الروضة الفيحاء في أعلام النساء
صفحة غير معروفة
المقالة الأولى في ذكر النساء الصالحات
[١]
حواء أم البشر
سميت حواء لأنها لقت ن شيء حي، ولما خلقها الله تعالى: كان في الطالع السرطان، وذكر في "المعالم" قوله تعالى: (... يا آدمُ اسكنْ أنتَ وزوجكَ الجنَّةَ ... (الآية، وذلك أن آدم ﵇ لم يكن له في الجنة من يؤنسه ويجالسه، فنام، فخلق الله حواء زوجته فصيرها من شقه الأيسر، خلقها الله من غير أن أحس بها آدم ﵇ ولا وجد ألما، ولو وجد ألمًا لما عطف الرجل على امرأة، فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه كأحسن ما خلق الله، فقال لها: من أنت؟ قالت: زوجتك، خلقني الله لك؛ لكي تسكن إلي وأسكن إليك.
قيل: إن آدم ﵇ لما واقعها قالت: يا آدم زدنا منه، ما أطيبه. وذكر صاحب: "البستان" أن كل شهوة يعطيها الرجل نفسه، فإنها تسقي قلبه إلا الجماع، فإنه يصفي القلب، ولهذا كان يفعله الأنبياء ﵈ وفي الجماع منافع وضرر، فأما منافعه: فإن الرجل إن كان به هم فإنه [بالجماع] يقل [عنه] ذلك، ولو كان قلبه متعلقًا بحرام يزول عنه، ويزول الوسواس، ويسكن الغضب، وينفع من بعض القروح في النفس إذا كانت طبيعته الحرارة.
وقال في "الفؤاد": منافع الجماع المعتدل: خفة البدن، والنوم وانتعاش الحرارة الغريزية، ويزيل الفكر الردي، وينفع أكثر الأمراض السوداوية والبلغمية، وربما يقع تارك الجماع في الأمراض مثل: الدوار، وظلمة البصر وثقل البدن، وإذا عاد إليه المرء برئ، وأما مضرته، فإنه يضعف البدن والبصر، ويحدث ويحدث منه وجع الساقين والرأس والظهر، والاستقلال منه انفع.
وقال في "في المعالم": لما أراد إبليس لعنه الله ليوسوس لآدم وحواء، عزم على الدخول إلى الجنة، فمنعته الخزنة، فأتى إلى الحية، وكان لها أربع قوائم، وهي من خزان الجنة، فسألها ان تدخله الجنة، فأدخلته في فمها، فلما دخل وقف بين يدي آدم وحواء وهما لا يعرفانه إبليس، فبكى وناح، فأحزنهما، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان هذه النعمة، فاغتما ومضى إبليس، ثم أتاهما، فقال قوله تعالى: (... يا آدمُ هلْ أدلُّك على شجرةِ الخلدِ وملكٍ لا يبلى (فدله على أكل شجرة الحنطة، فأبى آدم، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم، فأكل منها، قوله تعالى: (... فبدت لهما سوءاتهما ... (.
وقيل: إن حواء سقته الخمر أولًا، حتى أكل آدم.
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس ﵃: إن الله تعالى قال: يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب زينته لي حواء. قال: فإني أعقبتها أن [لا] تحمل إلا كرهًا [ولا تضع إلا كرهًا] وأدميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك، فقيل: عليك الرنة، وعلى بناتك، واهبطا إلى الأرض، فأهبط [آدم] بسرنديب من أرض الهند، وأهبطت حواء بجدة، وأهبط إبليس بالأبلة والحية بأصفهان، فبكى آدم وحواء على ما فاتهما مائتي سنة، ولم يأكلا ويشربا أربعين يومًا، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة.
قيل: إن هبوطها تاسع ساعة من يوم الجمعة، واجتمع آدم بحواء بعد انقضاء مائة سنة، اجتمعا في عرفة، وإنما سمي جبل عرفة، لأن آدم عرف به حواء. ولما هبطا إلى الأرض كان لهما ولدان: هابيل وقابيل وتوءماتهما، وسلب آدم وحواء كل ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وكانت توءمة قابيل، أجمل من توءمة هابيل، فأراد آدم أن يزوج هابيل بتوءمة قابيل، وتوءمة هابيل بقابيل، فلم يطب ذلك لقابيل، فأخذ توءمته وقتل أخاه هابيل وهرب قابيل، وقصتهما مشهورة، فحزن آدم وحواء على هابيل وبكيا عليه أربعين يومًا، فأوحى الله إلى آدم أن اكفف عن بكائك، فإني قد وهبت لكما غلامًا مثله، يكون أبا الأنبياء، فاجتمع آدم بحواء، فحملت بشيث ﵇ وحده م غير توءم، فلما ولدته كان كأنه هابيل، وذلك سنة مائة وثلاثين من هبوطهما.
1 / 1
وتوفي آدم سنة تسعمائة وثلاثين من هبوطه، وعاشت حواء بعده سنة وماتت سنة تسعمائة وإحدى وثلاثين ودفنت مع آدم في مشارق الفردوس عند قرية هناك، وهي أول قرية بنيت على وجه الأرض، ولم تمت حواء حتى بلغت أولادها وأولاد أولادها أربعين ألفًا، وقيل: ألفي ألف ولد، وقيل: هذا العدد كان حين وفاة آدم ﵇، وحواء عاشت بعده سنة، ولا بد أن أولادها ولد لهم غير هذا كثير، وقيل: إن حواء حملت من آدم أربعين ولدًا بعشرين بطنًا، وقيل: ثمانين، وقيل: مائة والله ﷾ أعلم.
[٢]
سارة بنت هارون
ابن ناخور، وهو عم إبراهيم ﵇ وهي زوجة إبراهيم ﵇ آمنت به بعدما ألقي في النار، فهاجر بها إبراهيم إلى حران، ثم سار بها إلى مصر، وصاحبها فرعون، وقيل: سنان بن علوان، وقيل: وليس، فبلغه جمال سارة وحسنها، فأمر فرعون بإحضارها، فأحضروها ومعها إبراهيم ﵇ فسأله فرعون، فقال إبراهيم ﵇: هي أختي، يعني في الإسلام فهم فرعون بها، فأيبس الله بدنه ورجليه، فتوسل بإبراهيم، وحلف أن لا يقربها بسوء، فأطلقه الله بدعوة إبراهيم ﵇ ثم هم فرعون بها مرة ثانية، فجرى له مثل الأول فعاهد إبراهيم مرة أخرى فأطلق، وقال فرعون لهذه أن تخدم نفسها، فوهب لها هاجر جارية، فجاءت بها إلى إبراهيم ﵇ ثم سار بهما إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بهما بين الرملة وإيلياء. وكانت سارة لا تلد، فوهبت هاجر لإبراهيم ﵇ فولدت له إسماعيل ﵇ لمضي ست وثمانين من عمر إبراهيم ﵇ فحزنت سارة لذلك، فوهبها الله اسحق ﵇ وعمرها إذا ذاك تسعون سنة، وسرت سارة بهاجر وابنها ثم بعد ذلك أوحي إلى إبراهيم ﵇ إن يأخذ هاجر وابنها إلى الحجاز، فسافر بهما إلى مكة، وماتت سارة في حياة إبراهيم قبل بثمانية وخمسين سنة، وعمرها مائة وسبع وعشرين سنة، ودفنت بمزرعة بحبزون، ودفن قريبًا منها إبراهيم ﵇ وكانت وفاتها سنة ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعين من هبوط آدم ﵇. وكانت قد ولدت إسحاق ﵇ بعد إسماعيل ﵇ باثنين وعشرين سنة. وبنى إبراهيم ﵇ الكعبة في السنة التي ولد إسحاق ﵇ وتزوج إبراهيم ﵇ بعد سارة بامرأة من الكنعانيين، فولدت له ستة أولاد، فجملة أولاد إبراهيم ﵇ ثمانية، إسحاق من سارة، وإسماعيل من هاجر، وستة أولاد من الكنعانية ولما صار لإبراهيم ﵇ من العمر مائة سنة، ولد له إسحاق ﵇ ولما صار لإسحاق ﵇ ستون سنة ولد له يعقوب.
[٣]
هاجر زوجة إبراهيم ﵇
1 / 2
وهي جارية سارة التي وهبها لها ملك مصر فرعون، فوهبتها سارة لإبراهيم ﵇ فحملت بإسماعيل ﵇ وولدته سنة ثلاثة آلاف وأربعمائة من هبوط آدم في عر فريدون، وكانت بين الرملة وإيلياء، وسرن سارة بها وأوحي إلى إبراهيم بالسفر بها مع إسماعيل إلى الحجاز، فهاجر بها إبراهيم إلى مكة، وذكر في "المعالم": قال ابن عباس ﵄: أول من اتخذ المناطق من النساء هاجر أم إسماعيل، اتخذت منطقًا عند سفرها إلى الحجاز، ثم هاجر بها إبراهيم ﵇ إلى مكة ومعها إسماعيل ﵇ ترضعه، فوضعها عند البيت وليس في مكة أحد ولا ماء، وترك عندهم جرابًا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم عاد إبراهيم ﵇ منطلقًا فتبعته هاجر وقالت: أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فلم يجبها. وقالت ذلك مرارًا وهو لا يلتفت إليها. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم رجعت وجعلت ترضع إسماعيل ﵇ وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش إسماعيل ﵇ فانطلقت إلى الصفا تنظر هل ترى من أحد، فلم تر، فعادت إلى الوادي، ثم سارت إلى المروة. وفعلت ذلك سبع مرات، ولما أشرفت على المروة، سمعت صوتًا، فقالت: صه: ثم سمعت صوتًا فقالت: قد سمعت إن كان عندك غواث، فعادت، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت هاجر تحوضه. قال ﷺ: "يرحمُ اللهُ أمّ إسماعيل لوْ تركتْ زمزم". وقال ﷺ: "لوْ لمْ تغرفْ منَ الماءِ لكانتْ زمزمُ عينًا معينًا فشربتْ وأرضعتْ إسماعيل". فقال لها الملك: لا تخافا الضيعة، فإن هاهنا بيتًا يبنيه هذا الغلام وأبوه. فأقامت إلى أن قدمت عرب جرهم ونزلوا عندها، وكبر إسماعيل ﵇ وتزوج امرأة من جرهم، وتعلم العربية، وماتت أمه هاجر.
وذكر في "المصابيح"، حديث إبراهيم ﵇ وسارة لما وهبها هاجر. فقال أبو هريرة ﵁ في حق هاجر: تلك أمكم يا بني ماء السماء. وأراد بماء السماء، يعني العرب.
وذكر في كتاب "كشف الأسرار" قوله ﷺ: "لولا تحويطُ هاجر وتحريصها على زمزم حين اتَّبعها جبرائيلُ، وعندَ نزولِ جرهم لكانتْ زمزمُ عينا معينًا".
