* النص المحقق
* رحلة العبدري
صفحة ٢٦
* بسم الله الرحمن الرحيم
* [مقدمة المصنف]
(1) اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابعيه وأمته (2)
يقول العبد المذنب المستغفر الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد أيضا بن علي بن أحمد بن سعود (3) العبدري عفا الله تعالى عنا وعنه بمنه :
أحمد الله تعالى حمد معترف بالتقصير ، عائذ بوجهه الأكرم ، وجلاله الأعظم من سوء المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تتكفل لي بالسلامة من كل ملامة ، وتضيء في ظلمتي (4) القبر والقيامة وتنير. وأصلي وأسلم (5) على سيدنا محمد نبيه وخيرته وصفوته (6) البشير النذير ، وعلى آله الأعظمين ، وصحبه الأكرمين ، صلاة تفوت العد والتقدير ؛ وتكون لي أثرة باقية ، وجنة واقية ، من عذاب السعير ؛ وتمحو من كبير زللي ومسطور خطلي وما جرى به قلم التقدير.
صفحة ٢٧
وبعد : فإني قاصد بعد استخارة الله سبحانه. إلى تقييد ما أمكن تقييده ، ورسم ما تيسر رسمه وتسويده ، (1) مما سما إليه الناظر المطرق ، في خبر الرحلة إلى بلاد المشرق ، من ذكر بعض أوصاف البلدان ، وأحوال من بها من القطان ، حسبما أدركه الحس والعيان ، وقام عليه بالمشاهدة شاهد البرهان ، من غير تورية ولا تلويح ، ولا تقبيح حسن ولا تحسين قبيح ، بلفظ قاصد لا يحجم معردا ، (2) ولا يجمح فيتعدى المدى ، مسطرا لما رأيته بالعيان ، ومقررا له بأوضح بيان ، حتى يكون السامع لذلك كالمبصر ، وتلحق فيه السبابة (3) الخنصر ، فتشفى [به] (4) نفس المتطلع (5) المتشوف ، ويقف منه على بغيته السائل المتعرف. وأذكر مع ذلك ما (6) استفدته من خبر ، أو أنشدته من درر ، ما أنظم في أوراق (7) متبدده ، وأعقل بعقال الخط متشرده ، وأثبت في خلال ذلك من نظمي ما يتغلغل إليه الكلام ، أو تجنح إلى تحصيله ضوامر (8) الأقلام ، وأضيف إلى ذلك ما يضطر إليه التبيان ، (9) فيما قصر فيه العيان ، من نبذ مذكورة ، ونتف مشهورة ، ونكت مرسومة [1 / ب] في الكتب مسطورة ، تتميما لغرض التقييد ، وتعميما لأرب المستفيد ، حتى يكون التأليف في بابه مغنيا ، وعن الافتقار إلى غيره مستغنيا ، مثبتا في كل رسم بعض الأحاديث
صفحة ٢٨
التي رويتها ، والآثار التي وعيتها ، تبركا بإثباتها ، وتيمنا بذكر الفضلاء (1) من رواتها ، وأختم ذلك بقصيدة وعظية أسرد فيها الرحلة سردا ، وأبرزها (2) من نسج فكري بردا.
وربما حمل الامتعاض لحزب الفضائل ، على فرط تحزب وتألف (3) على فئة الرذائل ، فيقع (4) في اللفظ إقزاع (5) وإقذاع ، (6) ويرسم في باب همزهم تمكين مد وإشباع ، لا جهلا بموقع الإغضاء من أخلاق ذوي الآداب ، ولا ميلا إلى ما عابه الشرع من مذموم الاغتياب ، وإنما هو لغرض صحيح ، لا يرمي بسهم التقبيح ، وهو إعطاء ذي الحق حقه ، وألا تكون الفضائل لغير أهلها مستحقة ، فيكون الفاضل في الوصف مبخوسا ، ويرى الناقص في غير منبته مغروسا ، وقد يردع المسيء عن إساءته ما يرى ويسمع من مساءته ومن التأديب كل ما كف المرء عن زلله ، و «نية المؤمن أبلغ من عمله» (7)؛ وعلى أني يعلم الله قلما أمتعض لنفسي ، وأزجر في غرضها عنسي (8)، وما أغريت قلمي بالانتصاف ، ولا أعملته في ذكر ذميم الأوصاف ، إلا لحرمة من الفضل أشلاؤها ممزعة ، (9) أو وظيفة من الشرع أحكامها مضيعة.
