168

ساعات بين الكتب

تصانيف

Humour

على خلاف الشعر الإنجليزي الذي تتلاقي فيه الفكاهة والذكاء، ويتجارى فيه أصحاب النكات الذكية وأصحاب الفكاهات العاطفية؛ ولا يخفى أن هذه النكات مرجعها إلى الفهم، وأن تلك الفكاهات مرجعها إلى سعة العطف، وتعدد جوانب الشعور.

وقد يدخل في هذا الفرق أيضا - أي في دوران الشعر العربي على الحس ودوران الشعر الإنجليزي على العطف والخيال - أنك ترى الارتباط قليلا بين معاني القصيدة العربية، ولا ترى قصيدة إنجليزية تخلو من رابطة تجمع أبياتها على موضوع واحد، أو موضوعات متناسقة، ومن هنا كانت وحدة الشعر عندنا البيت، وكانت وحدته عندهم القصيدة، فالأبيات العربية طفرة بعد طفرة، والأبيات الإنجليزية موجة تدخل في موجة لا تنفصل من التيار المتسلسل الفياض؛ وسبب ذلك كما قدمت هو أن الحس لا يربط بين المعاني، وإنما يربط بينها التصور والعاطفة والملكة الشاعرة، فإذا تعود الإنسان أن يتصور وأن يعطف وأن يشعر، تعود أن يدرك المعاني الواسعة والسوانح النفسية التي تتعدد فيها الظلال والجوانب والدرجات ، فيأتي بالفكرة لا يستوعبها البيت، ولا يغني فيها الاقتضاب، وإذا هو لم يتعود إلا أن ينقل عن الحواس الظاهرة وقف إدراكه عند المتفرقات، فأغنته طفرة البيت عن تماسك الأبيات.

ومن الفروق بين الشعرين أن الفردية غالبة على شعر العرب، والاجتماعية غالبة على شعر الإنجليز، فالعواطف التي في الشعر العربي هي العواطف البسيطة الساذجة في غير تركيب ولا تنويع، ويندر أن تجد فيه أثرا للعواطف المنوعة المتشابكة التي تتولد من قدم الحضارة، وألفة التعاون، وتكاليف الاجتماع، وكثرة اختبار النفوس للنفوس في مختلف الأحوال والأطوار، فالشاعر الإنجليزي إذا وصف الحياة الإنسانية وصف حياة ضافية تتسع لمقامات المجتمع، وأشتات دواعيه، وتكاليفه، وآداب طبقاته وأفراده، ودخائل عقائده وثقافاته، مما لا تتسع له حياة القبيلة أو الحياة الحضرية التي ما تزال على أوضاع القبيلة، أما الشاعر العربي فعلاقة الإنسان عنده بالإنسان محدودة وأسرار النفوس عنه محجوبة مسدودة، وسذاجة العواطف خصلة ملازمة له مذ كان التركيب في هذه العواطف لا يأتي إلا من تركيب العلاقات بين الناس في بيئات الحضارة؛ وربما جاء من هنا - ومن بعض الأسباب المتقدمة - ظهور الروايات التمثيلية والقصصية في الأدب الإنجليزي، وامتناعها في الأدب العربي، وربما جاءت منه أيضا سذاجة المدح العربي التي لا تشبهها سذاجة مروية في الآداب الأوربية؛ فقد لجأ الشعراء في كل أمة إلى الأمراء والسروات، وأخذوا من جاههم ونوالهم، ولكنك لا ترى مدحا كهذا المدح الفردي المفتوح إلا في الشعر العربي، حيث لا يرضي المادح أميره إلا إذا وصف شخصه وأطنب في وصفه بأحب الصفات إليه، كما يفعل الطفل حين يمدحك، ويمد يده إلى السكرة التي في يدك وهو لا يكتم عنك أنه يقول الكلمة الطيبة؛ ليأخذ على أثرها السكرة الحلوة، فلا لباقة ولا تفنن في الإرضاء والثناء، وإنما هو المديح على أسذج ما تراه في طفولة الفطرة، وقد تتصور هذا حيث تكون العلاقات الفردية هي الغالبة، والمدائح الفردية هي المطلوبة، ولكننا لا نتصوره حين تنشأ للتكاليف المدنية علاقات، ولباقات، وآداب، تترقى بصناعة التنويه والمدح من هذه السذاجة إلى شيء من التفنن والتنويع، فإذا وقفت أنا المادح وأنت الممدوح فردا أمام فرد فليس لي سبيل إلى غير الثناء على شخصك وتمليق سمعك، وإعلان شكرك، ولكني إذا وقفت أنا شاعر الأمة أمام أمير الأمة، فقد يجزئني في إرضائه وإرضاء الناس عنه أن أعلن فخار الأمة وأجعله هو مناط ذلك الإعلان وعنوان ذلك الفخار، وقد وجد من شعراء القبائل من نحا هذا النحو وطاف على الأمراء والفقراء يستأديهم ثمن ثنائه، وتمجيد آبائه، ولكنها فلتات لا يقاس عليها في جميع الأحوال.

هذه هي الخطوط الكبيرة في رسم الفوارق التي بين روح الشعر العربي وروح الشعر الإنجليزي، وهناك خطوط صغيرة قد تظهر في شاعر شاعر أو عصر عصر، فلا يتيسر تقييدها وحصر أسبابها إلا إذا تيسر تقييد جميع الفوارق الدقيقة بين الأشعار، وهو غير متيسر في هذه الموجزات؛ لأن هذه الفوارق مما يصح أن يلحظ بين شعراء اللغة الواحدة، بل بين قصائد الشعر الواحد في عهدين من عهود العمر، أو حالين من حالات القريحة والشعور.

