بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
- 4 - رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق
قال الشيخ الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم رضي الله عنه :
الحمد لله رب العالمين كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله ، وسلم تسليما وبالله نستعين على كل ما يقرب منه ، أما بعد فإن خطابك اتصل بي فيما شاهدته من انقسام أهل عصرنا قسمين : فطائفة اتبعت علوم الأوائل وأصحاب تلك العلوم ، وطائفة اتبعت علم ما جاءت به النبوة ، ورغبتك في أن أبين لك وجه الحق في ذلك بغاية الاختصار ، لئلا ينسي آخر الكلام أوله ، وبنهاية ( 1 ) البيان ، ليفهمه كل من قرأه ، بلا كلفة ، وأن يكون عليه من البرهان ما يصححه لئلا يصير دعوى كسائر الدعاوي ، فسارعت إلى ذلك متأيدا بالله عز وجل لوجوب نصيحة الناس والسعي في استنقاذهم من الهلكة ، وحسبنا الله تعالى :
1 - اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه - أن علوم الأوائل هي : الفلسفة وحدود المنطق التي تكلم فيها أفلاطون وتلميذه أرسطاطاليس والإسكندر ( 2 ) ومن قفا قفوهم ، وهذا علم حسن رفيع لأنه فيه معرفة العالم كله ، بكل ما فيه من أجناسه إلى أنواعه إلى أشخاص جواهره وأعراضه ، والوقوف على البرهان الذي لا يصح شيء إلا به ، وتمييزه مما يظن من جهل ( 3 ) أنه برهان ، وليس برهانا ، ومنفعة هذا العلم عظيمة في تمييز الحقائق مما سواها .
صفحة ١٣١
2 - وعلم العدد الذي تكلم فيه أندروماخش ( 1 ) مؤلف كتاب الأرثماطيقي في طبائع العدد ، ومن نحا نحوه ، وهو علم حسن صحيح برهاني . إلا أن المنفعة به إنما هي في الدنيا فقط : في قسمة الأموال على أصحابها ونحو هذا ، وكل ما لا نفع ( 2 ) له إلا [ 142 ب ] في الدنيا فهي منفعة قليلة وتحة ( 3 ) لسرعة خروجنا من هذه الدار ولامتناع ( 4 ) البقاء فيها ، وكل ما ينقضي فكأنه لم يكن ، وكما يقول يحيى ( 5 ) : ( 6 ) وما هذه الدنيا سوى كر لحظة . . . يعد بها الماضي وما لم يحن بعد هي الزمن الموجود لا شيء غيره . . . ( 7 ) وما مر والآتي عديمان يا دعد
3 - وعلم المساحة التي تكلم فيها جامع كتاب أقليدس ( 8 ) ومن نهج نهجه ، وهو علم حسن برهاني ، وأصله معرفة نسبة الخطوط والأشكال بعضها من بعض ، ومعرفة ذلك في شيئين : أحدهما فهم صفة هيئة الأفلاك والأرض ، والثاني في رفع الأثقال ( 9 ) والبناء وقسمة الأرضين ونحو ذلك . إلا أن هذا القسم منفعته في الدنيا فقط . وقد قلنا إن ما لا نفع له إلا في الدنيا فمنفعته قليلة لسرعة انقطاعها ، ولأنه قد يبقى المرء في دنياه - طول مدته فيها - عاريا من هذين العلمين ، ولا يعظم ضرره بجهلهما ( 10 ) لا في عاجل ولا في آجل .
4 - وعلم الهيئة : الذي تكلم فيه بطليموس ، ولونخس ( 11 ) قبله ، ومن سلك
صفحة ١٣٢
مسلكهما ، أو سلكا مسلكه ، ممن كان قبلهما من أهل الهند والنبط والقبط ، وهو علم برهاني حسي حسن ، وهو معرفة الأفلاك ومدارها وتقاطعها ومراكزها وأبعادها ، ومعرفة الكواكب وانتقالها وأعظامها وأبعادها وأفلاك تداويرها ، ومنفعة هذا العلم إنما هو في الوقوف على أحكام الصنعة وعظيم حكمة الصانع ( 1 ) وقدرته وقصده واختياره ، وهذه منفعة جليلة جدا لا سيما في الآجل .
