والزهو أيضًا أن تشرب الإبل ثم تمد في طلب المرعى ولا ترعى حول الماء. يقال: زهت الإبل تزهوًا. والريح تزهي النبات إذا هزته. والسراب يزهي الرفقة كأنما يرفعها، والأمواج تزهي السفينة. قلت: وأخطأت أيضًا في قولك:
) وضاقتِ الأْرْضُ حتى صارَ هارِبهمُ ... إذا رَأى غيرَ شيء ظَنُه رجٌلا (
أفتعرف مرئيًا يتناوله النظر لا يقع عليه أسم شيء. وأحسبك نظرت فيه إلى قول جرير:
ما زِلْتَ تَحسَب كُلُ شيء بعَدهًم ... خَيْلًا تكرَ عليكمُ ورِجالا
فأحلت المعني عن جهته، وعبرت منه بغير عبارته. وقول جرير من التخيل المليح. وزعم الأخطل أنه أخذه من قول الله تعالى:) يحسبون كل صيحة عليهم (، وخليق أم يكون أخذه من قول العوام بن شوذب الشيباني:
ولوْ أنهًا عُصفورَةٌ لحسَبتَها ... مُسَوًمَةً تدًعو عُبيًدًا وأزْنَماَ
ومن التخيل المليح قول الآخر في تخيل السكران:
وما زِلت أسقي الرًاح حتى حسَبتُني ... أميرًا على منً شِيتُ أنْ أتأمرَا
وحتى حسبتٌ اللًيلَ والصبُح مقٌْبلًا ... حصانَينٍ مختالًينٍ جَوْنًا وأشْقَرَاَ
ومما يستحسن في هذا المعني قول ثابت قطنة:
تنَشيتُ حتى خلتُ أنَ مطَيُتي ... لها سَبْعٌ آذانِ نَبَتنْ لها بعَدي
وحتى حسًبتٌ البرٌ بحرًا وخلتٌني ... أنوطٌ النجُومَ الزُهر في طرفَي بُرْدي
وأشدني أبي قال: أنشدني أبو عمر بن سعد القطربلي الكاتب قال: أنشدني ثعلب لطحيم الأسدي، وينسب هذا إلى ابن الأعرابي:
ومستطيلِ على الصًهباء باكرها ... في فتية باصطباحِ حذاُقِ
فكُلَ خَلْقٍ رآهُ ظَنهٌ قدًحًا ... وكلُ شخصٍ رآهُ خالهَ السُاقي
حتى حساها فلم يلثْ وما برِحتْ ... أن غادرَتهْ صرَيعًا ما له راقي
ثم قلت: وأخطأت في قولك مخاطبًا كافورًا الإخشيدي:
) يفَضَحٌ الشمَس كلًما ذرًتِ الشُمسْ ... بشَمْسٍ مُنيَرةٍ سَوْداء (
فكيف توصف الشمس وصبغا البياض والضياء بالسواد؟ وما وجه استعارة المس للأسود إن كنت ذهبت في ذلك إلى الاستعارة فقال إنما ذهبت إلى قول النابغة:
فإنك شمس والملوكُ كواكبَ ... إذا طَلَعتْ لم يبَد منهن كوْكَبٌ
فقلت له: إنما ذهبت في هذا إلى أنه في مجده وسؤدده وبإضافة الملوك إليه كالشمس التي تستر النجوم عند ظلوعها. وأنت لم ترد إلا أن هذا الممدوح في أوضافه يفضح الشمس طالعة، وهو مع ذلك شمس سوداء، والشمس لا تكون سوداء إلا في حال كسوفها. ولم تذهب في هذا إلا إلى سواد جلدته، وقد أنبته في ظاهر الكلام بقولك) سوداء (تأنيبًا، عاد) معه (المدح هجاء، ولا فرق عندي بين قولك هذا في مدحه، وقولك في الكلمة الأخرى في ذمه.
) إن امرأ مَرْأة حُبلي تُدَبُرهُ ... لمسُتَضامُ سخَينُ العينِ مفَئودَ (
قلت: وأخطأت في قوله مفتتحًا قصيدة امتدحت هذا الرجل بها؛ فإنك قلت:
) كفى بك داءً أن ترَى الموْتَ شافيا ... وحسَْبُ المنَايا أن يَكنً أمانيا (
فإنك افتتحت مدحه بما تفتتح به المرائي واحتسبته كان طعمة المنايا عن قليل من مواجهته بها. ومن سبيل الشاعر أن يتحرى لقصيدته أحسن الابتداء كما يتحرى لها أحسن الانتهاء عند بلوغ حاجته، وأن يجعل افتتاح كلامه أحسن ما يستطيعه لفظًا ومعنى. وأن يبتدئ قصيدته بما شاكل المعنى الذي قصد له. فإن أبا نؤاس لو كان معاتبًا بقوله:
أربَعَْ البِلى إنَ الخُشوعَ لبَادي ... عَلَيكَ وإنًي لم أجنُك ودِادي
أو مستبطئًا، لم يستهجن ابتدؤه هذا، ولم البرمكي منه عند إنشاده إياه هذا الشاعر، فإنه يتطير منه، فلما انتهى إلى قوله:
سَلامُ على الدنَيا إذا ما فُقدتم ... بني برَْمَكٍ منِ رائحينَ وغادي
استحكمت طيرته، فلم تتصرم أيام حتى أوقع الرشيد بالبرامكة. وكذلك البحري لو كان هاجيًا بقوله:
لك الوَيْلُ من لَيل تطَاولَ آخرُهْ ... ووَشْكِ ذَوي حَي تُزَم أباعِرٌهْ
1 / 20