وذكر بعضهم قوله ﷺ: "ماءُ زمزمٍ لما شربَ لهُ، فمنْ شربهُ على نيَّةِ قضاءِ حاجةٍ أو شفاءٍ منْ مرضٍ، أعطاه الله تعالى". وكان الذبح في حياة هاجر وقصته مشهورة: والذبيح إسماعيل ﵇ لقوله ﷺ: "أنا ابنُ الذَّبيحين". وهذا هو الأصح ومعنى قوله ﷺ: "أنا ابنُ الذَّبيحين". أراد به إسماعيل ﵇ ووالده عبد الله، فإن جده عبد المطلب نذر لله تعالى إن [بلغ] ولده عشرة بنين ليذبحن أحدهم قربانًا لله، وأبو طالب، وحجل، والزبير والحارث وأبو لهب، والمقدم، والفيداق، فملا تكاملوا عزم على ذبح أحدهم، فسار إلى الكاهن وأخبره بما نذر، فأمره أن يلقي عليهم قرعة ففعل، ووقعت القرعة على عبد الله والد النبي ﷺ فوضع عشرة جمال، وألقى القرعة، فوقعت أيضًا على عبد الله، فما زال يزيد الجمال حتى بلغت مائة جمل، فوقعت القرعة على الجمال، فنحرها عبد المطلب فداءً لولده عبد الله، وتركها في البر طعامًا للخلائق والطيور، ولهذا أشار ﷺ بقوله: "أنا ابنُ الذَّبيحين". وهذا بخلاف من قال: الذبيح إسحاق ﵇ وتوفيت هاجر في حياة إسماعيل ﵇.
[٤]
يوحانذ بنت لاوي بن يعقوب ﵇
1 / 3
زوجة عمران أم موسى ﵇ وكان عمران من وزراء فرعون واسمه الوليد بن مصعب، وكان قد أخبره المنجمون أن زوال ملكه على يد فتى من بني إسرائيل، فجعل فرعون يقتل الأطفال، حتى قتل سبعين طفلًا، وكان يعذب الحوامل حتى يسقطن حملهن، ولما حملت أم موسى ﵇ به، أخبر المنجمون فرعون بحمله، فشدد فرعون على نساء بني إسرائيل، فأمر القوابل أن يطفن على نساء بني إسرائيل ففعلن، ولم يدخلن بيت عمران لقربه من الملك ولما تم حملها، وجاءها الطلق ليلًا، فولدت موسى ﵇ وفرحت به فرحًا عظيمًا، وأخفت أمرها مخافة من فرعون، فكانت ترضع موسى ﵇ وتضعه في تنور ولم تعلم له أخته كلثم، واستمرت على ذلك أيامًا، فاتفق يومًا، خرجت لبعض شأنها، وجاءت كلثم أخت موسى ﵇ وسجرت التنور لتخبز فيه، ولم تعلم أن موسى ﵇ فيه، وقد بلغ فرعون ولادة موسى ﵇ من بعض القوابل، فبعث فرعون هامان والرايات معه فدخل دار عمران، ودور جميع الدار فلم ير لموسى ﵇ أثرًا، والتنور يسجر، ثم خرج من دار عمران، وأقبلت أم موسى عليه ورأت أعوان فرعون قد خرجوا من بيتها، فخافت على نفسها وعلى موسى ﵇ وكادت أن تموت من الغم، فدخلت في سرعة، وأقبلت إلى التنور، فرأته يشتعل بالنار، فلطمت وجهها وقالت: ما نفعني الحذر! والتمست موسى ﵇ فوجدته سالمًا، فأخرجته من التنور وأرضعته، وتمرض أبوه عمران ومات، وقد صار لموسى عليه السلم من العمر أربعون يومًا، فخافت على موسى من فرعون، فأوحى الله إليها، وذلك قوله تعالى: (وأوحينا إلى أمِّ موسى أنْ أرضعيهِ فإذا خفتِ عليهِ فألقيهِ في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رآدُّوه إلي وجاعلوهُ منَ المرسلينَ (.
وقيل: ألقى الله في قلبها، فوضعته في صندوق وأحكمنه لئلا يدخل إليه ماء فيغرق، فألقته في النيل ليلًا، ولم يعلم بها أحد، فسار الصندوق على وجه الماء، ودخل إلى دار فرعون، فرأته آسية بنت عم موسى ﵇ وهي زوجة فرعون، فأمرت بإخراجه، فجملوه إليها، ففتحت الصندوق، ووجدت فيه موسى ﵇ فحملته إلى فرعون وأخبرته بالخبر، فهم فرعون بقتله، فقالت له آسية قوله تعالى: (... قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا ... (، ولم يكن لفرعون ولد من آسية، ولم تزل به آسية حتى تركه وسموه موسى ومعنى مو: الماء، ومعنى سا: الشجر، وعرضت آسية القوابل على موسى ﵇ فأبى إرضاعه، وكانت أخت موسى كلثم قد تبعت الصندوق حتى إلى دار فرعون ودخلت مع المراضع وذلك قوله تعالى: (وقالتْ لأختهِ قصِّيهِ فبصرتْ بهِ عنْ جنبٍ وهمْ لا يشعرونَ (وحرَّمنا عليهِ المراضعَ منْ قبلُ فقالتْ هلْ أدلُّكمْ على أهلِ بيتٍ يكفلونهُ لكمْ وهمْ لهُ ناصحونَ (فقالت آسية: نعم، فرجعت كلثم وأخبرت أمها، فقدمت ودخلت على آسية، فوضعت موسى ﵇ في حجرها وأعطته ثديها، فرضع، وأقامت ترضعه إلى أن كبر وفطمته من الرضاع وماتت أم موسى ﵇.
وذكر في كتاب "خواص القرآن": قوله تعالى: (وأوحينا إلى أمِّ موسى أنْ أرضعيهِ (إلى قوله: (منَ المرسلينَ (إذا كتبت في ورقة وعلقت على امرأة قد قل حليبها، در ثديها وكثر حليبها.
وقيل: إذا تليت هذه الآية سبع مرات على سبع من الزبيب الأسود على واحدة سبع مرات، وأطعمت لمن قل حليبها أكثر بإذن الله تعالى ببركة هذه الآية الشريفة.
وذكر في كتاب "كشف الأسرار": ما الحكمة في إلقاء موسى ﵇ في اليم؟ قيل: لان المنجمين إذا ألقي شيء في الماء يخفى عليهم أمره، فأراد الله أن يخفى على المنجمين حال موسى حتى لا يخبروا به فرعون، وأراد أيضًا أن يبين لأمه حفظه، فقال: ألقيه في التلف لأنجيه بالتلف من التلف. وقال أيضًا: سلميه إليَّ صبيًا أسلمه لك نبيًا، وأيضًا: فكما مجاه في البحر في الابتداء، كذلك أنجاه في الانتهاء، وأغرق فرعون في البحر.
وعن ابن عباس ﵁: إنما سمِّيَ موسى لأنَّهُ ألقي بينَ شجرٍ وماءٍ، فالماءُ بالقبطيَّةِ "مو"، والشجرُ "سا".
وقال الثعلبي: عاش موسى ﵇ مائة وعشرين سنة.
1 / 4
وذكر في التفسير قوله تعالى: (... اقذفيهِ ... (ألقيه في التابوت، (... فاقذفيهِ في اليمِّ ... (في النيل (... فليلقهِ اليمُّ بالسَّاحلِ ... (الجانب (... يأخذهُ عدوٌّ لي وعدوٌّ لهُ ... (يعني فرعون.
وروي: أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا فوضعته فيه وقيرته، ثم ألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر الكبير، فبينما هو جالس على بركة مع آسية، إذ [هم] بالتابوت، فأمر به، فأخرج ففتح، فإذا صبي به أصبح الناس وجها، ً فهم فرعون بالأمر بقتله لولا موافقته لطلب ءاسية، ولم يعلم أنه قاتله إذا كبر.
وقال في كتاب "تفسير مدارك" قوله تعالى (يذبِّحُ أبناءهمْ ... (إلى آخرها وسبب الذبح أن كاهنًا قال لفرعون: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يديه. فقيل: إنه ذبح في طلب موسى تسعين ألف وليد.
وروي: أنها حين ضربها الطلق، كانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها. فعالجتها حتى ولدت، فلما وقع إلى الأرض، هالها نور بين عينيه، ودخل حبه قلبها فقالت القابلة: ما جئتك إلا لأقتل مولودك، وأخبر به فرعون ليقتله، ولكني وجدت حبًا ما وجدت مثله، فاحفظيه، فلما خرجت القابلة جاءت عيون فرعون فلفته في خرقة، ووضعته في تنور مسجور، ولم تعلم ما تصنع، لأنه طاش عقلها، فطلبوا، فلم يلقوا شيئًا، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت من التنور صوته، فانطلقت وأخرجته، وقد جعل الله النار عليه بردًا وسلامًا.
وذكر بعضهم قوله تعالى: (وأصبحَ فؤادُ أم موسى فارغًا (الآية، إذا تلاها إنسان وهو على مائدة وأكل لم يشبع، وإن أكل المائدة كلها ...
وذكر لي بعضهم أن اسم أم موسى إذا تلي على قفل مقفول سقط من غير مفتاح، وقد جربته، فما وجدت له أصلًا، والله ﷾ أعلم.
[٥]
صفورة بنت نبي الله شعيب
﵇ وهي زوجة موسى ﵇ ولما كان من أمر موسى ﵇ ما كان، [ولما كبر وبلغ أشده دخل المدينة على حين غفلة من أهلها] قوله تعالى: (فوجدَ فيها رجلينِ يقتتلانِ هذا من شيعتهِ وهذا منْ عدوِّهِ «فوكزهُ موسى فقضى عليهِ (ومات القبطي من ساعته فخاف موسى من فرعون. [و] قوله تعالى: (... يا موسى إنَّ الملأَ يأتمرونَ بكَ ليقتلوكَ فاخرجْ إنِّي لكَ منَ النَّاصحين (فخرجَ منها خائفًا يترقبُ ... (وسار قاصدًا من مصر إلى مدين. قال في "المعالم" قوله تعالى (ولمَّا وردَ ماءَ مدينَ وجدَ عليهِ أمَّةً منَ النَّاسِ يسقونَ ووجدَ منْ دونهمُ امرأتينِ تذودانِ ... (إلى قوله: (فسقى لهما ... (فتقدم موسى ﵇ وزاحم القوم وسقى غنم المرأتين ثم جلس تحت ظل شجرة من شدة الحر، وهو جائع، وذلك قوله تعالى: (ربِّ إنِّي لما أنزلتَ إليَّ منْ خيرٍ فقيرٌ (وكان يعلم أنه من الأنبياء، فرجعت المرأتان.