صفحة ٢٩
وقد حدثنا الشيخ الفقيه المحدث عالم الديار المصرية تقي الدين ، أبو الفتح ، محمد بن علي بن وهب القشيري (1) إملاء من لفظه بمنزله من دار الحديث الكاملية (2) بقاعدة مصر مهدها الله تعالى قال : قرأت على الفقيه المفتي أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي ، وكان من سلاطين العلماء صليبا (3) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عن الحافظ أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله الشافعي ، قراءة عليه ، قال : أخبرنا علي بن مسلم بن محمد السلمي ، قال : أخبرنا أبو الحسن (4) أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السلمي ، قال : أخبرنا جدي أبو بكر محمد بن أحمد ابن عثمان بن أبي الحديد ، قال : أخبرنا أحمد هو أبو الفضل بن عبد الله بن نصر بن هلال السلمي ، قال : حدثنا المؤمل هو ابن إهاب ، قال : حدثنا عبد [2 / آ] الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب ، قال : أول من قدم الخطبة مروان ، (5) فقام إليه رجل فقال : يا مروان! خالفت
صفحة ٣٠
خالف الله بك ، فقال : يا فلان! اترك ما هنالك ؛ فقام أبو سعيد الخدري ، (1) فقال : أما هذا فقد قضى ما عليه ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «من رأى منكم (2) منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». (3)
وليس بمنكر (4) في هذا الزمان قدح من يقدح ، وإنما المنكر (5) مدح من يمدح ؛ لأن الصدق محمود بكل لسان ، والكذب مذموم من كل إنسان ، والأمر في ذلك كما أنشدني الشيخ الأستاذ الفاضل محيي الدين أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز المازوني (6) بالإسكندرية لنفسه :
صفحة ٣١
[الخفيف]
قل لأهل الزمان حاشاك مما
أصبحوا فيه من مساو سواء
وقد تعطل في هذا العصر موسم الأفاضل ، وتبدد في كل قطر نظام الفضائل ، وتفرق أهلها أيادي سبا ، (1) وصاروا حديثا في الناس مستغربا ، فعادوا اسما بلا مسمى ، وحرفا ما دل على معنى ، فالمحدث عنهم في مشرق أو مغرب ، كالمحدث عن عنقاء مغرب ، (2) ولو طاب المورد لحصل الري ، وقديما قال أبو العلاء المعري : (3) [الخفيف]
ويقال : «الكرام» قولا وما في ال
أرض إلا الشخوص والأسماء (4)
وكيف لا تكون الدنيا على ما أصف وأقول ، وعلى وفق المشاهد من ذميم أوصافها والمنقول ، وقد صار الملك الذي هو نظام الأمور ، وصلاح الخاصة والجمهور ، في أكثر الأرض منقوض الدعائم ، مهدوم (5) القوائم ، يدعيه كل
صفحة ٣٢
غوي ، كالمليكشي (1) وعبد القوي ؛ رضوا باسم الملك وإن فاتهم معناه ، وادعوه وما لهم منه إلا أسماؤه وكناه ؛ لا يأمن بهم طريق ، ولا يستنقذ بهم غريق ، ولا يذكر منهم أصيل في المجد عريق ؛ لا تندى أكفهم بنائل ، ولا تصون عن الابتذال وجه فاضل ، ولا ينصف بهم [2 / ب] مظلوم ، ولا يقرع (2) بأسيافهم ظلوم.
