مدينة السلام، منصرفًا عن مصر ومتعرضًا للوزير أبي محمد المهلبيَ للتخييم عليه والمقام لديه: التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر العراقيين خده، وارهف للخصام حده، ونأى بجانبه استكبارًا وثنى عطفه جبريةً وازوارًا، فكان لا يلاقي أحدًا إلا أعراض عنه تيهًا، وزخرف القول عليه تمويهًا يخيل عجبًا إليه، أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير غيره، وروض لم ير نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون تعاطاه، وكل مجرِ في الخلاء يسر، ولكل نبأ مستقر. فغبر جاريًا على هذه الوتيرة مديدةً أجررته رسن البغي فيها يظل يمرح في ثنييه، حتى تخيل أنه السابق الذي لا يجاري في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار وإنه رب الكلام ومفتض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة نثرًا ونظمًا، وقريع دهره الذي لا يقاع فضلًا وعلمًا، وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط من مائه مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحه، وطامن على التسليم له طرف، وساء معزً الدولة وقد صورت حاله أن يرد حضرته وهي دار الخلافة ومستقر العز وبيضه الملك، رجل صدر عن حضرة سيف الدولة وكان عدوًا مباينًا، فلا يلقى أحدًا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية، والمهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه ولا دارت عليهم دوائره. وتخيل أبو محمد المهلبي، رجمًا بالغيب، أن أحدًا لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفوًا له، ولا يضطلع بإعناته فضلًا عن التعلق بشيء من معانيه. وللرؤساء مذاهب تعظيم من يعظمونه وتفخيم من يفخمونه وتكرمة من يراعونه ويكومونه. وربما حالت بهم الحال وأوشكوا عن هذه الخليفة الانتقال، وتلك صورة الوزير أبي محمد في عوده عن رأيه هذا فيه. ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلًا عن العتيق القارح إلا الشعر. فلعمري إن أفنانه كانت فيه رطبة وجانيه عذبة.
1 / 4