وهما ابنتا شعيب ﵇ بالأغنام إلى أبيهما سريعًا، فقال لهما: ما أعجلكما، وكانا إذا سقوا أغنامهم يبطئون، ولا يسقون إلا بعد قومهم، ويبطئون على أبيهم قالتا: وجدنا رجلًا رحمنا، فسقر لنا أغنامنا فقالت له إحداهما قوله تعالى: ... (يا أبتِ استأجرهُ إنَّ خيرَ منِ استأجرتَ القويُّ الأمينُ (فقال شعيب ﵇ لإحداهما: اذهبي فادعيه، فذهبت وذلك قوله تعالى: ... (إنَّ أبي يدعوكَ ليجزيكَ أجرَ ما سقيتَ لنا ... (فدعته، وتبعها يمشي خلفها فوجد الريح تلعب بأثوابها فوقف وقال لها، امشي لامن خلفي ودليني على الطريق، [فإنا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء] ففعلت، وسار موسى وهي تدله على الطريق إلى أن دخل موسى على شعيب، فقال له: اجلس يا شاب وتعش. فقال موسى ﵇ أعوذ بالله. فقال له شعيب ﵇: ولم ذلك، ألست جائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون عوضًا لما سقيت لهما، فقال له: [لا] والله [يا شاب] ولكنها عادتي [وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام] فجلس موسى ﵇ وأكل.
قال في "المعالم" فعند ذلك قالت له إحدى ابنتيه (... يا أبتِ استأجرهُ (إلى آخرها فقال له شعيب قوله تعالى (... إنِّي أريدُ أنْ أنكحكَ إحدى ابنتيَّ هاتينِ على أنْ تأجرني ثماني حججٍ فإنْ أتممتَ عشرًا فمنْ عندكَ ... (قال: وشرط عليه أن يرعى أغنامه ثماني سنين، وإن أتممها عامين أخريين فذاك من عنده.
1 / 5
ولما تعاقدا قال شعيب ﵇ لابنته، وأمرها أن تعطي موسى عصًا فأعطته. وأقام يرعى الأغنام إلى أن تم الأجل، وسلم شعيب ﵇ ابنته صفورة إلى موسى ﵇ فقال لها موسى يومًا: اطلبي من أبيك أن يجعل لنا بعض الغنم، فطلبت من أبيها، فقال شعيب ﵇ لها: لكما كل ما ولدت هذا العام كل أبلق وبلقاء.
فأوحى الله إلى موسى ﵇ في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستسقى الأغنام، ففعل موسى ثم سقى الأغنام فوضعت كلها ما بين أبلق وبلقاء، فوفى لهم شعيب ﵇ بشرطه، وأقام موسى ﵇ بعد ذلك الأجل عشر حجج أخر ثم استأذن شعيب ﵇ بالمسير إلى مصر، فأذن له. فخرج موسى من مدين بأهله قاصدًا إلى مصر، فلما انتهى إلى قريب من جبل الطور أتى امرأته الطلق، وذلك قوله تعالى: (... آنسَ من جانبِ الطُّورِ نارًا قالَ لأهلهِ امكثوا إنِّي آنستُ نارًا لعلِّي آتيكم منها بخبرٍ ...) وذكر في كتاب "المدارك" في التفسير: روي أن شعيب ﵇ كان عنده عصي الأنبياء ﵈ فقال لموسى ﵇ بالليل: ادخل ذلك البيت، فخذ عصا من تلك العصي. فدخل موسى وأخذ عصًا هبط بها آدم من الجنة، ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب ﵇ فمسها شعيب، وكان مكفوف البصر، فرماها بالبيت [وضن بها] وقال لموسى: خذ غيرها، فدخل موسى فما وقع في يده غيرها سبع مرات فعلم شعيب أن له شأنًا، فقال له: خذها.
ولما أصبح الصباح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطرق، فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها كثيرًا، إلا أن فيها تنينًا أخشى عليك وعلى الغنم منه. فسار موسى بالغنم، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر موسى على كفها، فمشى على إثرها، فإذا عشب ومرعى لم ير مثله، فنام موسى ﵇ والأغنام ترعى. فأقبل التنين فحاربته العصا حتى قتلته، وعادت إلى جنب موسى دامية، فانتبه موسى ﵇ وأبصرها دامية، والتنين مقتولًا فارتاح لذلك، ولما رجع لمس شعيب ﵇ الأغنام فوجدها ملأى البطون، غزيرة اللبن، فأخبره موسى ﵇ بخبر العصا والتنين، ففرح شعيب ﵇ وحمد الله تعالى وعلم أن لموسى والعصا شأنًا، وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء، فأوحى الله إلى موسى في المنام، أن اضرب بعصاك مستقى الغنم، ففعل، ثم سقى الأغنام، فوضعت كلهن أدرعًا ودرعاء، فوفى له بشرطه. وذلك قوله تعالى: (فلمَّا قضى موسى الأجلَ ...) قال ﷺ "قضى أوفاهما، وتزوَّجَ صغراهما".
قيل: ولما عاد موسى ﵇ من الطور وجد امرأته صفورة قد ولدت ابنًا، فحملها إلى مصر وأقام بمصر يدعو فرعون إلى الإيمان وماتت صفورة في حياة موسى ﵇.
[٦]
آسية ﵍
بنت مزاحم بن فاحث بن لاوي بن يعقوب ﵇ بن إسحاق ﵇ بن إبراهيم الخليل ﵇ وهي ابنة عم موسى ﵇ وزوجة فرعون واسمه الوليد بن مصعب، وكان أبوه يرعى البقر، وبلغ من العمر مائة وسبعين سنة ولم يرزق ولدًا، فرأى بقرة يومًا ولدت عجلة فتأوه وتألم، فنادته النقرة: يا مصعب لا تحزن فسيولد لك ولد مشؤوم يكون من أهل جهنم.
ورجع مصعب فواقع زوجته، فحملت بفرعون، ومات مصعب قبل وضعه وولدته أمه وربته، وتنقلت به الأحوال حتى ملك مصر، وطغى وتجبر، وادعى الربوبية، فبلغه حسن آسية وجمالها: فأرسل إلى أبيها مزاحم أخي عمران يخطبها، وحمل إليه أموالًا وتزوجها.
وقيل: إن الله عصمها منه فكان إذا واقعها تتشبه بها جنية فيواقع الجنية. وقيل: إن السحرة الذين آمنوا بموسى ﵇ كانوا مائتي ألف وأربعين ألف ومائتين واثنين وخمسين رجلًا وهم من رؤساء السحرة وكان غرق فرعون سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين من هبوط آدم ﵇ ووفاة آسية قبل غرق فرعون بأعوام قليلة، نحو عامين أو أكثر، والله سبحانه أعلم.
وذكر في كتاب "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة": وقد قيل بنبوة نسوة دخلن مصر: مريم بنت عمران، وسارة امرأة الخليل، وأم موسى ﵇ وآسية امرأة فرعون. وممن آمن مع آسية ماشطة بنت فرعون.
1 / 6
أخرج الحاكم في "المستدرك" وصححه عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "لمْ يتكلَّمْ في المهدِ إلا عيسى، وشاهدُ يوسف، وصاحبْ جريح، وابن ماشطة ابنة فرعون". وروي عن ابن عباس ﵁ قال ﷺ "لما كانت ليلة أسري بي أتيت على رائحة طيبة، فقلت: يا جبرائيل: ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط ابنة فرعون، ذات يوم، إذ وقع المدرى من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أوَ لكِ ربٌّ غيرُ أبي؟ قالت: لا، لكن ربي ورب أبيك الله تعالى. قال: فأخبرت أباها بذلك، فدعاها وقال لها: يا فلانة أو أن لك ربًا غيري!؟ قالت: نعم ربي وربك الله. فأمر بنقرة من نحاس فأحميت ثم أمر أن تلقى بها هي وأولادها. فألقوا بين يديها واحدًا واحدًا إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها رضيع، فجيء به فتقاعست من أجله، فانطقه الله تعالى وقال: يا أمَّاه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت فما تجده هو من رائحتها".
وذكر الرازي في تفسيره قال وهب: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى وهذا غير صحيح إذ كان بين دخول يوسف ﵇ مصر وموسى أكثر من أربعمائة سنة. وقال محمد بن إسحاق: هو غير فرعون يوسف، فإن فرعون يوسف اسمه الريان بن الوليد.
وذكر في كتاب "حسن المحاضرة": أن فرعون موسى أقام بالملك خمسمائة سنة حتى أغرقه الله،. وطان قبطيًا واسمه طلما، وقيل: كان من العمالقة وكان يكنى بأبي مرة. وعن أبي بكر الصديق ﵁ قال: كان فرعون موسى أثرم. وقيل: مكث فرعون أربعمائة سنة الشباب يغدو عليه ويروح، وقيل: مكث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس، وكان يملك ما بين مصر إلى إفريقية، وعن ابن عباس ﵄ كان يقعد على كراسي فرعون مائتان عليهم الديباج وأساور الذهب.
وذكر فخر الدين الرازي في تفسيره: لما أراد الله غرق فرعون والقبط أمر موسى ﵇ بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم بطلب المال، ولتبقى أموالهم في أيدي بني إسرائيل، ثم نزل جبرائيل بالعشي فقال لموسى: أخرج قزمك ليلًا، وكانوا ستمائة ألف نفس. فلما خرج بهم، بلغ فرعون ذلك، فقال فرعون: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، وما صاح ليلته ديك. فلما أصبحوا، قال قتادة: اجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس من القبط، كل واحد على فرس حصان. فتبعوهم نهارًا، وذلك قوله تعالى: (فأتبعوهمْ مُّشرقينَ) أي بعد طلوع الشمس (فلمَّا ترآءى الجمعانِ قالَ أصحابُ موسى إنَّا لمدركونَ، قال كلاَّ إنَّ معي ربِّي سيهدينِ)، فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع ﵇ أين أمرك ربك؟ فقال له: إلى أمامك، وأشار إلى البحر، فاقتحم يوشع البحر بنفسه فسبح به الفرس، ثم رجع وقال له: يا موسى أين أمرك ربك؟ فقال: البحر. ففعل ثلاث مرات فأوحى الله إلى موسى: (... أنِ اضرب بعصاكَ البحرَ فانفلقَ ...) الآية، فانشق البحر اثني عشر جبلًا في كل واحد الطريق، فقال له: ادخل. وهبت الصبا فجف البحر وصار كل طريق يابسًا، وأخذ كل سبط منهم طريقًا، فقال لموسى: إن بعضنا لا يرى صاحبه، فضرب البحر بعصاه فصار بين الطرق منافذ وكوى يرى بعضهم بعضًا، ثم أتبعهم فرعون فرأى إبليس واقفًا ونهاه عن الدخول فهم بالرجوع فجاء جبرائيل على مهرة أمام فرعون، وكان فرعون على فحل فتبعه، ودخل فرعون البحر فصاح ميكائيل ﵇ بهم: ألحقوا، آخركم بأولكم، فلما دخلوا البحر كلهم أمر الله البحر فنزل عليهم الماء، فذاك قوله تعالى: (... وأغرقنا آل فرعونَ وانتمْ تنظرون) ذلك يوم عاشوراء فصام موسى شكرًا لله تعالى.