5 - وأما القضاء بالكواكب فباطل لتعريه من البرهان ، وإنما هو دعوى فقط ، ولا نحصى كم شاهدنا من كذب قضاياهم المحققة ، وإن أردت الوقوف على ذلك فجرب ، تجد كذبها أضعاف صدقها كالراقي والمتكهن سواء سواء ولا فرق .
6 - وعلم الطب الذي تكلم فيه [ 143 / أ ] أبقراط وجالينوس وذياسقوريدس ( 2 ) ومن جرى مجراهم ، وهو علم مداواة الأجسام من أمراضها مدة مقامها في الدنيا ، وهو ( 3 ) علم حسن برهاني ؛ إلا أن منفعته إنما هي في الدنيا فقط ، ثم ليست أيضا صناعة عامة ، لأننا قد شاهدنا سكان البوادي وأكثر البلاد يبرأون من عللهم بلا طبيب ، وتصح أجسامهم بلا معالجة كصحة المتعالجين وأكثر ، ويبلغون من الأعمار كالذي يبلغه أهل التداوي في القصر والطول ، وفيهم من يرتاض ومن يخدم ولا يرتاض ، ومن لا يرتاض ولا يخدم كأهل اليسار منهم والدعة من الرجال والنساء . فان قيل : إن لهم علاجات يستعملونها ( 4 ) قلنا تلك العلاجات ليست جاريات ( 5 ) على قوانين الطب بل هي مذمومة عند أهل العلم بالطب ، واكثر ما يقدمون عليه بالرقي ولا مدخل له عند أهل الطب .
7 - فاعلم الآن أن كل علم قلت منفعته ، ولم تكن مع قلتها إلا دنياوية وعاش من جهله كعيش من علمه - مدة كونهما ( 6 ) في الدنيا - فإن العاقل الناصح لنفسه لا يجعله وكده ، ولا يفني فيه عمره ، لأنه ينفق أيام حياته ، التي لا يستعيض في الدنيا منها ( 7 ) فيما لا ضرورة به إليه ولا كثير حاجة تدعوه نحوه
صفحة ١٣٣
8 - ووجدنا ما جاءت به النبوة ومنفعته في ثلاثة أشياء : أحدها : إصلاح الأخلاق النفسية وإيجاب التزام حسنها : كالعدل والجود والعفة والصدق والنجدة في موضعها ، والصبر والحلم والرحمة ، واجتناب سيئها كأضداد هذه التي ذكرنا . وهذه منفعة عظيمة لا غنى لساكني الدنيا عنها ، ولا شك في العقل في أن صلاح النفس ومداواتها من فسادها ، أنفع من مداواة الجسد وإصلاحه ، لأن مداواة الجسد تابعة لمداواة النفس . إذ في مداواة النفس إيجاب ألا يدخل الإنسان على جسده ما يؤلمه بالمرض ، فيقطع به عن مصالحه [ 143 ب ] . وما عم إصلاح النفس والجسد معا أفضل وأولى بالاهتبال به مما خص إصلاح الجسد فقط - هذا برهان عقلي ضروري حسي .
9 - ولا يمكن ألبتة إصلاح أخلاق النفس بالفلسفة دون النبوة ، إذ طاعة غير الخالق - عز وجل - لا تلزم . وأهل العقول مختلفون في تصويب هذه الأخلاق ، فذو القوة الغضبية التي هي غالبة ( 1 ) على نفسه لا يرى من ذلك ما يراه ذو القوة النباتية ( 2 ) الغالبة على نفسه ، وكلاهما لا يرى من ذلك ما يرى ذو القوة الناطقة الغالبة على نفسه ( 3 ) .
10 - والوجه الثاني من منافع ما جاءت به النبوة : دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة ولا سارعوا إلى الحقائق ، وحياطة الدنيا والأبشار والفروج والأموال ، والأمن على كل ذلك من التعدي والغلبة وكفاية من ضاع ولم يقدر على القيام بنفسه . وهذه منفعة عظيمة جلليلة ، لا بقاء لأحد في هذه الدنيا ، ولا صلاح لأهلها إلا بها . وإلا فالهلاك لازم والبوار واجب . وليست كذلك منفعة العلوم التي قدمنا قبل ، وقد قدمنا أنه لا سبيل إلى منع التظالم ولا إلى إيجاد التعاطف بغير النبوة أصلا ، لما ذكرنا من أن طاعة غير الخالق تعالى لم يقم برهان بوجوبها ، ولأن الفسوق ومختلفة الأهواء لا ينقاد بعضها إلى بعض .
