قال أحمد: إنه قد تقدم القول فى أن الماء عكر الطبيعة. فإذا كان كذلك، فإنه أولى الأركان بالتشبث والضبط.
قال أفلاطون: والآنية أيضا مما يسهل فيها الضبط إذا استعملها النحرير.
قال أحمد: إن هذه الآنية وعد الفيلسوف إخراج عملها فى الرابوع الأول، وهى الآنية التى لا يحلها الماء ولا تذيبها النار. فيقول: إذا ضبط الحاذق العمل فى هذه الآنية من غير دخيل يدخله عليه — تهيأ له.
قال أفلاطون: والآنية كعمل الإله لوعاء الجنس اللاهوتى الذى أخذ طينة فعجنها وخلطها بالماء والنار، فصار الماء لا يحلها والنار لا تذيبها، وصار أولى الأشياء لضبط وعاء الجزء اللاهوتى الطالب لمحله.
قال أحمد: إن من رأى الشيخ أفلاطون أن الأنفس لما سلكت من أجرام السموات فوقعت فى الطبائع السفلية كان المتشبث بها من الطبائع ركن الرطوبة وهو الضابط للنفس والمانع له عن أفعاله كمنع السحاب والضباب نور الشمس وضياءه، وأن الإله الأول — جل ثناؤه — فرق بين أجزاء الرطوبة المتشبثة بالأنفس فكانت أجزاء سيالة رخوة، فجعل لها الإله حينئذ بحكمته أوعية صلبة من جرم مخالط للنار والماء، لا النار تذيبه ولا الماء يحله، وهو جوهر العظام الذى منه القحف وعاء الدماغ. فلما أن جعل الله تعالى هذا الوعاء أراد منه أن يحله من رباطه فى أزمنة طويلة لئلا يلحق النفس فى مفارقته ما ليس هو محتمل له، فيكون الداعى إلى انغماسه فى الطبيعة. فلما وجب أن يبقى الزمان الطويل، فتح إليه الأبواب التى هى الحواس، ثم أوصل بذلك الجسد، ليكون الخادم له والمعين على ما يقاسيه من مجاذبة الطبيعة ومنابذتها. ثم جعل فى هذا الجسد أعضاء التناسل والأعضاء القابلة للأغذية وغير ذلك مما قد أخبرت العلة فيه فيه فى سائر كتبنا. وسنأتى فى هذه الكتب ببعض ما يستدل به الأصيل الرأى. فقد وجب بوجوب هذا القول أن جميع أعضاء الإنسان خلق للنفس ومن أجله، وأن كل ذلك مطيع للنفس والنفس المستولية عليها.
صفحة ١٦٣