1 / 7
وذكر في "الكشاف" قوله تعالى (فأرسلَ فرعونُ في المدآئنِ حاشرينَ) قيل: إنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه، وروي أن الله أوحى لموسى، أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم يذبحوا جديا، واضربوا بدمها على أبوابكم فغني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتًا على بابه دم، وسآمرهم بقتل أبكار القبط، واخبزوا خبزًا فطيرًا؛ فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي وقيل: إن بني إسرائيل لما خرجوا من البحر قالوا لموسى ﵇ وذلك قوله تعالى: (... اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ ...) وقصتهم مشهورة، ومن الجد المفحم قيل: إن رجلًا من اليهود قال يومًا لعلي بن أبي طالب ﵁: ما دفنتم نبيكم حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال له علي بن أبي طالب ﵁: انتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتك لموسى (اجعلَ لنا إلهاَ كما لهمْ آلهةٌ)، انتهى والله أعلم.
[٧]
زليخا زوجة يوسف ﵇
كان اسمها راعيل، وكان اسم زوجها الأول قطفير، وكان على خزانة الريان ابن الوليد صاحب مصر، وهو الذي اشترى يوسف ﵇ من القافلة التي أخرجته من الجب، وجعله قطفير مثل ولده، ولم يكن له ولد، فأحبته زوجته.
ومما قيل في كتاب "معالم التنزيل" للإمام البغوي رحمه الله تعالى أ. هـ؟، في تفسير قوله تعالى: (ولقد هممت به وهم بها ...) . وقال ابن زيد: كان لملك مصر خزائن كثيرة، فسلمها ليوسف ﵇ ومات قطفير ثم تزوج يوسف زليخا، ولما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين؟ فقالت له: أيها الصديق لا تلمني، فغني كنت امرأة حسناء وناعمة كما ترى في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، ولما دخل عليها يوسف ﵇ وجدها عذراء فأصابها، فولدت له غلامين في بطنين أحدهما إفرائيم والآخر ميشا.
وذكر في كتاب "كشف الأسرار" ما معنى قوله تعالى: (ولقد همَّتْ بهِ وهمَّ بها) قيل: همت به حرامًا وهم بها حلالًا، وهمت به سفاحًا وهم بها نكاحًا، وقيل: همت به بالمضاجعة وهم بها بالمدافعة، وفيل: همت به شهوة وهم بها موعظة.
وذكر في "شرح الجوهرة": الفرق بين الهم والعزم، ويعرف أنه لا مؤاخذة على يوسف لأنه لم يقع منه إلا الأول لا الثاني. كذا قيل. والتحقيق أنه لم يقع منه ﵇ ولا غيرها. والآية عند أبي حاتم وغيره محمولة على الحذف والتقديم والتأخير والتقدير: (... لولا أن رأى برهان ربه ...) أي لولا رؤية البرهان لهم بها، ولكنه لم يهم لأنه رآه.
وذكر في "تأريخ ابن الوردي": أن مالك بن دعر اشترى يوسف ﵇ من إخوته بثمن بخس، قيل: عشرون درهمًا، وقيل: أربعون، وذكروا: أنه عبدهم وقد أبق فخافهم يوسف ﵇ ولم يذكر خاله لهم فسار به مالك إلى مصر وباعه إلى العزيز على خزائن الريان، فأحضره إلى زوجته زليخة ولم يكن لهما ولد فقال لزليخا: (... أكرمي مثواهُ ...) الآية.
فهوته زليخا وكتمت حبه ثم أظهرته وراودته عن نفسه فامتنع وهرب فلحقته وقبضته من قميصه فانقد، وألفيا سيدها لدى الباب. فلما رأته زليخا لطمت على وجهها وقالت: إن هذا يوسف قد راودني عن نفسي فأنكر يوسف، فهم العزيز بقتله وكان عنده طفل ابن شهرين، وهو ابن داية زليخا، فقال للعزيز لا تعجل (... إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) . فنظر العزيز فإذا القميص قد من دبر، فظهرت براءة يوسف.
وبلغ زليخا أن نسوة من نساء الأكابر قد عبنها على فعلها، فأرسلت إليهن، وأحضرتهن وأعطت كل واحدة منهن سكينًا وأترجةً، وزينت يوسف وأخرجته عليهن، فلما رأينه دهشن به وهن يقطعن الأترج، فقطعن أيديهن، وتلوثت بالدماء ولم يشعرن، فقالت زليخا لهن (... فذلكنَّ الذي لمتنني فيهِ ...) وقيل: إن النساء خلون في يوسف ليعذلنه في زليخا فراودته كل واحدة منهن عن نفسها، فأبى ثم انصرفن، وما زالت زليخا تشكو يوسف إلى زوجها وتقول: إنه يقول للناس إني راودته عن نفسي، وقد فضحني بين الناس. فحبسه العزيز.
1 / 8
ثم إن فرعون مصر الريان غضب على الساقي والخباز فحبسهما عند يوسف. فرأى كل منهما رؤيا وقصها على يوسف، وقد اقترحاهما ليختبرا يوسف، فعبر لهما يوسف كما قال الله تعالى في القرآن: (ودخلَ معهُ السِّجنَ فتيانِ قالض أحدهما إنِّي أراني ...) فلما عبرهما لهما، فقالا له: عجبًا منك تعبر لنا رؤيتين كاذبتين! فقال يوسف قوله تعالى: (... قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) وبعد ثلاثة أيام رضي فرعون عن الساقي وأعاده، وصلب الخباز، ولبث يوسف في السجن بضع سنين، يعني سبع سنين، وقيل اثني عشر سنة بعدد الحروف التي قالها الساقي وهي قوله تعالى: (... اذكرني عند ربك ... ٩ ثم إن الريان رأى الرؤيا فتذكر الساقي يوسف فوصفه للريان فأرسل إليه فعبرها له، ثم أحضره وأعجبه حسنه فاصطفاه لنفسه.
ومات العزيز فجعل الريان يوسف مكانه، فأحسن يوسف ﵇ السياسة، وجمع الأقوات في تلك السبع سنين، فلما جاءت أيام القحط إلى أرض كنعان، وباعت زليخا جميع ضياعها وصرفت جميع مالها وافتقرت، فجاءت تستطعم يوسف فعرفها، فردها إلى نزلها ورد عليها ضياعها وأموالها وأملاكها وأرسل إليها طعامًا كثيرًا، ثم استأذن ربه في زواجها فأذن له فتزوجها يوسف ورد الله عليها حسنها وجمالها، ودخل عليها فوجدها عذراء، وولد منها ولدين، إفرائيم وميشا.
وذكر الرازي في تفسيره: قال وهب: إن فرعون يوسف هو فرعون موسى، وهذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف مصر وموسى أكثر من أربعمائة، وقال محمد بن إسحاق: هو غير فرعون موسى ﵇ فإن فرعون يوسف اسمه الريان بن الوليد.
وذكر في كتاب "تاريخ الأنبياء والدول": قال ابن عبد الحكيم: اشتد الجوع بمصر فاشترى يوسف من أهل مصر الفضة والذهب بالطعام، ثم اشتروا بأغنامهم ومواشيهم حتى لم يبق لهم شيء في سنتين، وفي السنة الثالثة اشترى أرضهم كلها لفرعون.
وعن ابن عباس ﵄ قال: فوض الريان إلى يوسف تدبير الملك وهو ابن ثلاثين سنة، وقيل: أوحى الله إلى يوسف في الصغر كما أوحى إلى يحيى ﵇ وألقي في الجب، وعمره سبع عشرة سنة، واجتمع مع أبيه وأمه وأخوته بعد انقضاء خمس عشرة سنة، وذلك سنة ثلاثة آلاف وستمائة وثلاث عشرة سنة من هبوط آدم ﵇ وتوفيت زليخا في حياة يوسف ﵇ ودفنت في مصر، ثم توفي يوسف ودفن في مصر نحو ثلاثمائة سنة، ثم حمل إلى بيت المقدس، وعاش مائة وعشرين سنة.
وقيل: إن يوسف ﵇ لما ألقي في الحب دعا بهذا الدعاء وهو قوله: يا عدتي في شدتي، ويا مؤنسي في وحشتي، ويا راحم عبرتي، ويا كاشف كربتي، ويا مجيب دعوتي، ويا إلهي ويا إله آبائي: إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
وذكر في "كشف الأسرار" قوله: لم قطعن أيديهن ولم تقطع زليخا يديها؟ قيل: لأن يوسف كان في منزلها، ولم تخف الفراق، وهن قطعن أيديهن للفراق، وقيل: لأنهن كن يغبن زليخا، وللبغي مصرع ويقال قطعن أيديهن لدهشتهن، والمدهوش لا يدرك وما يعقل.
وقال الكرماني في "العجائب" في قوله تعالى: (نحنُ نقصُّ عليكَ أحسنَ القصصِ) قيل: هي قصة يوسف لاشتمالها على حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وسجن وخلاص، وخصب وجدب وغيرها.
وقال في "خلاصة الإتقان": وقد صحح الحاكم النهي عن التعليم سورة يوسف للنساء، وعن الحسن: أن يوسف ﵇ ألقي في الجب وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ولقي أباه بعد الثمانين، وتوفي وله مائة وعشرون سنة، والله أعلم.
[٨]
رحمة
بنت أفرائيم بن يوسف ﵇ بن يعقوب ﵇ بن إبراهيم الخليل ﵇ وهي زوجة أيوب ﵇ بن موهب بن تاريخ بن روم بن العيص بن إسحاق ﵇ بن إبراهيم الخليل ﵇ وأم أيوب ﵇ بنت لوط ﵇. وتزوج أيوب ﵇ رحمة وله حشمة وأموال وبغل وبقر وغنم وخيل وبغال وحمير، وله خمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة ولد. وبعثه الله رسولًا لما بلغ من العمر أربعين سنة إلى أهل البثنية من الجولان من بلاد دمشق والجابية.
1 / 9
وذكر في "الجامع" قوله تعالى: (وأيُّوبَ إذْ نادى ربَّهُ أنِّي مسَّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الرَّاحمينَ) وكان نبيًا مرسلًا صاحب أنعام وحرث وأولاد، فابتلاه الله بذهاب كلها، وهلاكها، ثم ابتلاه بجسده فلم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما ربه ويقال: إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من اجله، وقوله تعالى: (فاستجبنا لهُ فكشفنا ما بهِ منْ ضرٍّ وآتيناهُ أهلهُ ومثلهمْ معهمْ) بإحياء من مات من أولاده، أو أعطاه مثلهم من أولاده، قيل: إنه قيل له: إن أهلك في الجنة إن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك فيها، وعوضناك مثلهم في الدنيا، فاختار الثانية.
وذكر في كتاب "كشف الأسرار": لما قصدت رحمة زوجة أيوب أن تقطع ذوائبها فعرف أيوب ذلك، حلف غضبًا لله تعالى لان امرأته كانت محرمة وطلبت قطع ذوائبها، فأبى وحلف، ولذلك لما عوفي قا [ل] له تعالى: (وخذْ بيدكَ ضغثًا فاضربْ بهِ ولاَ تحنثْ ...) ثم أمطر الله عليه جراراَ من ذهب، وذلك عوضًا عن البلاء الذي أصاب جسمه، ولم يسلم سوى لسانه وقلبه.