أو ليس من الأمر الأمر الخارج عن كل قياس ، أن المسافر عند ما يخرج من أقطار (3) مدينة فاس ، (4) لا يزال إلى الإسكندرية في خوض ظلماء ، وخبط عشواء ، (5) لا يأمن على ماله ولا على نفسه ، ولا يؤمل راحة في غده إذ لم يرها في يومه وأمسه ، يروح ويغدو لحما (6) على وضم (7)، يظلم ويجفى ويهتضم ، تتعاطاه الأيدي الغاشمة ، وتتهادا الأكف الظالمة ، لا منجد له ولا معين ، ولا ملجأ يعتصم به (8) المسكين ؛ يستنجد ويستغيث ، وأنى له المنجد والمغيث؟ ينادي وهو في قيد المظالم يرسف : (9) ألا ناصر ينجد؟ ألا راحم يرأف؟ يتذكر (10) ملك
صفحة ٣٣
البرين فيقرأ : ( يا أسفى على يوسف : ) (1) [الطويل]
فمن مبلغ علياه عني من نظمي
رسالة مستعد شكا ظلمة الظلم
صفحة ٣٤
وهذه الرحلة بدأت بتقييدها في تلمسان (5)، ولم يمكني إظهارها هنالك ، وأظهرتها بعد خروجنا منها ، ووقف عليها شيوخنا بمصر وغيرها ، وكان شيخنا زين الدين بن المنير (6) حفظه الله يستحسن ما يقف عليه منها ، وقد أكملتها والحمد لله منتظمة (7) على نسقها ، ومستنة في سننها ، جاريا معها حسبما جرت ؛ مستمليا لها فيما قدمت وأخرت ، حتى استوفي الغرض المطلوب ، وحصل المراد منه والمرغوب ؛ وبالله أعتصم وأستعين ، وهو خير عاصم ومعين ، وإياه أستهدي الصواب ، وأستكفي ما يصم ويسم بالعاب (8)؛ إنه بنجح المطالب كفيل ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
صفحة ٣٩
* [بداية الرحلة]
كان سفرنا تقبله الله تعالى في : الخامس والعشرين من ذي القعدة ، عام ثمانية وثمانين وست مئة ، ومبدؤه من : حاحة (1) صانها الله وكان طريقنا على بلاد (2) القبلة ، فزرنا (3)، بموضع أنسا من أعلى بلاد السوس [4 / ب] الأقصى (4)، قبر الشيخ الصالح أبي حفص عمر بن هارون (5)، وهو من كبار الأولياء ، ومن عظماء الصالحين نفعنا الله بهم ذكره صاحب كتاب «التشوف» (6) وبالغ في الثناء عليه ، وذكره الشيخ الفقيه (7) الصالح أبو سعيد الحاحي المترازي في كتابه «منار العلم» أنه كان يدخل عليهم في الدرس فيقول لهم : «تهنئكم عبادة القلوب والألسن والأيدي والأعين» يعني العلم. وهذا كلام من أيد بالتوفيق ، وأمد بالتحقيق. وحضر معنا زيارة قبره جماعة من الصالحين ؛ ورأينا من حضور القلوب عنده ما قوى الرجاء في نيل بركته.
صفحة ٤٠
وفي أول سفرنا دخلنا مسجدا لصلاة الظهر ، فوجدنا به ألواح صبيان المكتب ، فنظرنا فيها تبركا بها ، فوجدنا في أول لوح منها ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (1) وفي الثاني ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) (2) وفي الثالث ( فلو لا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ) (3) وفي الرابع ( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (4) وفي الخامس ( يوفون بالنذر ) (5) وفي السادس ( قل : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا ) (6)؛ فسررنا باتفاقها على الإشارات إلى البشارات ، وحمدنا الله على ذلك.
وبعد ليلتين أو ثلاث رأيت في المنام الفقيه القاضي الإمام أبا الوليد الباجي (7) رحمه الله فخطر لي أن أقرأ عليه شيئا من كلامه ،
ترجمته في الصلة 1 / 200 ، قضاة الأندلس : 95 ، نفح الطيب 2 / 74 ، وبغية الملتمس 302 ، وترتيب المدارك : 4 / 802.
