فجلست مستوفزًا وجلس متحفرًا، وأعرض عني لاهيًا وأعرضت عنه ساهيًا. أرنُب نفسي في قصده، وأسخف رأيها في تكلف ملاقاته. فغبر هنيهة ثانيًا عطفه لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الزًعنفة التي بين يديه، وكل يومئ إليه ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني بيده، يوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازورارًا ونفارًا، وعتوًا واستكبارًا. ثم رأى أن يثني جانبه إلي، ويقبل بعض الإقبال علي فأقسمت بالوفاء فإنه من محاسن القسم إنه لم يزد أن قال: أي شيْءٍ خبرك؟ فقلت: بخبرٍ أنا، لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وجشمته رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصيرة. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي وقلت: ابن لي مم تيهك، وعجبك وكبرياؤك، وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك، والرمي بمهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، ولا تطول إليه ذراعك؟ هل هاهنا نسب انتسب إلى المجد به، أو شرف علقت بأذياله، أو سلطان تسلطت بعزه، أو علم تقع الإشارة إليك به؟ إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك التيه مذهبا، لما عدوت أن تكون شاعرًا متكسبًا. فامتقع لونه، وعصب ريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يشبتني، ولا اعتمد التقصير بي فقلت: يا هذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر سترًا على نقصك، وضربته رواقًا حائلًا دون مباحثتك. فعاود الاعتذار، فقلت: لا عذري لك مع الإصرار. وأخذت الجماعة في الرغبة إلى في مياسرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي يستعملها الحزمة عند الحفيظة. وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفةً ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي. فأقول: ألم يستأذن عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك ألم تر شارتي؟ أما شممت نشر عطري؟ ألم أتميز في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أخاطبه به وقد ملأت سمعه تأنيبًا وتفنيدًا يقول: خفض عليك، اكفف من غربك، أردد من سورتك، أستأن فإن الأناة من شيم مثلك. فأصبحت حينئذٍ جانبي له، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من أجاوز الغاية التي انتهت إليها في معاقبته، وذلك بعد أن رضته رياضته رياضة القضيب من الإبل، والفلو المفتلى عن أمه من الخيل، وأقبل علي معظمًا، ووسع في تقريظي مفخمًا وأقسم أنه ينازع أنه منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويشوقها التعلق بأسباب مودتي. فحين استوفى هذا المعنى، استأذن عليه في من فتيان الطالبيين الكوفيين فأذن له، وإذا حدث مرهف الأعطاف تميل به نشوة الصبا، ويبسم ماؤه في أسارير وجهه، فتكلم فأعرب عن نفسه، وإذا لفظ رخيم ن ولسان حلو، وأخلاق فكهة، وجواب حاضر، في أناة الكهول، ووقار المشايخ. فأعجبني ما شهدته من شمائله، وملكني ما تبينته من فضله. فجاراه أبياتًا كان منها قول عدي بن زيد.
كدمى العاجِ في المحاريبِ أو ... كالبيض في الروضْ زهرةُ مستنيرُ
فقال أبو الطيب: شبه النساء بصور العاج، والمحاريب صدور المجالس، وذكر البيض في الروض لحسنه وأملاسه. فأقبل الطالبي علي فقال: ما تقول؟ المعنى ما ذكره. قال: فما قوله) زهرة مستنير (؟ فقال: ليكون أحسن له. فلم يقنعه ذلك، فقلت له: شبه ألوان الثياب التي عليهن بألوان نور الرياض، وزهره حمرته وصفرته، فأعجبه ذلك فسأله عن قوله في هذه الكلمة: ثم بعد الفلاحِ والمْلكِ والإمةِ وارتْهُم هناكً القُبور ثمَ أضحواْ كأنهمْ ورقٌ جفُ فألوتْ بهِ الصُباَ والدبوًُر
1 / 6