قلت: فهؤلاء كلهم جرى على مدرجة واحدة في استطالة الليل، مغاليًا كان فيها أو مقتصدًا، غير أنه لم يقرن إلى صدر بيته ما يناقص عجزه وينافيه، ويباينه كل المباينة ولا يقتضيه، كفعلك. فإنك وصلت بينك بعجز أفسده، وبعد كل البعد عنه؛ وذلك أنك قلت أليلة واحدة أم ست ليال في ليلة. ثم صغرت على مذاهب العرب في تصغير المعظم في قولهم:) دويهية (و) عذُيقها المرجبّ، وجذيلها المحكك (وكما قال الأول:
فُوَيقَ جُبيلٍ شامخِ الرأسِ لم يكنْ ... ليبَلغُه حتى يكلّ ويعْملاَ
وكما قال الآخر:
يا ميُ سقاَكِ البرُيقُ الومضىُ ... والدّيمُ الغاديةُ الفضُافضُ
فقال: إلى هذا ذهبت. فقلت: ثم قلت:) المنوطة بالتنادي (، فأحلت. قال: كيف ذلك؟ قلت: كيف تناط بالتناد ما تخيله ليلة واحدة أو ستًا في واحدة؟ وإنما نظرت في قولك) المنوطة بالتنادي (إلى قول الشاعر:
قلتُ لضَيْفي حيَن نَبًهُته ... في لَيلَةٍ ماطِرَهْ
ما لي أرى اللًيْلَ آخِرٍ ... كأنهُ قد نِيطَ بالآخرِهْ
فهذا جعل في استطالته منوطًا بالآخرة، فلم يقرن ذلك بما أفسده وشوه معناه، ولا أحاله إحالتك بيتك حتى استفهمت استفهام شاك في أنها ليلة واحدة أو ست في ليلة. ثم ناقضت بإخبارك أنها منوطة بالتنادي، فشتان ما استفهامك هذا وقول الآخر على تأخر زمانه:
لَسْتُ أدري أطال ليَليَ أمْ لا ... كيفَ يدري بذاكَ منَ يتَقَلى
لوْ تَفرَُغتُ لاستطالةِ ليَلْي ... ولرَعيِ النَجومِ كنتُ مخُلى
وكأنك لم تسمح قول سويد بن أبي كاهل:
وإذا قُلتُ لَيلي قَدْ مضَىَ ... عَطَفَ الأوُلُ منهُ فرَجَعْ
واحتذي هذا المعنى خالد بن يزيد فقال:
تَباعَدَ الصًبحُ حتى ما أؤمُلهُ ... وازدادَ هَمُ فما يُرْجى ترَحله
والليًلُ وَقْفُ علَينا ما يُفارِقُنا ... كأنُما كلُ وَقتٍ منهُ أولُهُ
وهذا أحسن من قول الآخر وإن تقدم زمانه:
ليسَ لليْلِ آخرُ ... يشَفَي منهُ عاشقُ
آخِرُ اللًيْلِ أولُ ... لا يُرىَ فيهِ شارِقُ
لأنه جعل آخره أولًا، وخالد جعل كل وقت من أوقاته أولًا. ونحو هذين البيتين قول الحسن بن زياد الرصافي:
يا لَيَلةً طالَتْ على عاشِقٍ ... منُتظَرٍ في الصبحِ ميِعَادا
كادتْ تكونُ الحَبْل في طولهِا ... إذا مضَىَ أولُها عاَدَا
وهذا نهاية في معناه وفيه زيادة بقوله " منتظر في الصبح ميعادا " وعلى أن قوله:
رَقَدْتَ ولم ترْثِ للساهرِ ... ولَيلُ المُحبُ بِلا آخرِ
بديع جدًا، متقدم كثيرًا عما قيل في طول الليل، وكأن هذا من قول اليقطيني:
أقولُ لهُ لمًا رَسَتْ داجيِاتهُ ... عدِمتُكَ من ليَلٍ أماَلك آخرِ
فنمي إلي بعد ذلك أنه غير البيت أو غيره بعض شيعته فجعله) المنوطة بالتنادي (وقال معناه تنادى القوم بالرحيل وهذا قول واهٍ جدًا، ومعنى لا طائل فيه. وقلت في قصيدتك هذه:
) كأنّ بَناتِ نعْشىٍ في دُجاها ... خرَائدُ سافراتُ في حداد (
ولا تعلق للخرائد من النساء دون غيرهن بهذا التشبيه؛ إذ كانت الخريدة الحيية والخرد الحياء. وليست النجوم في الدجى أشبه مناسبة للخرائد في السواد، منها لمن حياء من النساء. وإنما قلت) خرائد (، ليلتبس الموضع ويخفى الأخذ، لأنُ ابن المعتز قال:
كأنّ نجُوم الأفقِ في فَحمةِ الدّجى ... وجوهُ عذارى في ملاحفَ سودِ
فقال: ما وجه اختصاص العذارى دون العون؟ قلت: لأن العذراء تتميز عن العون بكثرة ماء الوجه وغضارته ورقة ديباجته؛ ولذلك قالوا) درة بكر (، لم تثقب، و) روضة بكر (، لم تزرع، و) خمر بكر (، لم تبز. ولذلك سموا الخمر) عذراء (، إذا لم تفتض بمزاح أو لم تبزل من دن، كما قال الأخطل:
عذْراءُ لم يجَتلَ الخطابُ بهَجتهاَ ... ولا اجتلاَها عباديُ بدينارِ
وقالُ ابن المعتز:
وَرَنا إليّ الفرْقدانِ كأنماّ ... زرَقْاء تنظرُ من نقابٍ أسودِ
قال أيضًا:
وارىَ الثرَياّ في السماءّ كأنماّ ... قدَم تبدّتْفي ثيابِ حدادِ
فأحسن التصرف في هذا المعنى والتوكيد له، وأسأت في أخذه. وفي هذه القافية تقول:
) جزىَ اللهُ المَسيرَ إليهِ خَيرًا ... وإنْ تَرَك المطَايا كالمزَادِ (
1 / 30