11 - والوجه الثالث من منافع ما جاءت به النبوة هو التقدم لنجاة النفس فيما بعد خروجها من هذه الدار ، من الهلكة التي ليس معها ولا بعدها شيء من الخير ، لا ما قل ولا ما كثر ، ولا سبيل ألبتة إلى معرفة حقيقة مراد الخالق منها ولا إلى معرفة
صفحة ١٣٤
طريق خلاصنا إلا بالنبوة ، وأما بالعلوم الفلسفية التي قدمنا فلا - أصلا - ومن ادعى ذلك فقد ادعى الكذب ، لأنه يقول ذلك بلا برهان ألبتة ، وما كان هكذا فهو باطل ، ولا يعجز أحد عن الدعوى ، وليست [ 144 / أ ] دعوى أحد أولى من دعوى غيره بلا ( 1 ) برهان . ثم البرهان قائم على بطلان هذه الدعوى ، لأن الفلاسفة الذين إليهم يستند هذا المدعي يختلفون في أديانهم كاختلاف غيرهم سواء سواء ، فوجب طلب الحقيقة في ذلك عند من قام البرهان على انه إنما يخبر عن خالق العالم ومدبره - عز وجل - . وهذا مكان يلزم العاقل الناصح لنفسه ألا يجعل كده ولا اجتهاده إلا في الوقوف على حقيقته ، وإلا فهو موبق لنفسه ، ولا يشتغل عن ذلك بعلم من العلوم تقل منفعته ، ومن فعل هذا فهو ضعيف العقل ، فاسد التمييز ، سيئ الاختيار ، مستحق للذم ، جان على نفسه عظيم الجنايات .
12 - فأول ذلك أن ينظر : هذا العالم محدث كما قالت الأنبياء - عليهم السلام - وأكثر علماء الأوائل والفلاسفة ، أم لم يزل كما قال غيرهم . ومعرفة حقيقة ذلك قريبة جدا لصحة البرهان الحسي الضروري المشاهد على تناهي عدد الأشخاص النامية من كل نوع من أنواع الحيوان والنبات ، فإن أشخاص نوعين منها اكثر عددا بلا ( 2 ) شك من أشخاص أحد ذينك النوعين . فإذ لا شك في هذا عند أحد ، فقد ثبت المبدأ في وجود كل عدد متناه ، فقد وجب لها المبدأ ضرورة - ولا بد - وإن زمان وجود الفلك الكلي - بكل ما فيه - يزيد عدد ساعاته بما يأتي منه ، وبالضرورة يدري كل أحد ( 3 ) أن ما قبل الزيادة ، فإن النقص موجود فيه قبل تلك الزيادة ، عما صار إليه بتلك الزيادة . ولا شك في [ أن ] الزيادة والنقص لا يمكن وجودهما إلا في ذي نهاية ومبدأ . فصح المبدأ للعالم ضرورة ، وصح أنه محدث مبتدأ ( 4 ) ، والله أعلم .
13 - وأيضا فإن الزمان كله يوم ثم يوم - هكذا مدة وجوده - وكل يوم فله مبدأ ونهاية بالمشاهدة . فإذ كل جزء من أجزاء الزمان ذو مبدأ ونهاية - والزمان ليس هو شيئا غير أجزائه التي هي أيامه [ 144 ب ] - فالزمان ذو مبدأ ونهاية - ولابد - ضرورة ، ومن ادعى مدة غير الزمان فقد ادعى الباطل وما لا يقوم به برهان أبدا . ومن أراد إيقاع الزمان على الباري تعالى فقد تناقض بالباطل ، لأن الزمان - كما بينا - ذو مبدأ ، والباري
صفحة ١٣٥
لا مبدأ له ، فهو خالق الزمان ، فهو في غير زمان - ولابد - .
14 - ثم ينظر هل له محدث مبتدئ أو لا ، فوجب بأول العقل أن الحدوث والإبتداء فعل ، والفعل يقتضي فاعلا ضرورة ، ولا يمكن غير ذلك أصلا .
