اعلم أن من آراء الأوائل المخصوصين بالعلم والفضائل أن الشىء الذى من أجله كانت الأشياء إله لا يرى ولا يتحرك، وأن بإرادته كان العقل المميز، وبإرادة العقل كانت النفس البسيطة، ومن أجل النفس كانت الطبائع المفردة التى تولدت منها المركبة؛ ويرون أنه لا يعرف الشىء إلا بما فوقه: فالنفس فوق الطبيعة وبها تعرف الطبيعة، والعقل فوق النفس وبه تعرف النفس، ويعرف العقل وما فوقه ويحيط به ذلك الإله الفرد الذى قد بان استحالة الوقوف على ماهيته، إذ كان قد تقدم القول أنه لا يعرف الشىء إلا بما فوقه. فإذا كان أرفع ما فينا العقل، وهو تعالى فوقه، فبالواجب أن لا نقف على ماهيته إلا باعتقاد وجود معرفة استدلال بما كان من أجله جل ثناؤه، لا بالإحاطة بمعرفة ماهيته. — وقد قال الفيلسوف فى كتاب «ديالغون»: «إنى جلت السماوات الثلاثة: سماء الطبيعة المركبة، وسماء المفردة، وسماء النفس — ليس هناك مسلك، وجذبتنى الطبيعة فانجذبت». فهذا القول النفيس لم يضعه الفيلسوف استدلالا على هذا العلم، بل لمراده أن لا يخلى كلامه من محضر للحق مخلص للقسم، وإرادته فى هذا النوع من العمل أن يعرف التدبير الأدون بالتدبير الأعلى.
قال أفلاطون: والنفس أعون للطبيعة من العقل، كما أن العقل أعون للنفس إلى أن قال: وذلك البعد الواقع.
قال أحمد: إذا كانت الطبيعة من أجل النفس، كما أن النفس من أجل العقل، فالنفس بالطبيعة أولى لقرب مشاكلتها. فالواجب أن تعرف الطبيعة بالنفس، كما يجب أن تعرف النفس بالعقل، لا سيما إذا فعلنا ذلك فإنما نبلغ ونرتفع إلى العلم بالمراقى، الذى هو تدبير الفلاسفة ومذاهبهم.
صفحة ١٦٠