نقد غريب1

جاءتني رسالة من بغداد بتوقيع «أكرم أحمد» يقول فيها: إن أناسا في المدينة يمشون بالدسيسة بيني وبين الأستاذ الزهاوي من جديد؛ لأنهم كتبوا إلي يزعمون أن ما نشرته «لغة العرب» في نقد ديواني إنما كتبه الأستاذ الزهاوي انتقاما لنفسه مما كتبته عنه في البلاغ الأسبوعي قبل أشهر، ويقول صاحب الرسالة: إنهم كاذبون فيما زعموا وإن الأب أنستاس الكرملي صاحب «لغة العرب» ليس بالرجل الذي يدعي لنفسه كلام الآخرين، وإن أناسا اقترحوا على الأستاذ الزهاوي أن ينقد ديواني؛ فأبى مخافة أن يجيء نقده على غير ما يريد من النزاهة والإنصاف، فحبذا لو أعرضت عن هذه الوشايات، وقابلتها بفصل أو فصول أكتبها عن «اللباب» ديوان الزهاوي الجديد، ويتبعها الزهاوي بفصول يكتبها عن ديواني، فينقطع بذلك القال والقيل، ولأكن البادئ بالكتابة عن اللباب؛ لأنني أنا البادئ بالتحامل على صاحب اللباب، كما يقول كاتب الرسالة الأديب.

هذه خلاصة الرسالة التي جاءتني من بغداد ولم أكن قد اطلعت على «لغة العرب » ولا رأيت عددا من أعدادها إلى ذلك الحين، فبعثت في طلبها ممن عسى أن ترد إليه، فإذا هي مجلة تطبع بالحرف الدقيق، وإذا فيها فصل يقع في زهاء ثماني صفحات نقدا لديواني مستهلا بهذه العبارة: «الأستاذ العقاد كاتب كبير، وكنا نعتقد أنه كذلك شاعر كبير حتى جاءنا ديوانه الجديد حافلا بما نظمه قديما وحديثا، فإذا هو دون ما أكبره تصورنا، وإذا هو مشحون بالأغلاط والضرورات القبيحة، وإذا هو قبر للألفاظ الميتة دارس، فيه كثير من العظام البالية، وإذا هو تافه المعاني في الأكثر، وإذا هو في كثير من قصيده يخرج عن الموضوع، فلا تبقى فيه الوحدة المتوخاة منه، وإذا هو يبالغ أو يغرق في كثير من أبياته، وإذا هو يقلد القدماء فليس فيه ما يمت إلى الشعور بواشجة إلا أبياتا قليلة متفرقة هنا وهناك، وكنا نراه قبل نشره ديوانه يطعن في مواهب كبار الشعراء، بل كان ينال من كل شاعر عربي تقريبا مصريا كان أو شاميا أو عراقيا؛ فما كنا نفهم علة ذلك بعد سكوته الطويل عن الشعر والشعراء، حتى ظهر ديوانه العجيب فأدركنا السر إلخ ... إلخ.»

هذه غريبة في النقد النزيه! وليس من شأني أنا أن أعزو هذا الكلام إلى أحد غير صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، فإن النقد هو الذي يعنيني وليس الكاتب، ولا من أوعز إليه، وقد صدر النقد في مجلة لم تنسبه إلى أحد، فهو لها إذن وهي راضية عنه موافقة عليه. غير أني أعجب والله لصدور نقد كهذا من مجلة يقال عن صاحبها: إنه كثير الاشتغال بالعربية واسع الاطلاع على قواعدها النحوية والصرفية، فإن في نقده لغطا فاحشا لا يقع فيه من له إلمام بهذه القواعد، واطلاع عليها ولو كاطلاع التلاميذ المبتدئين، ولست أعرف معرفة اليقين ما الأب «أنستاس ماري الكرملي» صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، ولكني كنت سمعت من صاحب لي أديب أنه راهب أدمن الاشتغال باللغة العربية حتى تريب رؤساؤه به لهذا، فنفوه إلى دير ينقطع فيه عن خدمة هذه اللغة زمنا لا أدري ما قدره، فإن صح ما رواه صاحبي الأديب فهم قد أطلقوه الآن؛ لأنهم رجعوا إلى الصواب في أمره، وعرفوا أن البلية على اللغة العربية في اشتغاله بها لا في انصرافه عنها وتركها وشأنها.

وقد يلذ القراء أن يروا مبلغ علم «اللغويين» الذين يتفيهقون باللغة حين يتصدون لنقد أحد من كتاب الجديد أو شعرائه! يتهجمون في التخطئة بغير روية، فيجردون أنفسهم من كل شيء حتى النحو والصرف وسائر القواعد التي يظن الناس بهم علمها إذا استكثروا عليهم علم ما وراءها مما يحتاج إلى نفاذ البصيرة وذكاء الفطنة، ولا ضير علينا أن نسقط دعواهم هذه ونكشف عن جهلهم بما يدعون؛ لأننا قلنا كثيرا: إن هؤلاء الذين يهتفون باسم العربية هم أضعف الناس وجها في ادعاء الغيرة عليها، وأجهلهم بآدابها وأسرار قواعدها، وسنبدأ بالنقد اللغوي؛ لأنه النقد الذي إذا قرأه بعض الناس في مجلة ك «لغة العرب» خيل إليهم أنه صادر من معدنه أو ممن يملك الكلام في موضوعه، أما النقد المعنوي فقد نهمله، وقد نعود إليه للتفكه وضرب الأمثال بهذه العجائب والمضحكات!

صفحة غير معروفة