صفحة ٤١
فما حضرني (1) إلا قوله : (2) [المتقارب]
إذا كنت أعلم علما يقينا
بأن جميع حياتي كساعه (3)
فقرأتها عليه.
* [ذكر أنسا]
وأما بلد أنسا جبره الله فهو بلد منفسح منشرح ، في بسيط مليح طيب التربة ، يغل كثيرا ، وبه ماء جار كثير ، ونخل وبساتين ، وهو آخر بلاد السوس من أعلاه ، متصل بالجبل مشرف على أرض (4) السوس. وكان فيما مضى مدينة كبيرة ، فتوالت عليها الخطوب المجتاحة ، ونزول الأقدار المتاحة ، حتى صارت رؤيتها قذى في المقلتين ، وعادت بعادة (5) [5 / آ] الزمان أثرا بعد عين ، فليس بها إلا رسوم حائلة (6)، وطلول ماثلة ، خلت من كل قارئ ومقروء عليه (7)، وقاصد ومقصود إليه ، بيد أن بها صبابة (8) من أهل الدين ،
صفحة ٤٢
وفرقة بأخلاق أهل الخير تدين ، على ما يتناولهم من أيدي المعتدين ، ويتداولهم من الولاة (1) المفسدين ، كشف الله عنهم تلك البلوى ، وحسم (2) الداء الذي أذبل نضارتهم وأذوى.
ثم سافرنا منها على بلاد القبلة ، وهي بلاد مات فيها العلم وذكره ، حتى صارت العادة في أكثرها أنهم لا يتخذون لأولادهم مؤدبا ، ولا تسمع في مساجدهم تلاوة ، وإذا طرأ عليهم من يحفظ من (3) القرآن آجروه على الإمامة (4)، ويواظبون على الصلاة في الجماعة ، إذ لا يحفظ منهم أحد (5) ما يصلي به إلا النادر ، ولكنهم في الغاية من حسن الظن بأهل الدين وقوة الرجاء فيهم ، وهم أهل ذمام (6) واحترام وحماية للجار وإيواء للغريب على ضد ما عليه أكثر أهل الغرب.
وفي أكثر بلادهم حصون مجموعة ، وأنهار جارية ، وقلما تخلو من الحروب والفتن ، وربما تحارب أهل الموضع الواحد ، فيتقاتلون عامة النهار ، فإذا آواهم الليل أووا إلى بيوتهم ، لا يهيج (7) أحد منهم صاحبه ، وربما تقاتلوا على السقوف ، وإذا فرغوا نزلوا عنها إلى بيوتهم ، وقد رأيت عندهم في هذا أعجوبة ، وهي أن أهل حصن منهم تحاربوا ، فأجمعوا رأيهم على ألا يتقاتلوا
صفحة ٤٣
في الحصن احتياطا عليه من الفساد زعموا وجعلوا المعترك خارج الحصن إلى مسافة منه ، ونصبوا لذلك حدودا وأعلاما ؛ فهم يتقاتلون من ورائها ، فإذا آوتهم حدود الحصن لم يرم أحد منهم حجرا ، و[لو] (1) اجتمع بقاتل حميمه (2) لا يعرض له ، فإذا خرجوا من حرم الحصن اشتعلت نار الحرب بينهم. هذا دأبهم لا يغدرون ولا ينقضون ، وخافوا فساد حصنهم ولم يخافوا فساد كونهم! واستباحوا ما حرم الله من قتل النفس ، وامتنعوا من [5 / ب] خرم ما شرعوه بينهم من قانون السخف! و «كل مستعمل وميسر لما خلق له» (3). لا جرم أن فيهم آحادا لا بأس بهم ، وخصوصا من جال منهم ورأى الناس. وعامتهم جاهلية الطباع ، ولكن مكارم الأخلاق عامة لأكثرهم. وقد سمعت سيدي الفقيه الجليل الفاضل أبا بكر بن عبد العزيز رحمه الله يحكي عن والده الشيخ الصالح القدوة أبي محمد وكان دخل بلاد القبلة أنه كان يقول : «الغرب دنيا بلا رجال ، والقبلة رجال بلا دنيا» أو كلاما هذا معناه ؛ وإنما يعني مكارم أخلاقهم مع أن عيشهم غير متسع كاتساعه في الغرب.