وأيضا فإن النشأة والتربية والعيش ، وعمارة ما لا عيش إلا به من نبات الأرض والحيوان المسخر ، لا يمكن شيء من ذلك ألبتة ولا يكون وجوده أصلا إلا بلغة يقع بها التخاطب والتفاهم ، ووجدنا كل من لم يعلم اللغة لا يتكلم أبدا . وهكذا وجدنا كل من يولد أصم ، فإنه لا يكون ضرورة إلا أبكم لا ينطق أبدا ؛ فصح ضرورة انه لا يتكلم أحد أبدا إلا من سمع الكلام وعلمه ، وكذلك جميع العلوم لا يمكن ألبتة أن يحسنها أحد أبدا إلا حتى يعلمها ، برهان ذلك المشاهد مدة عمر العالم إلى يومنا هذا ، فإن كل من لا يعلم الكلام لا يعلمه . والكلام التي لا علم فيها كبلاد الروم والصقالبة والترك والديلم والسودان والبربر والبوادي التي بين الحواضر لا سبيل إلى أن يوجد فيها شيء من العلوم التي لم يعلموها مذ وجد ( 1 ) العالم إلى يومنا هذا ، وكذلك جميع الصناعات من الحرث والحصاد والدرس ، وآلات كل ذلك ، والذرو والطحن وعمل الكتان والقطن والقنب والحرير وغزل ذلك كله ، لا سبيل إلى أن يعرف أحد شيئا من ذلك كله إلا حتى يوقف عليه فيقبله ويترفق به ويفتق ( 2 ) بذهنه في ذلك بما جعل في طبعه من قبوله ( 3 ) ، وبرهان ذلك انه من لم يعلمه قط لا يدريه ، وأن البلاد التي خلت من بعض هذه الصناعات لا توجد أصلا فيها مذ كان العالم إلى يومنا [ 145 / أ ] هذا ، بخلاف ما تقتضيه الطبيعة مما لا يحتاج فيه إلى معلم : كالرضاع والأكل والشرب والجماع وغير ذلك مما لا يحتاج فيه الإنسان إلى معلم وكذلك سائر الحيوان . فصح ضرورة - صحة حسنة مشاهدة - أنه لا بد في اللغات من معلم ، ولابد في الصناعات من معلم ، ليس من المعلمين الذين في طبعهم تعلم ذلك دون تعليم ، إذ لو كان ابتداء ذلك موجودا في الطبيعة لوجد ذلك في كل عصر وفي كل مكان ، لان الطبيعة واحدة في جميع النوع ؛ وكذلك نجدهم يستوون كلهم فيما توجبه الطبيعة لهم ، إلا أن يعرض عارض حائل في بعض النوع . فوجب ضرورة أن مبتدئ إيجاد ( 4 ) العالم هو الذي ابتدأ تعليم اللغات وابتدأ تعليم الصناعات ، لابد من ذلك ، وانه تعالى علم كل ذلك أول من أحدث
صفحة ١٣٦
من نوع الإنسان ، ثم علمها ذلك المعلم سائر نوعه . ثم تداولوا تعلم ذلك . وهذا برهان ضروري حسي مشاهد ، يقتضي - ولابد - وجود الخالق ووجود النبوة ، وهي تعليم الخالق اللغات ( 1 ) والعلوم والصناعات ابتداء ، ووجود الرسالة وهي تعليم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمن أمر بتعليمه إياه .
15 - فإذ قد صح هذا كله من قرب ، فالنظر واجب : هل مبتدئ العالم واحد أم اكثر من واحد . ومعرفة حقيقة هذا يقرب جدا - وذلك أنه لولا الواحد لم يوجد عدد ولا معدود ، ففتشنا العالم كله هل نجد فيه واحدا فلم نجده أصلا ، لان كل ما في العالم فإنه ينقسم أبدا فهو كثير لا واحد ، فإذا لابد من واحد في العالم ، فالواحد هو غير العالم ، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم ، فهو الواحد الذي لا يكثر ، لا واحد سواه ؛ فوجدنا العالم محدثا تاليا كما وصفنا ، لم يكن ثم كونه مكونه الذي ابتداه ، ولابد من أول ، إذ لولا الأول لم يكن الثاني أصلا ، ووجود الثاني يقتضي ضرورة وجود [ 145 ب ] الأول ، ولابد ؛ والثاني موجود فالأول موجود . ففتشنا العالم كله عن أول لم يزل فلم نجده لأنه كله محدث ، لم يكن ثم كونه مبتدئه ، فوجب ضرورة أن الأول غير العالم ، وليس غير العالم إلا مبتدئ العالم ومحدثه .