وذكر في "المدارك" في تفسير قوله تعالى: (... وآتيناه أهله ومثلهم معهم ...) وروي، أن أيوب ﵇ وكان له من البنين سبعون، ومن البنات سبعة، وله ثلاث آلاف بعير، وسبعة آلاف شاة، وخمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد، فابتلاه الله بذهاب أولاده وماله، وتمرض في بدنه ثماني عشرة سنة، أو ثلاث عشرة سنة، أو ثلاث سنين، فقالت له امرأته رحمة يومًا: لو دعوت الله ﷿ فقال لها: كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال: أنا أستحي من الله أن أدعوه، وما بلغت من بلائي مدة رخائي، فلما كشف الله عنه أحيا أولاده ورزقه مثلهم معهم.
وذكر في "الإتقان": قال ابن أبي حيثمة: كان أيوب ﵇ بعد سليمان ﵇ وابتلي وهو ابن سبعين سنة ومدة بلائه سبع سنين، وروى الطبري، أن مدة عمر أيوب ثلاث وتسعون سنة.
وذكر في "كشف الأسرار": اختلف في مدة بلائه. [و] روى ابن شهاب عن انس ﵁ يرفعه: "أنَّ أيُّوبَ لبثَ في بلائهِ ثماني عشرة سنة" وقال وهب: ثلاث سنين لم يزد يومًا، وقال كعب: سبع سنين، وقيل: سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
وذكر في كتاب "البستان" أن أيوب ﵇ تزوج ليا بنت يعقوب ﵇ وقيل: رحمة بنت ابن يوسف، وهو الأصح. وقيل: إن رحمة بنت ميشا ابن يوسف ﵇ وذكر في "تاريخ ابن الوردي" ناقلًا عن "الكامل لابن الأثير: أن أيوب ﵇ بن موص بن رازج بن عيص بت إسحاق بن إبراهيم الخليل ﵇ وكان صاحب أموال عظيمة، وكانت له البثنية من أعمال دمشق ملكًا، وكانت زوجته رحمة، فابتلاه الله في جسده وكانت وتقوم بنفسها وبه، ولأنها قطعت ضفائرها، وحلف لئن عافاه الله ليضربنها مائة سوط، ولما أراد الله كشف البلاء عنه عجزت رحمة. في ذلك اليوم عن القوت فباعت ضفيرتها من امرأة برغيفين من الخبز، وأتت إلى أيوب وأخبرته فقال عند ذلك: (... أنِّي مسَّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمينَ) قال تعالى: (فاستجبنا لهث فكشفنا ما بهِ منْ ضرٍّ ...) فأرجل جبرائيل فبشره وأخذه بيده وأقامه، وأنبه الله له عينًا من تحت قدميه، فشرب منها، فشفي من جميع ما في بدنه من العلل، ثم اغتسل فيها فخرج كأحسن ما كان، ورد الله عليه ضعف ما فقد له من الأموال، ورد إليه أهله وأولاده، ورد إلى زوجته رحمة حسنها وجمالها، وولدا لأيوب ستة وعشرين ولدًا ذكرًا. ومنهم: بشر وهود والكفل ﵇.
ولما عوفي أيوب أمره الله أن يأخذ عرجونًا من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ضربة واحدة ليبر في يمينه ففعل كذلك وكان أيوب ﵇ نبيًا في عهد يعقوب ﵇ في قول بعضهم.
وذكر في "التحفة" لابن حجر: أن الرسول من البشر ذكر حر، أكمل معاصريه غير الأنبياء عقلًا وفطنةً، وقوة رأي، وخلق معصومًا، ولو من الصغيرة سهوًا، ولو قبل النبوة على الأصح. سليم من دناءة أب، وخنا أم وإن عليا، ومن منفر كعمى وبرص وجذام.
وذكر في "المصابيح" قال ﷺ: "بينا أيُّوُب يغتسلُ عريانًا فخرَّ عليهِ جرادٌ من ذهبٍ، فجعلَ أيُّوبُ يحتثي في ثوبهِ، فناداهُ ربُّهُ: يا أيوبُ، ألمْ أكنْ أغنيتكَ عمّا ترى؟ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى بي عن ركبتك".
1 / 10
وماتت رحمة في حياة أيوب ﵇ وقيل: عشت بعده قليلًا، وماتت ودفنت بأرض الشام. والله أعلم.
[٩]
حنة بنت فاقوذا
وهي زوجة عمران، وأخت زوجة زكريا ﵇ وأم مريم ﵍ تزوجها عمران، ولم تحمل منه وأسنت، ولم يكن لها ولد فأبصرت يومًا طائرًا يطعم أفراخه، فتحركت لذلك نفسها، واشتاقت للولد، وتمنت أن يكون لها ولد حتى تحن عليه مثل هذا الطائر، فهنالك دعت إلى الله تعالى أن يهب لها ولدًا، وقالت: اللهم لك علي بأن رزقتني ولدًا أن أتصدق به على بيت المقدس. فواقعها زوجها عمران، فحملت مريم ولفتها في خرقة من يومها، وحملتها إلى المسجد الأقصى، ووضعتها عند الأحبار، من أبناء هارون ﵇ وقالت لهم: دونكم وهذه النذيرة. وذلك قوله تعالى: (فلمَّا وضعتها قالتْ ربِّ إنِّي وضعتها أنثى..) الآي، فتنافس فيها الأحبار، وكان عمران قد مات قبل الولادة، فطلبها زكريا ليأخذها وقال: أنا أحق بها لأن خالتها عندي. فتقارعوا عليها فوقعت القرعة لزكريا ﵇ قيل: إنها لم تلقم ثديا منذ ولدت، وقيل: إن أمها كانت ترضعها. وذكر في كتاب "تأريخ ابن الوردي": أن حنة أم مريم ﵍، وهي أخت إيشاع زوجة زكريا ﵇ وذكر مثل ما سبق ذكره من دعاء حنة، وطلبها الولد بعد ما كبرت، وقيل: إن عمرها لما ولدت مريم كان ستين سنة، وقيل: إنها توفيت وقد بلغت مريم من العمر عشر سنين. والله أعلم.
[١٠]
مريم ﵍
بنت عمران بن آذن بن ماثين بن فيلقوس بن آسابن ياهوثا بن إينا بن رجعيم ابن سليمان ﵇ بن داود ﵇ بن اثيا بن سلمون بن عدن بن جابر ابن عسوار بن عمران بن دارم بن عمر قاص بن يهوذا بن يعقوب ﵇ ابن اسحاق ﵇ بن إبراهيم الخليل ﵇. وأمها حنة، وقد سبق الذكر في كيفية حملها، في ترجمة أمها. ومات أبوها عمران وأمها حامل بها، ولما وضعتها، و(... قالتْ ربِّ إنِّي وضعتها أنثى ...) لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد وسمتها مريم.
قال في "المعالم": ومعنى مريم: العابدة والخادمة بلغتهم، وكانت مريم من أجمل النساء في وقتها، قال أبو هريرة ﵁: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما منْ بني آدمَ [من] مولودٍ لا يمسُّه الشَّيطانُ حين يولدُ فيستهلُّ [الصبي] صارخًا منْ مسِّ الشيطانِ غيرِ مريم وابنها". ولما دخلت بها على الأحبار من أولاد هارون قالت: لهم دونكم وهذه المندورة. فتنافس فيها الأحبار، لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم وقد مات قبل ولادتها، فقال لهم زكريا ﵇: أنا أحق بها لان عندي خالتها. فلم ترض الأحبار. فتقارعوا عليها، فوقعت لزكريا، فتكلفها وذلك قوله تعالى: (... وكفَّلها زكريَّا ...) وضمها إلى خالتها حتى إذا بلعت مبلغ النساء بنى لها زكريا محرابًا في المسجد وجعل بابها في الوسط [لا] يرقى إليها [إلا] بسلم، وكان لا يدخل عليها غيره، يأتيها بشرابها وطعامها ودهنها كل يوم، وإذا خرج يغلق عليها سبعة أبواب. قال [أبو] الحسن: منذ ولدت مريم لم تلقم ثديًا قط، بل كان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول لها زكريا (... أنَّى لكِ هذا) معناه من أين لك هذا؟ قالت: (... هوَ منْ عندِ اللهِ ...) تكلمت وهي صغيرة.
وذكر في "المصابيح" عن أبي موسى، عن النبي ﷺ قال: "كملَ منَ الرِّجالِ كثيرٌ، ولمْ يكملْ منَ النِّساءِ إلا مريمُ بنتُ عمرانَ، وآسيةُ امرأةُ فرعونَ وفضلُ عائشةُ على النساءِ كفضلِ الثَّريدِ على [سائرِ] الطَّعامِ".
وذكر في كتاب "كشف الأسرار": إنما سميت مريم من قولهم رمت غي طلبت ويقال: مرت في الطاعة كمرور الحوت في اليم، وسماها الله مريم باسمها سبع مرات في القرآن العظيم ولم يسم من النساء غيرها. وخاطبها فقال: (يا مريمُ ...)، كما خاطب الأنبياءَ، وقال: (واذكرْ في الكتابِ مريمَ ...) كما قال لإبراهيم وغيره من الأنبياء. وقال: (... يا مريمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطهَّركِ ...) .
1 / 11
ومن كراماتها: رزقها بغير حساب، كما أعطى سليمان، وقال: (هذا عطاؤنا فامننْ أو أمسكْ بغيرِ حسابٍ)، وتكليم الملائكة لها، وإرسال جبرائيل إليها، وولادتها من غير مس، وبراءتها بلسان صبي، وضمها مع نبي في آية واحدة فقال تعالى: (وجعلنا ابنَ مريمَ وأمَّهُ آيةً ...) وبهذا ذهب بعضهم إلى أنها نبية.
وذكر في "حلية الأبرار" قوله مريم ﵍ ولقمان هل هما نبيان أم لا؟ فأجاب الشيخ محي الدين النووي: إن الجماهير على أنهما ليسا نبيين، وقد شذ من قال في نبوتها، ولا التفات إليه، ولا تعريج عليه.
وذكر في كتاب "شرح اللآلي"لعلي القادري قوله: ظاهر الأدلة يشير إلى نفي النبوة عن الأنثى، وعن ذي القرنين ولقمان ونحوهما كتبع، فإنه ﷺ قال: "ولا ادري أنّهُ نبيٌ أمْ ملك"، وكالخضر ﵇ فإنه قيل: نبي، وقيل: ولي، وقيل: رسول على ما في "التمهيد" فلا ينبغي لأحد أن يقطع بنفي أو وذكر في "شرح الجوهرة": أن النبي الذي تظهر المعجزة على يده فذلك يحكم بنبوته وعلى هذا [ال] قول قد ذكر صاحب "كشف الأسرار" ما ظهر على مريم من المعجزات وعد منها: كان يأتيها رزقها، وتكليم الملائكة لها، وحملها بعيسى من غير رجل. فعلى قول صاحب "كشف الأسرار" أنها نبية والله أعلم.