وما زلنا في كنف لطف الله تعالى وتحت ذيل عنايته (4) لا يهيجنا أحد إلا رده الله عنا خاسئا (5) حتى انفصلنا عنها في أزيد من ثلاثين مرحلة.
صفحة ٤٤
* [اجتياز المفازة التي على طريق تلمسان]
ولما انتهينا إلى المفازة التي في طريق تلمسان وجدنا طريقها منقطعا مخوفا ، لا تسلكه الجموع الوافرة إلا على حال حذر واستعداد. وتلك المفازة (1) مع قربها من أضر بقاع الأرض على المسافر (2)؛ لأن المجاورين لها من أوضع خلق الله ، وأشدهم أذاية ، لا يسلم منهم صالح ولا طالح ، ولا يمكن أن يجوز عليهم إلا مستعد يتفادون من شره (3)، وطلائعهم أبدا على مرقب لا يخلو منها البتة ؛ أطلع الله عليهم من الآفات مايسحتهم (4) جميعا أصلا وفرعا ، ويقطع دابرهم إفرادا وتثنية وجمعا ، حتى يكونوا آية للمعتبرين ، وعبرة للناظرين ، بعزة الله وقدرته ، وحوله وقوته.
وكنت حينئذ لا تمكنني الإقامة حتى أجد صحبة لغرض كان لي ، فأزمعت أن أترك بعض الأصحاب بما كان معنا من النفقة منتظرا للصحبة ، وأنصرف أنا مخاطرا بما تدعو الحاجة إلى استصحابه. فبينما أنا أوصي من أردت إقامته متنغصا بهذا الحال وأعرفه بما يصنع ، إذ وقف علينا جماعة رجال متسلحين عارفين بالطرق (5)، عازمين على اعتساف (6) المجهل (7)، فاستربت بهم ، ثم قوي في نفسي أن ذلك لطف من الله تعالى وغوث أتاحه
صفحة ٤٥
لنا [6 / آ] فسرنا معهم ، فلما وصلنا إلى موضع تحقق (1) الخوف وهم لا يعرفون سوى الجادة المخوفة خطر لنا أن نخاطر في ركوب متن الفلاة بلا دليل ؛ وذلك حين غروب الشمس ، ولما حصحص (2) الياس ، وتحقق في الرأي الالتباس ، وصل من اللطيف معهود الألطاف ، وعاد من عطفه علينا انعطاف ، فوقف علينا خمسة أشخاص أثر فيهم الدؤوب ، وعلا على ألوانهم الشحوب ، عانقوا البراري والقفار ، حتى أخلصتهم خلوص العسجد بالنار ، وتخوفهم الخوف المطير للوسن : [البسيط]
كما تخوف عود النبعة السفن
(3) فسألونا (4) عن الوجهة فأخبرناهم ، واستدعونا للمرافقة فأجبناهم. وسروا (5) بنا في مجاهل يضل بها الدليل ، ويذهل فيها الخليل عن الخليل ، وفيهم رجل «أدل من سليك المقانب» (6) و «أمضى من المرهف القاضب» (7)
«تخوف السير منها تامكا قردا»
وهو في ديوان ابن مقبل 405 ، وفي السمط : 2 / 738 نسبه لقعنب بن أم صاحب ، وغير منسوب في الأمالي : 2 / 112 ، والمخصص 13 / 277 ، وأمالي الزجاجي 37 ، وفي الصحاح ، واللسان (خوف سفن) لابن مقبل ، وفي الأساس (خوف) لزهير ، وفي التاج (خوف) لذي الرمة.
والسفن : المبرد ، والتامك : السنام المرتفع ، والقرد : الكثير الوبر.