16 - فإذ قد صح الخالق وأنه واحد أول لم يزل ، وصحت النبوة ، وصحت الرسالة ، فالنظر واجب في الأنبياء :
فوجدنا شريعة النصارى في غاية الفساد لوجوده : أحدها قولهم بخلاف التوحيد في الابن والأب وروح القدس ، والثاني لفساد نقلهم لرجوعه إلى ثلاثة فقط وهم مرقش ولوقا ويوحنا الناقل من متى ( 2 ) ، فوضح عليهم الكذاب وأن أناجيلهم متضادة ، ظاهرة الكذب ( 3 ) في أخبارها ، فبطلت الثقة بنقلهم ، مع أنها شريعة معمولة من أساقفتهم وملوكهم بإقرارهم ، وما كان هكذا فالأخذ به لا يجوز ؛ إذ لا يجوز في هذا المكان إلا ما صح أنه جاء به المرسل عن الله تعالى .
ووجدنا اليهود أيضا شريعتهم في غاية الفساد لأنها راجعة إلى كتب ضائعة النقل ، لم ينقلها من أول كونها إلى فشوها عندهم كافة ، بل دخلها التغيير والإتلاف وانقطاع
صفحة ١٣٧
حكمها ونقلها ، لكفرهم بها أيام دولتهم ، ثم بعدها ( 1 ) ، واتصال ذلك فيهم المئين من السنين ، مع عظيم ما فيها من كذب الاخبار ، مع بطلان شرائعهم التي أمروا بها بإقرارهم ، وامتناع إقامتها ، وما كان هكذا فليس هو من عند الله بل هو باطل مفتعل ، إذ لا سبيل إلى العمل بالواجب عندهم .
ثم نظرنا في المجوس فوجدناهم مقرين أن شريعتهم كثير منها من عمل أزدشير بن بابك الملك ، وأنه ضاع من شريعتهم وكتابهم نحو الثلثين ( 2 ) أيام أحرق الإسكندر كتابهم ، وما كان هكذا فلا يجوز التدين به لأن الدين [ الذي ] يزعمون انه الحق لا يختلفون في أنه قد علم ، وما كان هكذا فلا يتدين به عاقل .
ثم نظرنا [ 146/ أ ] في المنانية ( 3 ) فوجدنا نقلهم فاسدا غير متصل بصاحبهم مع ظهور الكذب في كتب صاحبهم ، وفساد ما أتى به وأخبر عنه . ولم ينقل له أحد أية معجزة نقلا يوجب صحة العلم بها ، وما كان هكذا فهو باطل بلا شك ، مع ما فيها من الفساد الظاهر من إيجابه قطع النسل ليعود النور إلى خلاصه ، وهذا أمر لا يمكن ألبتة لاختلاف أجناس الحيوان البحري والطائر والدارج وعدم القوة على قطع تناسلها ، فلا أفسد من شريعة مدارها على سبيل إيجاب ما لا سبيل إليه .
ثم نظرنا في الصابئين فوجدناها ملة قد بطلت بالكلية ، ولم يبق لها أثر مع أن أصولهم أصول المنانية التي لا شك في كذبهم . وأيضا فإن نقلهم قد انقطع فلا سبيل إلى تصحيح معجزة شاهدة لمن قلدوه دينهم . وأيضا فإن شرائعهم بإقرارهم من عمل أكابرهم ، وما كان هكذا فلا يتدين لبه عاقل .
فإذ قد بطلت هذه الديانات وليس في العالم ملة تقر بنبي غير هؤلاء - ولابد من ملة مأخوذة عن نبي إذ لا سبيل إلى معرفة ما يأمر به الخالق تعالى إلا بنقل نبي - لم يبق إلا محمد بن عبد الله عليه السلام وملته هو الذي كتابه منقول نقل الكواف من
صفحة ١٣٨
عنده إلينا - بخلاف نقل الإنجيل الراجع إلى ثلاثة قد ظهر كذبهم ، وبخلاف نقل ( 1 ) التوراة التي هي راجعة إلى واحد وهو عزرا ( 2 ) ، وكانت قبل ذلك أيام دولتهم ممنوعة من كل واحد إلا من الكاهن وحده - وأعلامه منقولة كذلك في الكتاب المذكور ، كإعجاز القرآن وعجز العرب عنه وكشقه القمر إذ سألوه آية ، وكتجربة اليهود بأن يتمنوا الموت وإعلامه انهم ( 3 ) لا يتمنوه أبدا ( 4 ) وإذعان ملوك اليمن وإيمانهم به دون خوف منهم له ولا طمع منه في حظوة [ 146 ب ] دنيا من مال أو جاه لديه ، بل دعاهم إلى ترك الملك والنزول عنه والدخول في العامة ، وإسقاط الفخر والثأر والعداوات وطلب الدماء . والرجوع إلى مؤاخاة من قتل الآباء والأبناء ، فأجابوه كلهم كملوك اليمن وملوك عمان والبحرين وغيرهم - حتى جبلة بن الأيهم ثم ارتد أنفة ولم يزل نادما على ردته - لا ينكر ذلك أحد ، مع براءة كتابه المنزل عليه من كل كذب ومن كل مناقضة ومن كل محال ، فصحت نبوته صحة لا مرية فيها ، وشريعته المتصلة من عهده عنه إلينا ، لأنها لم تكن قط منقطعة فيما بينه وبيننا ولا طرفة عين فما فوقها ، ولا كانت عند خاص دون عام ، بل منقولة من بين المشرق والمغرب .