وذكر في "شرح الجوهرة": قيل بنبوة مريم بنت عمران كما اختاره القرطبي في "شرح مسلم" وآسية امرأة فرعون، وقيل: بعدم نبوتهما كما هو الصحيح وعليه الأكثر، فإن قلت: فقد صح الحديث عن أبي هريرة ﵁ من طرق عدة "خير نساء العالمين أربع: مريمُ بنتُ عمرانَ، وآسيةُ بنتُ مزاحم امرأةُ فرعون، وخديجةُ، وفاطمةُ". وصح أيضًا حديث ابن عباس ﵁: "أفضلُ نساءِ الجنَّةِ خديجةُ وفاطمةُ ومريمُ وآسية" فهذا يقتضي التسوية بينهن، فيعارضه قوله تعالى (... إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطهَّركِ واصطفاكِ على نساءِ العالمين) وقد تحمل على نساء العالمين في زمانها، وفضل مريم من حيث الاختلاف في نبوتها وذكرها في القرآن مع الأنبياء ﵈. وقد اختلف بنبوتها، ممن قال بنبوتها فقد احتج بقوله تعالى: (وجعلنا ابنَ مريمَ وأمَّهُ آيةً ...) وغيرها من الآيات الدالة على نبوتها، ومن قال أنها ليست بنبية احتج بقوله: (وجعلنا ...) أي شانها آية، وقيل: معناه جعلنا كل واحد آية.
واختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدمين الذين نسخت شرائعهم، وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخًا فهل تصير نبوته منسوخة؟ قال: إن نسخ الشريعة لا يقتضي، نسخ النبوة قالوا: نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال، وقد تنبه لهذا بعض الفضلاء، وقد ذكر في "الفقه الأكبر" قوله ﷺ: "كملَ منَ الرِّجالِ كثير، ولمْ يكملْ منَ النِّساءِ إلا ثلاثةَ: مريمُ وآسيةُ وخديجةُ".
وذكر في "المعلم" في تفسير قوله تعالى: (واذكر في الكتابِ مريمَ إذِ انتبذتْ منْ أهلها مكانًا شرقيًا) أي تنحت واعتزلت من قومها مكانًا في الدار مما يلي الشرق، وكان يومًا شاتيًا شديد البرد، فجلست في مشرفة تفلي رأسها وقيل: إنها طهرت من الحيض فذهبت للغسل فضربت سترًا وتجردت للغسل من الحيض إذ عرض لها جبرائيل في صورة شاب أمرد، فلما رأته يقص نحوها نادته من بعيد، قوله تعالى: (إنِّي أعوذُ بالرَّحمنِ منكَ إنْ كنتَ تقيًا) فقال لها جبرائيل: (إنَّما أنا رسولُ ربِّكِ لأهبَ لكِ غلامًا زكيًّا) فقالت له مريم: (... أنَّى يكونُ لي غلامٌ ولمْ يمسسني بشرٌ ولمْ أكُ بغيًّا) فقال لها جبرائيل: (... كذلكَ قالَ ربُّكِ هوَ عليَّ هيِّن ...) ثم رفع جبرائيل درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبست درعها، وقيل نفخ في كم قميصها، وقيل: في فيها، وقيل: نفخ من بعيد فوصل إليها الريح إليها فحملت وتنحت بالحمل وانفردت بعيدًا من أهلها.
1 / 12
قال ابن عباس ﵄: كان الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل: في تسعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وقال مقاتل: حملته مريم في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، وعمرها إذ ذاك عشر سنين، ولما ولدته حملته في الحال إلى قومها فأنكروا عليها. وذلك قوله تعال: (يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأ سوءٍ وما كانت أمُّكِ بغيًَّا) فلما سمعت إنكارهم وقولهم (فأشارتْ إليهِ) أي كلموه (قالوا كيفَ نكلِّمُ من كان في المهد صبيًا) فقال له زكريا ﵇: أنطق بحجتك إن كنت أمرت بها. وقيل لماسمع عيسى عليه اليلام كلامهم وإنكارهم اتكأ على يساره، وترك الرضاع وأقبل عليهم يشير بيمينه (قال إنِّي عبدُ اللهِ آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيًّا، وجعلني مباركًا أينَ ما كنتُ وأوصاني بالصلواتِ والزَّكوة ما دمتُ حيًا، وبرًا بوالدتي ولم يجعلني جبّارًا شقيًا، والسَّلام عليَّ يومَ ولدتُ ويوم أموتُ ويومَ أبعثُ حيَّا) فلما كلمهم صدقوا وعلموا براءة مريم، ﵍. ثم سكت عيسى بعد ذلك فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان.
وذكر في كتاب "كشف الأسرار": أن أسماء عيسى ﵇ أربعة: عيسى، وكلمة، ومسيح، وروح، فعيسى هو: الأبيض في اللغة، ويقال: غير هذا الاشتقاق له. وروح لأنه من ريح جبرائيل، ويقال: لا بل خرج من الماء من تربة أمه إلى رحمها بنفخة جبرائيل، وهو من الماء لا من الريح، ويقال: ولد من ساعته، ويقال: لثمانية أشهر، ويقال: للمدة الكاملة، وأما تسميته كلمة فلأنه صار بكلمة مخلوقًا وسماه مسيحًا لأنه كان يسيح في الأرض، ويقال: ولد ممسوحًا بالدهن، ويقال: لأنه كان يمسح الضر عن الأعمى والأكمه والأبرص ويقال: المسيح الذي لا يكون لقدميه أخمص. وفيه أيضًا: لما أمرها بهز جذع النخلة بقوله تعالى: (وهزِّيَ إليكِ بجذعِ النَّخلةِ تساقطْ عليكِ رطبًا جنيًّا) قيل: لأنها من ولد بغير أب فقال لها ذلك، فهزت بجذع يابسة بلا فحل ولا طلح طلع، لها أربع عجائب: الرطب من نخل يابس بلا فحل كيلا تعجب من ولد بغير أب ولا مس. وفيه أيضًا، لم أجري النهر بغير سعيها ولم يعطها الرطب إلا بسعيها؟ قيل: لان الرطب غذاء وشهوة. والماء سبب للطهارة والخدمة، ويقال: لما كانت وحيدة بعث إليها طعامًا من الجنة بلا سبب، فلما ولدت جاءت الواسطة فأمرها بهز النخلة. وذكر في "تاريخ ابن الوردي" ناقلًا من "الكامل" لابن الأثير قال: ولدت مريم عيسى في بيت لحم سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الاسكندر، ولهبوط آدم ﵇ خمسة آلاف وخمسمائة وأربع وثمانون، ولطوفان نوح ﵇ ثلاث آلاف وثلاثمائة واثنتان وأربعون سنة، ولمولد إبراهيم ﵇ ألفان ومائتان وإحدى وستون، ولوفاة موسى ﵇ ألف وسبعمائة وست عشرة سنة، ولابتداء ملك بخت نصر سبعمائة وثمان وثلاثون سنة، وقبل الهجرة بستمائة وإحدى وثلاثين سنة، ولما ولدته أتت به قومها تحمله فأخذوا الحجارة ليرموها ويرجموها فتكلم عيسى وهو في المهد معلقًا في منكبها (قال إني عبد الله..) الآية، فلما سمعوا كلام عيسى تركوها، فأخذته مريم وسارت به إلى مصر مع ابن عمها يوسف النجار ابن يعقوب، وزعم بعضهم أن يوسف تزوج مريم، ولم يقربها، ويوسف هذا هو أول من أنكر حملها ثم تحقق براءتها وسار معها، فأقاما في مصر اثنتي عشرة سنة، ثم عاد عيسى وأمه إلى الشام ونزلا الناصرة وبها سميت النصارى، وأقام بها حتى أرسل وقد صار له من العمر ثلاثون سنة، وابتدأ بالدعوة لستة أيام خلت من كانون الثاني، وأظهر المعجزات، وأحيا عازر بعد موته بثلاثة أيام، ولبس الصوف والشعر، وأكل من نبات الأرض، وبما تقوت من غزل أمه، وجعل من الطين طيرًا، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء.
والحواريون الذين اتبعوه اثنا عشر، وهم: شمعون الصفا، وشمعون القناني، ويعقوب بن زيدي، ويعقوب بن خلفي، وقولوس، ومارقوس، واندراوس، وتمريللا، ويوحنا، ولوقا، وتوما، ومتى.
1 / 13
ولما رفعه الله إلى السماء وقال اليهود ما قالوا، أنزله الله من السماء إلى أمه مرين وهي تبكي عليه، فقال لها: إن الله رفعني إليه، ولم يصبني إلا الخير وأمرها فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض رسلًا عن الله. ثم رفعه الله تعالى وتفرق الحواريون. وكان رفعه لمضي ثلاثمائة وست وثلاثين من غلبة الاسكندر، وكان بين رفع عيسى ومولد النبي ﷺ خمسمائة وخمس وأربعون سنة تقريبًا.
وعاشت مريم ﵍ ثلاثًا وخمسين سنة، وحملت بالمسيح ولها ثلاث عشرة سنة، وحاضت قبل حملها حيضتين، وعاشت مجتمعه معه ثلاثًا وثلاثين سنة، وبقيت بعد رفعه ست سنين.
وكان ملك اليهود الذي هم بقتل عيبس اسمه هردوس. قال ابن سعيد: وكانت اليهود قد جدت في طلبه فحضر بعض الحواريين إلى هردوس ملك اليهود، وقال له ولجماعة اليهود، ما تجعلون لي إذا دللتكم على المسيح. فجعلوا له ثلاثين درهمًا فأخذها ودلهم عليه فرفع الله المسيح إليه وألقى شبهه على الذي دلهم عليه، فقبضه اليهود وربطوه بحبل وقادوه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتي، أفلا تخلص نفسك من هذا الحبل ويبصقون في وجهه، ويلقون عليه الشوك وهو يستغيث بهم ويقول لهم: أنا فلان وهم لا يصدقونه وصلبوه على الخشبة ست ساعات ثم استوهبه يوسف النجار من هردوس ودفنه في قبر كان يوسف قد أعده لنفسه ثم ظهر لهم أنه هو الحواري الذي دل على عيسى، وأنزل الله عيسى على أمه وهي تبكي واجتمع بالحواريين وبعثهم رسلًا إلى البلاد.
وبزعمهم قال متى في إنجيله: إن المسيح قال: إني أرسلتكم إلى الأمم كما أرسلني أبي إليكم، فاذهبوا وادعوا الأمم باسم الأب والابن والروح القدس.
قلت: تعالى الله عن ذلك علوًا كثيرًا، إنما هذا من كلامهم، فإن كلام الله قوله تعالى: (لا تدع مع الله إلهًا آخر) (إنما هو إله واحد) وقال تعالى: (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) والظاهر أن قول عيسى ﵇ لهم: "الحق ليكفرن لبين أحدكم" يحتمل أنه أراد به متى، وقوله: ليبيعني.. ذلك الذي دل اليهود عليه،، اخذ ثلاثين درهمًا ثم صلب [بعد] ذلك.