صفحة ٤٦
يطبق مفاصل القفار ، وينصلت (1) من المجاهل انصلات المجلي (2) من النقع المثار ، كالسهم مسددا إلى غرض (3) الفلاة ، والجارح منقضا على الموماة ، لا يستدل بنجم ينظر فيه ، ولا يعرف نعشا ولا بنيه (4)، ولا يتقي أن يسهو مع من سها ، فيذكره سهيل (5) أوالسها (6). يتبلد (7) النجم فيقف وقفة الحيران ، وربما عن له المسير فناء كالنشوان ، وهو يشق أديم اليهماء (8)، كما شق البدر حندس (9) الظلماء ، تحسده النجوم فتلاحظه بطرف كليل ، وتقاربه الريح فتتنفس بنفس عليل ؛ حتى قطع بنا تلك المفاوز ، واكتسينا بحمد الله برود الأمن بعد تلك المعاوز (10)، والحمد لله الذي كلت الألسن عن مدى حمده ، حمدا يستنفد مداده (11) البحر في مده.
* [ذكر تلمسان]
ثم وصلنا إلى مدينة تلمسان ، فوجدناها بلدا حلت به زمانة (12) الزمان ، وأخلت به حوادث الحدثان (13)، فلم تبق به علالة (14)، ولا تبصر في أرجائه
صفحة ٤٧
للظمان بلالة (1). وقد شاهدت جمعا من الحجاج ينيفون على الألف وردوها ، ووقفوا إلى ملكها (2) فأعطاهم دينارا واحدا! وأغرب من هذا ما شاهدته [6 / ب] من منصور صاحب مليكش (3)، وهو أن جماعة من الحجاج نحو العشرين ، وقفوا إليه في محلته عند بيته ، فكلموه في عشائهم فرحب بهم واحتفل في السلام عليهم ، ثم أخذ ينادي : يا أهل الدوار (4)، هؤلاء ضيفان الله ، من يحمل منهم إلى بيته واحدا؟! وجعل يكرر ذلك كما يصنع المدرون [أهل المدر] (5)، فلما لم يجبه أحد ولى عنهم ، ووراءه جمع كثيف من الفرسان ، وهو سلطان تلك النواحي.
وتلمسان مدينة كبيرة ، سهلية جبلية ، جميلة المنظر ، مقسومة باثنتين بينهما سور ، ولها جامع عجيب (6) مليح متسع ، وبها أسواق قائمة ، وأهلها ذوو ليانة ولا بأس بأخلاقهم. وبظاهرها في سند الجبل موضع يعرف بالعباد (7) ، وهو مدفن الصالحين وأهل الخير ، وبه مزارات كثيرة ، ومن أعظمها وأشهرها
صفحة ٤٨
قبر الشيخ الصالح القدوة فرد زمانه أبي مدين (1) رضياللهعنه ، ورزقنا بركته وعليه رباط مليح مخدوم مقصود ، والدائر بالبلد كله مغروس بالكرم وأنواع الثمار ، وسوره من (2) أوثق الأسوار وأصحها ، وبه حمامات نظيفة ، ومن أحسنها ، وأوسعها ، وأنظفها ، حمام العالية (3)، وهو مشهور ، قل أن يرى له نظير. وهذه المدينة بالجملة ذات منظر ومخبر ، وأنظارها متسعة ، ومبانيها مرتفعة ، ولكنها مساكن بلا ساكن ، ومنازل بغير نازل ، ومعاهد أقفرت من متعاهد ؛ تبكي عليها فتنسكب الغمام الهمع (4)، وترثي لها فتندب الحمام الوقع. إن نزل بها مستضيف قرته بوسا ، أوحل فيها ضيف كسته من رداء الردى لبوسا.
وأما العلم فقد درس رسمه في أكثر البلاد ، وغاضت أنهاره فازدحم على الثماد (5). فما ظنك بها وهي رسم عفا طلله ، ومنهل جف وشله (6)، وقد حضرت بها مدرسا مذكورا عندهم يقرأ عليه باب التوكيد من «الجمل» (7)
صفحة ٤٩