فما بَرِحَ الوِلدانُ حتى رَأيتْهُ ... على البَكرِ بساقٍ وحافرِ
وهذا الشاعر إنما وصف رجلًا أضيف وأكرم فقال: ما برح الإماء والولدان يكر منه حتى رأيته قد ركب راحلته وانصرف شاكرًا عنهم. فالمعنى في نهاية الحسن، إلا أنه قال في آخر البيت " يمريه بساق وحافر " فقبح لما استعار للرجل موضع قدمه حافرًا. ومن هذا قول الخطيئة أيضًا:
قرَوَاْ جارَك العَيمْان لما جفَوْتْه ... وقلًص عَن بَردْ الشًرابِ مشافِرهْ
فجعل له مشفرًا في موضع الشفة، ومنه قول الآخر:
سأمنعَها أوْ سوْف أجعلَ أمرَها ... إلى ملِكٍ أظلافُه لم تشَقُقِ
فجعل للملك ظلفًا موضع الظفر، ولم يقنعه حتى قال: " لم تشقق " والنوع الثالث: من الاستعارة أحسن من الثاني لأنهم استعاروا لما لا يعقل اسمًا لما يعقل كقول حميد بن ثور الهلالي:
عجبتُ لها أنّى يكون غناؤهاَ ... فصَيحًا ولم تفَغَرْ بمنَطقها فَمَا
هذا الشاعر وصف حمامة وأراد أن يقول لم تفغر منقارًا فقال " لم تفغر فمًا "، فحسن. ولو قال الإنسان لم يغفر منقارًا لقبح وساء في اللفظ. على أن الأصمعي قد ذكر أن الفلم يستعمل في جميع الحيوان. وقال الراجز يصف فرسًا:
وهاطلِ الجَرْي أتيِ مقَدمهْ ... ما لثَمَتْ كَيفُ الصُعيدِ قدمهْ
فجعل له مكان حافره قدمًا، فكان أحسن من قول الآخر في موضع قدم الرجل حافره.
قلت: والاستعارة التي استعرتها منافية هذه الأقسام الثلاثة، من أجل أنه ليس للظن فعل حقيقي استعرت الظلع موضعه. وإنما يقال ظن عازب، وظن كاذب، وظن المعي، وظن مصيب. وهذه كلها استعارات واقعة. ولم يسمع من شاعر فصيح ولا عربي صريح: ظن ظالع. واستعارة الظلع للريح وإن كانت بعيدة أولى وأقرب، ومن أجل أنه يقال: ريح حسرى، وريح مريضة يراد كلالها ونقصان هبوبها، فجاز أن يوضع مكان الكلال الظلع، لأنه من جنس قصور الهبوب. وكذلك الظلع في الريح موضوع غير موضعه، وإنما يقال في هذا المعنى ريح حسرى؛ وحسرى ليست على الحقيقة إنما تورد استعارة. وموقع تحسر في البيان أحسن من موقع تظلع. فأبدلت استعارة واقعة لطيفة من قولهم: ظن عازب، وظن كاذب، وظن المعي ومصيب، باستعارة خافية بعيدة من قولك:) في معاليك تظلع (. وحال القدم والحافر والفم والمنقار فائدة الحال، لأنها أسماء مستعارة وضعت مواضع أسماء حقيقية ومن الاستعارة البعيدة قولك:
) أسَدُ الأسدِ الهزِبَرِ خضِابًهُ ... مَوْت، فريصَ الموْت منه يُرْعَدُ (
فجعلت للموت فريصًا وهي جمع فريصة، والوجه أن تجمع فريصة على فرائص، والفريصة لحمة تحت الكتف يقال إنها مقتل، وهي استعارة بعيدة جدًا. فضل عن الجواب، واستبهم عليه إقليد هذا الباب، وسمع ما لم تجر سعادته باستماع مثله، لأن الوادي الذي يسلكه في شعر مباين له. وإذا تكلف هذا المضمار، وتعاطى الصنعة في شعره، ولم يحسن إحسانه فيها جرى في على شاكلته الأولى. ألا ترى إلى قوله:
) وقَيبَ كُمًا قَبُلَ الُرْب قَبلَهُ ... وكُلُ كَميِ واقِفُ متُضائِلُ (
فجانس بقبل وقله وبكم وكمي فلم يصف لفظه، ولا ما لأه على الإحسان طبعه، وانقطعت دون الإصابة مادته. ثم قلت له: وأخطأت في قولك:
) لأْمَةُ فاضَةُ أضَاُة دِلاصُ ... أحكمَتْ نسَجهَا يدَا داودِ (
من أجل أنه لا يقال درع فاضة، إنما يقال: مفاضة، وجمعها مفاض. ويقال الدرع أيضًا فضفاضة وفضافضة إذا كانت واسعة. وقال أمرؤ القيس، وبعض أصحابنا يرويها لأبي داود:
وأدْدْتُ للحرْبِ فضَفاضَةً ... تضَاءلُ في الطي كالمبِردَِ
فإن كنت اشتققت فاضة من قول امرئ القيس:
تفضُ على المَرْء أرْدانهُا ... كفَيضِ الأتي على الجٌدْ جدٌِ
فالوجه أن يقال فائضة لا فاضة. ولم تأت هذه الكلمة في شعر عربي صريح، ولا في كلام مولد فصيح. ولا سمعنا بفاضة إلا من بيتك هذا، ومن بيت أبي الشيص:
ومنُازِلِ للقِرْنِ يَحسَبُ فاضَةً ... علَقِ النجيِعُ بثَوْبِها الفضفاضِ
وأبو الشيض مستعمل من هذه اللفظة ما لا أصل له، وليس يجوز في اللغة. وإنما اعتمد التجنيس فأسقط هذا الإسقاط. ثم قلت: وأخطأت أيضًا في قولك:
) فإنْ نلتُ ما أملًتُ منكَ فرٌبُماَ ... شرِبْتُ بماءٍ يعجِزٌ الطُيرَ وِردهُ (
1 / 22