ومن فضائح النصارى، ذكر في كتاب "تخجيل من حرف الأناجيل": أن للنصارى كنيسة يحجون إليها، ويزعمون أن يد الله تخرج إليهم من وراء الستر فتصافحهم في يوم من السنة، فبلغ ذلك بعض ملوكهم، فمضى إلى الكنيسة في ذلك اليوم، فلما ظهرت اليد قربها الأقساء إليه ليقبلها فقبضها، فصاح به الأقسة قالوا: الساعة تخسف بنا الأرض فقال: دعوا عنكم، لا أضعها حتى أرى صاحبها. فقالوا له: رجعت عن دينك فقال: لا، ولكني أردت معرفة ذلك فقالوا: إنها يد أسقف من أصحابنا فلا تفضحنا.
ومن فضائحهم: كان في الروم كنيسة يحجون إليها في يوم من السنة فيرون صنمًا بها، إذا قرئ الإنجيل بين يديه در ثدياه، وخرج منهما اللبن، فبحث ملكهم عن ذلك فوجد القيم قد نقب من وراء الجدار طاقة وهندمها حتى أوصلها ثدي الصنم وجعل فيها أنبوبة من نحاس. وأخفاها فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها لبنًا فيخرج من ثدي الصنم ويقطر قطة قطرة، فلا يشك من حضر أنها آية، فلما علم ملكهم ضرب عنق القيم وحلف أن لا يبقي في الكنائس صورًا، وكفر بعضهم [ب] بعضٍ.
وزعم النصارى: أن المسيح علم هذه الأقوال إلى الحواريين، ويقولون: إنها سورة ويسمونها فاتحة الأناجيل وهي: أبانا الذي في السموات، قدوس اسمك، يأتي ملكوتك، كما في السماء كذلك يكون على وجه الأرض. آتنا خبزنا قوتًا في اليوم، واغفر لنا ما وجب علينا، كما نحب أن تغفر لمن أخطأ إلينا، ولا تدخلنا التجارب لكن نجنا من الشرير، لك المجد والقوة والملك إلى الأبد. آمين فانظر رحمك الله إلى هذه الألفاظ وانظر إلى فاتحة الكتاب، فبين الفاتحة وبين هذه الكلمات كما بين الأرض والعرش لا السحاب.
1 / 14
ومما يقرءونه في الساعة الأولى من صلاتهم: المسيح الإله الصالح، الطويل الروح، الكثير الرحمة، الداعي الكل إلى الإخلاص، قلت: إذا كان المسيح هو الإله فلم لا خلص نفسه من الصلب كما يزعمون، إنما هو كلمة الله وروح منه. (وما صلبوه ولكن شبه لهم..) ويقرءون في صلاة السحر: تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا. وقاله تعالى (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحث إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب* ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم..) .
فتعسًا لهم ما أظلمهم وأعمى أبصارهم. ولهم من هذه الخرافات والكفريات أشياء كثيرة، فمنها أنهم يقرءون في الساعة الثالثة من صلاتهم: يا والدة الله يا مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة. وغير ذلك مما تنفر عنه الطباع.
ومن فضائحهم: أنه ظهر لهم في الموصل دين جديد سنة ألف ومائة وثلاث وتسعين أتت به البواتر من بلاد الفرنج، ويسمونه المسيحي، وهو أراجيف من الأول، وصارت غالب نصارى الموصل على ذلك الاعتقاد، وجعلوا يلعنون من مات قبلهم من آبائهم وأمهاتهم، ويشهدون عليهم بالكفر، فلعنهم الله وأخزاهم، ولي فيهم قصيدة ذكرت فيها فضائحهم، وقد ذكرتها في كتابي "الدر المنتشر في أدباء القرن الثالث عشر". وذكر ابن الأثير، أنه اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في مدينة القسطنطينية بمحضر من ملكهم قسطنطين، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا واتفقوا على هذه الكلمات اعتقادًا ودعوة، وهي قولهم: نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شيء وصانع ما يرى وما لا يرى، وبالابن الوحيد إيسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع. غله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وكل شيء، الذي من أجلنا وأجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد في روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب ودفن ثم قام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء، وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبمعمودية واحدة، ولغفران الخطايا، وبالجماعة واحدة قدسية مسيحية جاثليقية وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة أبد الآبدين.
فانظر وفقك الله بين هذا المعتقد السخيف، والإيمان الصادق الطاهر العفيف [في] قولنا: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى.
وذكر في "النقاية" أن العالم حادث، وصانعه الله واحد قديم لا ابتداء لوجوده ولا انتهاء لذاته، وذاته مخالف لسائر الذوات، وصفاته: الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر، والكلام القائم بذاته المعبر عنه بالقرآن المحفوظ بألفاظه المقروءة [ال] القديم، منزه عن التجسم واللون والطعم والعرض والحلول، ليس كمثله شيء، وما ورد في الكتاب والسنة نؤمن به، والقدر خيره وشره منه. أرسل رسله بالمعجزات الباهرات وختم بهم محمدًا ﷺ ونعتقد أن عذاب القبر حق، وسؤال الملكين حق، وأن الحشر والمعاد حق، وأن رؤية المؤمنين له تعالى حق، وأن المعراج بجسد المصطفى ﷺ حق يقظة، وأن نزول عيسى بن مريم قرب الساعة وقتله الدجال حق، وأن رفع القرآن حق، وأن الجنة والنار حق مخلوقتان اليوم، وأن الجنة في السماء، والنار تحت الأرض السابعة، ونعتقد أن الموت بالأجل فإذا [قال] الإنسان هذه الأشياء واعتقدها فقد حظي بالإيمان الكامل.
وفي سنة ألف مائتين وواحد قرأت ما ذكره ابن الأثير من معتقد النصارى على قس للنصارى فقال: هذا هوالإيمان الكامل؟ فسحقًا له من إيمان كامل، إنما هو ناقص وكفر محض، وكلام أساقفة وشمامسة لعنهم الله ما أظلمهم وأعمى أبصارهم.
1 / 15
ومن فضائح اليهود: ذكر في كتاب "تخجيل من حرف الأناجيل": أن قدماء اليهود عبدة الكواكب والزهرة، منهم عبدوا العجل الذي صنعه السامري ومنهم طائفة تعتقد أن لله مضاد من خلقه وهو فاعل الشر، وطائفة تزعم أن عيسى ﵇ ومحمد ﷺ نبيان مرسلان لقومهما خاصة، وطائفة تقر بنبوة موسى وهارون ويوشع، وتجحد بنبوة ما عداهم من النبيين، وطائفة تعترف بنبوة [ال] كل ما عدا عيسى ﵇ ونبينا محمد ﷺ وتزعم أن المسيح لم يبعث بعد وسيأتي.
ومن فضائحهم: زعمهم أن الله حين أكمل خلق العالم قال تعالى حتى نخلق بشرًا مثلنا، فخلق آدم. ولذلك اعتقد اليهود أن الله في صورة شيخ كبير، وأنه جالس على كرسي والملائكة قيام بين يديه تعالى الله عن ذلك. ومن فضائحهم: زعمهم أن الله لما خلق آدم ورأى معاصي نبيه كثرت قال: لقد ندمت إذ خلقت آدم فأرسل الطوفان، فأباد به من على وجه الأرض، ثم ندم وقال: لا أعود أفعل ذلك! وهل يخفى على علام الغيوب ما كان وما سيكون؟ قاتلهم الله إنى يؤفكون ما أعماهم عن الهدى! وغلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله ﵁ وأرضاه فقال:
فاسألوهم أكان في مسخهم نسخ ... لآياتِ اللهِ أمْ إنشاءُ
وبداء في قولهم ندمُ الله ... على خلق آدم أم خطَّاءُ
[١١]
إيشاع بنت فاقوذا
هي زوجة زكريا ﵇ وأخت حنة أم مريم ﵍ بنت عمران، تزوجها زكريا ﵇ ولم تحمل منه وكانت عاقرًا، وبلغت من العمر كثيرًا حتى انقطع حيضها، وكانت أكبر من أختها حنة، وقيل أصغر منها.
ذكر في "المعالم" في تفسير سورة "كهيعص" قوله تعالى: (قال ربِّ إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا ولم أكن بدعائك رب شقيا) أي قال زكريا: عودتني الإجابة فيما مضى، وقوله تعالى: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرًا فهب لي من لدنك وليًا) أي: ابنًا، وقوله تعالى: (يرثني ويرث آل يعقوب..) قال الحسن: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة والحبورة لأن زكريا ﵇ كان نبيًا مرسلًا، ورأس الأحبار. وقوله تعالى: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى..) وعن ابن عباس ﵄: أنه لم تلد العواقر مثله. وقوله تعالى: (قال رب اجعل لي آية..) أي دلالة على حمل امرأتي، لأنها عاقر وقد كبرت وأسنت قال تعالى: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) أي: صحيحًا سليمًا من غير بأس ولا خرس، وكان الناس ينتظرون خروجه من وراء المحراب، فخرج عليهم متغيرًا لونه، فأنكروه وقالوا له: ما لك؟ فكتب لهم في الأرض (.. أن سبحوا بكرة وعشيا ...) لأنه كان يخرج عليهم بكرة وعشيًا، فلما كان وقت حمل امرأته إنشاع ومنع من الكلام خرج إليهم وأمرهم بالصلاة [إشارة]، ولماتم حملها ولدت يحيى ﵇ ولما صار له من العمر ثلاث سنين أتاه الله الحكم صبيًا، قرأ التوراة وهو صغير وذكر في "تاريخ ابن الوردي": أن إيشاع ولدت يحيى ﵇ قبل ما ولدت مرين ﵍ عيسى بستة اشهر، فكان مولد يحيى سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الاسكندر، ولهبوط آدم ﵇ خمسة آلاف، وخمسمائة وأربع وثمانين.
وكان لهردوس حاكم اليهود بنت أخ، فأراد أن يتزوجها حسبما هو جائز في دين اليهود، فنهاه يحيى ﵇ عن ذلك، فطلبت أم البنت من هردوس قتل يحيى فامتنع، فعاودته هي والبنت وألحت عليه، فأمر بذبح يحيى ﵇ فذبح لديهما قبل رفع المسيح بمدة يسيرة.
وذكر في "تاريخ الدول": ولد يحيى قبل عيسى بستة اشهر، ونبئ وهو صغير، وكان لليهود ملكًا اسمه آجب، وقيل: هردوس، وكان يكرم يحيى، وكان يحب بنت أخيه. وقيل: بنت زوجته، فشاور يحيى بأن يتزوجها، فمنعه، فبلغ [منعه] أم البنت، فعمدت حين جلس هردوس للشرب وزينت بنتها وأرسلتها إلى هردوس لتسقيه الخمر، فإذا راودها تأبى حتى يعطيها رأس يحيى في طشت، ففعلت، ولما راودها أبت وطلبنا منه ذلك، فبعث الملعون إلى يحيى، وهو يصلي في محراب داود ﵇ فذبحوه وحملوا رأسه في طشت، وأدخلوه على هردوس، والراس يتكلم ويقول: لا تحل لك، ووضعوه قدام تلك العاهرة، ثم أمر هردوس بدفنه، والدم يغلي منه ويفور، فوضعوه في حفرة، في دار هردوس.
