فلما غشي أبا الطيب موج هذا الكلام قال: رويدًا، أما ما نعيته علي من السرق فما يدريك أني اعتمدته، وكلام العرب آخذ بعضه برقاب بعض، وآخذ من بعض، والمعاني تعتلج في الصدور، وتخطر للتقدم تارة وللمتأخرة أخرى، والألفاظ مشتركة مباحة. وهذا هو عمرو ابن العلاء سئل عن الشاعرين يتفقان في اللفظ والمعنى مع تباين ما ينهما، وتقاذف المسافة بين بلادهما، فقال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها. وبعد، فمن هذا الذي تعرى من الأتباع، وتفرد بالاختراع والابتداع لا أعلم شاعرًا جاهليًا ولا إسلاميًا إلا قد احتذى واقتفى، واجتذب واجتلب، هذا امرؤ القيس يقول:
جُؤجُؤُ حَشرُ كأن لشجامَهُ ... يُعالَى به في رأسِ جذِعٍ مُشذبِ
وإنما اعتمد غيه على أبي داود:
وهادٍ تَقَدُمَ لا عَيُبَ فِيهِ ... كالجذِعِ شُذبَ عَنهُ الكَرَبُ
وقال أيضًا:
كأنُ مَكاكيُ الجوِاء غدُيةً ... صُبِحنَ رَحيقًا مِن سُلافٍ مفلفل
وإنما اعتمد فيه على أبي داود الإيادي:
تَخَالُ مَكاكيِهُ بالضحى ... خلاِلَ الدقارِي شَربًا ثماَلا
وقال امرؤ القيس يصف فرسًا:
كأن غُلامي إذا عَلا حالَ متَنِهِ ... على ظَهرِ بازٍ في السماء مُحلقِ
وهو من قول أبي داود:
إذا شاء راكبُهُ ضَمهُ ... كما ضَم بازٍ إليَهِ الجَناحَا
وقال امرؤ القيس:
مِكرٍ مِفَر مقُبِلٍ مدُبِرٍ معًا ... كجلُمودِ صَخرٍ حطه السيلُ من علِ
وإنما اعتمد فيه على أبي داود في قوله: منِفح مِطرحُ مِعَنُ مِفَنُ مِخلَطُ مِزيَلُ جموحُ خَروجُ وقال امرؤ القيس واصفًا برقًا:
ويهدَا تاراتٍ سَناَهُ وتارةً ... ينَوُء كما ناءَ الكسيرُ المهَيضُ
اعتمد فيه على أبي داود أيضًا في قوله:
وانداح يَنهضَ نَهضَ الكَسيرِ ... جأجَأهُ الماءُ حتى أسالا
وقد أخذه عدي بن زيد منهما فقال:
وحبيّ بعدَ الهُدُو تُهاَديهِ ... رياحُ كَما يزَجىً الكَسيرُ
فهذا أمير الشعراء؛ ومن بعده النابعة، وقد قدّمه عليه قوم، فقال
وتَخالهاُ في البيتِ إذْ فاجأتها ... قد كانَ محجوبًا سراجُ المَوقد
وإنما اعتمد فيه على قول امرئ القيس:
تضُيء الظّلامَ بالعشاء كأنهاّ ... منَارَةُ مسمىَ راهب متَبتلِ
وقال زهير:
يَطعنهمْ ما ارتموْاْ حتى إذا اطعنوا ... ضاربَ حتى إذا ما ضاربوا اعتَنقاَ
وإنما اعتمد فيه على قول مهلهل:
أنْبضواُ معَجسَ القسيّ وأبرَقْنا ... كما توُعدُ الفُحولُ الفحُولا
وقال الأعشى يصف الطيف:
يَلوينَي ديْني الغَداة وأقتضيِ ... ودينْي إذا وقَذَ النّعاسُ الرقدّاَ
وإنما أخذه من قول عمرو بن قميئة:
نأتْكَ أمامةُ إلاّ سؤالا ... وإلاّ خَيالًا يوُافي خياَلا
يواُفي معَ اللّيلِ ميعادُها ... ويأبىَ معَ الصبّح إلاّ زَوالا
فقلت له: من هاهنا أخذ قيس بن الخطيم:
أنىّ سَربتَِ غَيَر سَروُبِ ... وتُقَربُ الأحلامُ غيرَ قَريبِ
ما تمَنعَي يقَظيَ فقدْ تؤُتينهُ ... في النوْمِ غيرَ مصردٍ محسوبِ
فأخذ هذا البحتري فقال:
بنفسيَ من تنأى ويدنو ادّكارها ... ويبذُلُ عنها طيفهاُ وتماُنعُ
قال: وأخذ الأعشى قوله:
تَبيتوُنَ في المشتى ملاءً بطونكمْ ... وجاراتكمْ غرْثىَ يبتنَ خمائصاَ
من قول الأشعر:
لا يصلُحُ الجارانِ أنْ يتجاوَرَا ... هذا أخوُ شبعٍ وذا طاوي المعاِ
وهذا عبيد بن الأبرص أخذ قوله:
والناسُ يلحْونَ الغَوِيَ إذا همُ ... خطبواَ الصّوابَ ولا يلاُم المرْشدُ
من قول المرقش الكبر:
فمنْ يلقَ خيرًا يحمدِ الناّس أمرهُ ... ومنَ يغْولاِ يعدْمْ على الغيّ لائِما
وقال الأخطل:
أما السُراةُ فمِن ديباجةٍ لهَقٍ ... وبالقوائمِ مثلُ الوَشمِْ بالقارِ
وإنما أخذه من قول المسيبّ بن علس في قوله:
كأنّ على الظّهرِ ديباجةً ... وسُدُ القَوائمِ يحسبنَ قارَا
وهذا جرير أخذ قوله:
وإني لعفُ الفقرِ مشتَركُ الغنى ... سريعُ إذا أرْضَ داري، احتمالياَ
من المنخبل السعدي في قوله:
إني لترَزْؤني النَوائبُ في الغنى ... وأعفُ عندَ مشَحةً الإقْتارِ
1 / 41