن إلى نائبنا الشيخ دبوس وهو يتم تجهيزك بما يلزم.» قال ذلك وترك أنامله، فودعه وخرج وهو يرتجف من عظم التأثر وأخذ يفكر فيمن عساه أن يكون سليمان هذا. ولم يهمه أن تكون امرأته جميلة وهو لا يرضى من سيدة الملك بديلا.
سار توا إلى الشيخ دبوس ولم يحتج في تفهيمه إلى كلام؛ لأن هذا كان على بينة مما يطلب منه فحال دخوله عليه قال له: «ادخل يا عبد الجبار واقفل الباب.»
فدخل ونهض الشيخ دبوس بنفسه فأعطاه لباس الخدم وأصلح شعره وقيافته بحيث تغير شكله كثيرا ودفع إليه كتابا وقال له: «تأخذ هذا الكتاب إلى ذلك المنزل وتكون خادما لصاحبه كما أمرك مولانا الشيخ الأكبر، أفهمت؟»
فأشار مطيعا وخرج وهو كالخادم تماما. وقبل خروجه نظر إلى وجهه في المرآة فأنكر نفسه. ونظر في بطاقة الشيخ دبوس إلى سليمان وهو يتردد في ذهابه ويقول في نفسه: «كيف أقتل هذا الرجل ولا ثأر بيني وبينه؟» ثم خطر له قول عبد الرحيم إنه سيجد في قتله راحة فوقع في حيرة.
وما عتم أن وصل إلى المنزل الذي ذكروه له فوجد الباب مقفلا فأخذ في البحث عن الشيخ سليمان في ذلك الجوار فلم يقف له على خبر، فقعد على صخر في ظل البيت ينتظر قدومه لعله ذهب في حاجة لا يلبث أن يعود منها. واستغرق في هواجسه وتفقد الخنجر الذي خبأه في ثوبه لاستعماله عند سنوح الفرصة. لكنه ما زال يتردد في أمر القتل.
وفيما هو في ذلك إذ رأى رجلا قادما عن بعد وعلى رأسه عمامة خضراء اللون كبيرة الحجم وقد أرسل شعره تحتها حول رأسه إلى كتفيه، وتزمل بجبة طويلة وعلق في صدره سبحة طويلة وحمل سبحة أخرى بيده يعدد حباتها ويتمتم كأنه يصلي أو يدعو كما يفعل المنقطعون عن العالم إلى الصلوات والدعوات، فتحقق أنه الشيخ سليمان لا محالة، فجعل يراقب حركاته وهو قادم حتى دنا منه فتقدم إليه وهم بتقبيل يديه ودفع إليه بطاقة الشيخ دبوس فتناولها وفضها وقرأها وهو لم ينظر إلى عماد الدين بعد. فلما أتم قراءتها رفع بصره إليه وقال: «يقول أخونا الشيخ دبوس إن مولانا الشيخ الأكبر بعثك لخدمتنا.»
قال: «نعم يا سيدي، وهل يتم لي هذا الحظ؟»
قال: «إنني في غنى عن الخدم؛ لأني أحب الخلوة بنفسي للصلاة والدعاء وطعامنا يأتينا من مطبخ الجماعة. فما هي الحاجة إلى الخدم؟»
صفحة غير معروفة