1 / 16
ثم خسف الله بهردوس وزوجته وبنتها العاهرة، وذلك سنة خمسة آلاف وستمائة وأربع عشرة.
وذلك الذبح قبل رفع عيسى ﵇ إلى السماء، واستمر الدم يغلي ويفور ثلاثة وأربعين سنة، حتى سلط الله على اليهود طيطرس، وقيل: بخت نصر، وقتل اليهود وخرب بيت المقدس، وقد قتل من اليهود نحو سبعين ألفًا فعند ذلك أهبط الدم الذي كان يفور من رأس يحيى، وماتت أمه إيشاع قبل ذبحه بسنين، ودفنت في بيت المقدس، وقد أسنت، والله ﷾ أعلم.
وذكر في "الإتقان" يحيى أول من سمي بنص القرآن، ولد قبل عيسى بستة أشهر، ونبئ صغيرًا، وقتل ظلمًا، وسلط الله على قاتله، بخت نصر وجيوشه، وإنما سمي يحيى لأنه أحياه الله بالإيمان وقيل: أنه أحيا به رحم أمه، وقيل: لأنه استشهد والشهداء أحياء، وقيل: معناه يموت، كقولهم المفازة للمهلكة، والسليم للديغ.
وذكر في "كشف الأسرار" قوله: لم أعطاه الحكم صبيًا؟ قال: لأن أباه قال: (واجعله رب رضيًا) فأكرمه في أول الحال بالحكمة ليكون مرضيًا من أول عمره إلى آخره، وأكرمه بالحكمة في صباه ليعتاد الصلاح، لأن النفس ما عودتها به تتعود [عليه]، لأنه كان فيه ثلاثة أشياء وهي: قوله تعالى: (.. وسيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين..) وأما تلك الحكمة: فإن الله أكرم أربعة من الصبيان بأربعة أشياء: يوسف بالوحي في الجب، وعيسى بالنطق في المهد، وسليمان بالفهم، ويحيى بالكلمة. فإن قيل: لم ابتلاه الله بالقتل؟ قيل: لأنه ليس في الدنيا درجة بعد النبوة أبلغ من الشهادة، فأكرمه الله بها.
انتهى والله أعلم.
[١٢]
سارة
زوجة داود ﵇ وقيل: اسمها آسية، وقيل: كليثمة، وهي من بني إسرائيل، وكانت حسنة في الغاية بديعة الجمال.
وذكر في "المعالم" في تفسير قوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة..) وذكر في فتاوى ابن حجر المكي [أنه] سئل عمن لها أزواج في الدنيا؟ [فأجاب]: هي فقي الجنة لآخر أزواجها أو لأحسنهم خلقًا في الدنيا. وفي "شرح الروض في الخصائص": ولأن المرأة لآخر أزواجها كما قاله ابن القشيري في "مجموع الأحباب" نقلًا لأبي الفرج، وروي عن أبي الدرداء وحذيفة: "إن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا"، وجاء أنها تكون لأحسنهم خلقًا.
وفي "حاشية الأشباه" للحموي روى الطبراني في "الكبير والأوسط": عن أم سلمة ﵂، ولفظه قلت يا رسول الله، المرأة تتزوج الزوجين والثلاثة والربعة في الدنيا، ثم تموت فتدخل الجنة، ويدخلون معها، من يكون زوجها منهم؟ قال: يا أم سلمة: "إنها تتخير فتختار أحسنهم خلقًا، فتقول: أي رب، إن هذا كان أحسنهم معي خلقًا فزوجنيه" [قالت] أم سلمة: ذهب حسن الخلق بخيري في الدنيا والآخرة.
وذكر في كتاب "كشف الأسرار" قوله: سؤال: لم سمي داود ﵇ داود؟ قال ابن عباس ﵁ هو بلسان العبراني، من لا عمر له، فلذلك وهب له آدم من عمره ستين سنة، وقيل: أنه حصل له الداء بالذنب الصغير، والود من الله بالتوبة، وقلت في لغز داود.
أي اسم قد تسامى ... عند رومٍ وعرب
أول الاسم سقم ... آخر الاسم خشب
وذكر في "تاريخ ابن الوردي" نقلًا عن الكامل: لما صار لداود ﵇ من العمر خمس وخمسون سنة، وهي السنة الثامنة والعشرون من لكه، كانت قصته مع الخصمين، وتزوج داود زوجته، ولما صار له سبعون سنة توفي، وذلك سنة خمس وثلاثين وخمسمائة لوفاة موسى ﵇ ومن وفاة موسى ﵇ إلى هبوط آدم ﵇، ثلاثة آلاف وثمانمائة، وثمان وستون سنة، وتوفيت زوجته في حياته قبل مماته بثلاث سنين، وقيل: بسنتين، والله ﷾ أعلم.
[١٣]
؟بلقيس
1 / 17
بنت الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن وائل بن حمير بن عبد شمي بن تشخب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح علايه السلام وهي زوجة سليمان ﵇ ملكت اليمن بعد أبيها سنة أربعة آلاف وأربعمائة وثماني عشرة سنة من هبوط آدم ﵇ وذكر في "المعالم" أن بلقيس كانت أمها من الجن، [و] كان أبوها ملكًا في اليمن، وقد ملك قبله أربعون ملكًا، وهو آخرهم، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفوًا لي أن أتزوج منكم. فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها.
قال العلماء ما ثبت إنجاب أولاد من جني أو جنية وقيل أن أحد أبوي بلقيس كان جنيًا، فلما مات أبوها طمعت بلقيس في الملك فأطاعها قوم، وعصاها آخرون وملكوا عليهم رجلا، وافترقت مملكة اليمن فرقتين، ثم إن الرجل أساء السيرة في مملكته وجعل يمد يده إلى حرم رعيته، ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه، فلما بلغ ذلك بلقيس أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها الملك، فأرسلت إليه أن اجمع رجال قومي واخطبني، فجمعهم وخطبها، فجاءوا إليها وأخبروها فرضيت وقالت: أجبت الولد فزوجوها منه، فلما زفت إليه خرجت في أناس كثيرين فلما جاءته سقته الخمر حتى سكر، ثم جزت رأسه، وانصرفت من الليل إلى منزلها، فلما أصبح الناس رأوا الملك قتيلا، ورأسه منصوب على باب دارها، فاجتمعوا إليها، وقالوا: أنت بهذا الملك أحق من غيرك، فملكوها عليهم، فملكت اليمن بأسره.
1 / 18
قال ابن عباس ﵁: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعًا في ثلاثين ذراع، وطوله في السماء ثلاثون ذراعًا. وقال مقاتل: طوله ثمانون ذراعا في ثمانين، وطوله في السماء ثمانون، وقيل: طوله ثمانون ذراعًا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه ثلاثون وقيل: كان سريرًا ضخما مضربا من الذهب، مكللا بالدر والياقوت والزمرد، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق وكان في ملكها في أيام سليمان ﵇ فاتفق أن سليمان ﵇ سار في الجهاد، وكانت الطيور تظله من الشمس، والهدهد دليله إلى الماء، يعرف الماء تحت الأرض، ويراه كما يرى في الزجاج، ويعرف قريبه وبعيده، فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيخرجون الماء. فنزل سليمان منزلا فاحتاج إلى الماء فتفقد الهدهد فلم يجده، فقال: ما لي لا أرى الهدهد؟ وكان سليمان قد وافى نحو صنعاء ورأى أرضا حسنة تزهر خضرتها، فنزل هناك، وقال الهدهد في نفسه: إن سليمان قد اشتغل بالنزل، فأرتفع نحو السماء وأنظر إلى طول الدنيا وعرضها، ففعل، ورأى بستان بلقيس فنزل إليه فوجد هناك أيضًا هدهدا مثله واسمه عنفير، واسم هدهد سليمان يعفور فقال عنفير ليعفور: من أين أقبلت، وإلى أين تريد؟ قال: من الشام مع سليمان بن داود، فقال عنفير: من سليمان؟ قال يعفور: ملك الجن والشياطين والإنس والطير والوحش والهوام والرياح، فمن أنت؟ قال عنفير: أنا من هذه البلاد. فقال له: ومن يملكها؟ قال بلقيس، وتحت يدها اثنا عشر ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، فهل لك أنت تنطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ فانطلق معه، ونظر إلى بلقيس وملكها، ورجع إلى عند سليمان وقت العصر، وكان سليمان قد سأل النسر عن الهدهد، فقال: ما أدري أين هو؟ فغضب سليمان وقال: لأعذبنه أو لأذبحنه، ثم دعا بالعقاب سيد الطيور فقال: علي بالهدهد. فرفع العقاب نفسه بالهواء فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض عليه، فناشده الله وقال له: ارحمني فولى عنه العقاب فقال له: إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو يذبحك، ثم توجها فلما وصلا العسكر لقبه النسر والطير فقالوا له أين كنت فلقد توعدك سليمان. وأخبروه. فقال الهدهد: وما استثنى قالوا: بلى، قال أو ليأتيني بسلطان مبين. قال: نجوت إذًا، ثم أتيا سليمان، فقال العقاب أتيتك به، فلما قرب الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض. فلما دنا منه أخذ برأسه، وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدًا، فقال الهدهد: جئتك بسلطان مبين، فعفا عنه، وسأله ما: الذي أبطأك عني؟ فقال قوله تعالى: (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم) الآية. قال سليمان للهدهد قوله تعالى: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) فدلهم الهدهد على الماء فشربوا ورووا الدواب، ثم كتب كتابا: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، ألا تعلوا علي، وأتوني مسلمين، ولما تم الكتاب طبعه بالمسك. وختمه بخاتمه، قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم وتنح وكن قريبًا منهم فانظر، ماذا يرجعون؟ فأخذ الهدهد الكتاب وسار به إلى اليمن، وأتى بلقيس فكانت بأرض يقال لها مأرب تبعد عن صنعاء ثلاثة أيام، فوافها في قصرها وقد غلقت الأبواب، لأنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب، ووضعت المفاتيح تحت رأسها فأتاها الهدهد وهي نائمة على قفاها، فألقى الكتاب على نحرها، هكذا رواه قتادة، وقال مقاتل: حمل الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس بلقيس، وحولها القادة والجنود فرفرف، ورفعت رأسها بلقيس تنظر إليه، فألقى الكتاب في حجرها، وقال ابن منبه: كان لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا رأتها سجدت لها: فجاء الهدهد وسد الكوة بجناحيه، فارتفعت الشمس ولم تعلم بلقيس فقامت تنظر إليها، فرمى الهدهد الكتاب إليها، فأخذته بلقيس وقرأه، فلما رأت الخاتم ارتعدت وعلمت أن الذي أرسله أعظم ملكًا منها فخرجت وجلست على سريرها وجمعت قومها وهم اثنا عشر قائدًا مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وعن ابن عباس: كان مع بلقيس مائة ألف قيل مع كل قيل مائة ألف، والقيل ملك دون الملك الأعظم. وقال مقاتل: أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، كل واحد منهم على عشرة آلاف، فقالت لهم بلقيس (إني ألقي إلي كتاب كريم، إنه من
1 / 19