فإذا قد صح هذا كله : فالواجب على العاقل ألا يقطع دهره إلا بطلب معرفة ما ينجيه في معاده ، ويخلصه من الهلكة ومن النيران المحيطة بها ، ويرفعه إلى السموات التي هي محل الحياة الأبدية والنجاة من كل مكروه ، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها ، ولا يشتغل من سائر العلوم إلا بمقدار ما يعرف به أعراضها ، ويزيل عن نفسه عمى ( 5 ) الجهل بأنه لعل فيها ما ليس فيها ، وما يتعلق بالديانة منها ، ثم يرجع إلى ما فيه خلاصه .
وإذ لاشك في هذا فاعلم ان الفلاسفة لم يدعوا قط انهم تخلصوا بها بعد الموت ،
صفحة ١٣٩
ولو ادعوا ذلك لكانت دعواهم كاذبة لتعريها من برهان يصدق الأبدية ، والنجاة من كل مكروه ، وموضع السرور السرمدي واللذات الدائمة التي لا انقطاع لها ، والله اعلم بالصواب . وأيضا فانهم في آرائهم في أديانهم يختلفون : هذا بين في كتبهم ، فبعضهم يثبت حدوث العالم كسقراط وأفلاطون ، وبعضهم يثبت أنه لم يزل وانه له فاعل لم يزل يخلق ، وهذا قول ينسب إلى أرسطاطاليس ، وبعضهم يثبت النبوة والمعاد والجزاء في المعاد ، والملائكة ، كأفلاطون وصاحب كليلة ودمنة من [ 147 / أ ] فلاسفة الهند ، وبعضهم يقول بتناسخ الأرواح ، كصاحب كتاب سندباد من فلاسفة الهند . فهم كغيرهم في الاختلاف ، ولا فرق ، ولا فضل.
فالعاقل الناصح لنفسه هو من اتبع من يخلصه ، والمجنون هو من اتبع من لا يخلصه ولا يغني عنه شيئا ، ولا ينفعه عاجلا ولا آجلا ، ليس في الحماقة أكثر من هذا . وإذ لا شك في هذا فهذه صفة تعم كل أحد حاشا الذي أرسله الله خالقنا تعالى إلينا ، لخلاصنا في عاجلنا وآجلنا .
18 - واعلم أن من طلب علم الشريعة ليدرك به رياسة أو يكسب به مالا فقد هلك ، لأنه طلبه لغير ما أمره خالقه ان يطلبه ، لان خالقنا - عز وجل - إنما أمرنا أن نطلب ما شرع لنا لننجو به بعد الموت من العذاب والسخط . فمن طلبه لغير ما أمره به خالقه ، فقد عطاءه وبطل تعبه وحبط عمله وضل سعيه .
19 - واعلم أن من أخذ الشريعة عن غير ما صح عن صاحب الشريعة الذي أرسله الله تعالى بها ، واتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فقد خاب وخسر وبطل عمله ، والذي قلنا في هذا هو الذي مضى عليه جميع أهل الحق من الذين صحبوا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فمن بعدهم ، جيلا جيلا ؛ وحدث في خلال ذلك من الآراء الفاسدة ما لا يخفى على أحد حدوثه ومبدأه ، وقد لاح أن كل حادث غير ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو باطل مفترى ، والباطل فرض اجتنابه ، وبالله التوفيق .
فهذا بيان ما سالت عنه بغاية الاختصار والبيان ونهاية البرهان ، والحمد لله كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما كثيرا .
كملت رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق ، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه ، وبالله المستعان
صفحة ١٤٠