وأما الحنفيون فقد ادعوا لصاحبهم رواية عن عبد الله بن الحارث بن جزء صاحب رسول الله ص عن النبي ص .
وهذا لا يصح ؛ لأن أبا حنيفة مات رحمه الله سنة خمسين ومئة بلا خلاف ، وله سبعون سنة ، هكذا حكى ابنه حماد عن سن أبيه ، فمولد أبي حنيفة على هذا في سنة احدى وثمانين أو سنة ثمانين ، ولم يعش بعد احدى وتسعين من الصحابة رضي الله عنهم أحد ، وفي الخبر المذكور عن أبي حنيفة أنه لقى عبد الله بن الحارث بمكة وله ست عشرة سنة ، فكان لقاؤه في سنة ستة وتسعين ، ولم يكن عبد الله حيا في ذلك العام بلا شك ؛ فإنه لا خلاف بين علماء المسلمين في أن أنس بن مالك رضي الله عنه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم ، وقد مات قبل هذا التاريخ بمدة .
قال أبو محمد رحمه الله : ولقد حملت العصبية ورقة الدين بعضهم على أن وضع على رسول الله ص حديثا رواه مأمون بن أحمد قال نا أحمد بن عبد الله الحرمازي وهو معروف بوضع الحديث عن أنس بن مالك عن رسول الله ص : ( يكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي ، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس ) فمن أضل ممن يعترض ليتبوأ مقعده من النار نصرا لأقوال من لا يغني عنه شيئا ورأيه ، ونعوذ بالله من الخذلان .
ولقد روي عن بعضهم أنه قال : ما علقمة بدون ابن مسعود ، ولا إبراهيم بدون علقمة ، ولا حماد بن أبي سليمان بدون إبراهيم ، ولا صاحبكم يعني أبا حنيفة بدون حماد ، فأنتج هذا أن أبا حنيفة ليس بدون ابن مسعود في الفقه ، فإذا كانت هذه صفة أبي حنيفة عند أصحابه في الفقه ، فأين يقع عندهم مالك وغير مالك منه ؟!
قال أبو محمد رحمه الله : والذي لا نشك فيه : فإن الذي أحدثوه في الأقضية من الكشوف وكتابها وعقد مقالات ، والإشهاد عليها ، والاعذار مدة مسماة لا تتجاوز ثلاثين يوما ولا بيوم ، وسجن مدعي الإفلاس شهرا ، ثم حينئذ ينظرون في أمره وقبول الوكالة على صفة ما ، ومنعها على ما ، وقطع الحجة بعد التسجيل والتطواف بالشهود من واحد إلى ثان ، وإن علم الحاكم حكم تلك المسألة فإن هذا لم يك قط على عهد رسول الله ص ، وهذا ما لا يشكون فيه أصلا ، فلولا أن هذه الأمور عندهم خير زائد على ما كان في صفة أحكامه ص ، ثم على أحكام الصحابة رضي الله عنهم ، محدث مستحسن فما استعملوه ولا اشتغلوا به ، وهذا نفسه معنى قول القائل : ( أبو حنيفة كان أعلم بالقضاء من رسول الله ص ) ولولا خوف السيف ما أمنا إطلاق ذلك فيمن لا خلاق له منهم ، فإن لم يكن هذا خيرا زائدا عندهم ، وعلما حادثا حسنا ، فما يحل لهم أن يستعملوه .
وأما ما ذكر عن أصحاب الشافعي وأحمد وداود فهم أغلى غلوا في أصحابهم في مثل هذه التكاذيب ، ولكن ورد من ذلك إن شاء الله ما يتبين به لهؤلاء الجهال أن كل طائفة تعتقد أن صاحبها أعلم وأفضل وأجل وأورع وأفقه من الآخرين .
فقد روي أن رجلا قال لأبو ثور : سمعت فلانا يقول : إن الشافعي أفقه من مالك ، فقال له أبو ثور كلاما معناه : وأي عجب في هذا ؟ الشافعي أفقه من سعيد بن المسيب .
وذكر بعض الشافعيين خبرا عن رسول الله ص : ( أن الله يبعث على رأس كل مئة سنة رجلا من قريش يحيي به الدين ) قال هذا القائل : هو في الأولى عمر بن عبد العزيز ، والمئة الثانية محمد بن إدريس الشافعي .
وقد ذكر بعض مشاهير المؤرخين أنهم كتبوا على قبره : هذا قبر محمد بن إدريس الشافعي أمين الله .
فانظر أحقا تبلغ العصبية بهؤلاء القوم ؟ وهذه الآثار التي أسندوا إلى رسول الله ص لا تصح ، ولو صحت لكان تأويلهم فيها كذبا وظنا ، ونعوذ بالله من الخذلان .
صفحة ٦