- 4 - الرد على الكندي الفيلسوف
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعترته
1 -[ قال الكندي ] : اعلم ، أسعدك الله ( 1 ) ، أن أعلى الصناعات الإنسانية درجة ( 2 ) ، وأشرفها مرتبة ، صناعة الفلسفة ، التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان . ولا نجد ( 3 ) مطلوبا من الحق من غير علة ، وعلة كل شيء وثباته الحق ، لأن كل ماله إنية له حقيقة ، فالحق اضطرارا ( 4 ) موجود ، إذ الإنيات ( 5 ) موجودة .
2 - قال : وإنما نعلم كل معلوم إذا [ نحن ] أحطنا بعلم علته ، لأن كل علة إما أن تكون عنصرا ، وإما صورة ، وإما فاعلة ، أعني ما منه مبدأ الحركة ، وإما متممة ، أعني ما من أجله كان الشيء . والمطالب العامة ( 6 ) أربعة : هل ، وما ، [ وأي ] ، [ ولم ] ، فهل باحثة عن الانية ، وما فبحث عن الجنس في كل ما له جنس ؛ وأي فبحث عن الفصل ، وما وأي جميعا عن النوع ؛ ولم عن العلة التمامية . وبين أنا متى أحطنا بعلم عنصرها فقد أحطنا بعلم نوعها ، وفي علم النوع علم الفصل ، فإذا أحطنا بعلم العنصر والصورة والعلة التمامية ( 7 ) ، فقد أحطنا بعلم حدها ؛ وكل محدود فحقيقته في حده .
صفحة ٣٦٣
3 - قال محمد : اختصار هذا ، أنا متى أحطنا بعلم الأصل أحطنا بعلم ما بعده .
4 - وذكر أهل الرياسة فقال : نصبوا كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق بل للترؤس والتجارة بالدين ، وهم عدماء الدين ، لأن من تجر بشيء باعه ، ومن باع شيئا لم يكن له ، ومن تجر بالدين لم يكن له دين ، وحق ( 1 ) أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها وكفرا ، لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة ( 2 ) ، [ وجملة ] علم كل نافع والسبيل إليه ، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه ، واقتناء هذه جميعا هو الدين ( 3 ) الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه ، فإن الرسل صلوات الله عليهم إنما أتت بالإقرار بربوبية الله تعالى وحده ، ولزوم القضايا المرتضاة عنده ، ورفض الرذائل المضادة للفضائل في ذاتها وعواقبها .
ما في الفن الثاني
5 - الوجود الإنساني وجودان : أحدهما : وجود الحواس الذي هو لجميع الحيوان معنا منذ نشوئه ، وهذا الوجود الذي ثبتت صورته في المصور ( 4 ) فأداها ( 5 ) الحس إلى الحفظ ، فتصور وتمثل في النفس ، والحس يباشرها بلا زمان ولا مؤونة ، والمحسوس كله ( 6 ) ذو هيولى فكله ذو جرم . والوجود الثاني أقرب من الطبيعة وأبعد عنا ، وهو وجود العقل . وبحق كان الوجود وجودين ، إذ الأشياء كلية وجزئية ، أعني بالكلية الأجناس ( 7 ) [ 93 ظ ] لكل الأنواع والأنواع لكل الأجناس ، والجزئية للأشخاص أجزاء من النوع ، والأنواع أجزاء من الجنس . فالأشخاص الجزئية الهيولانية واقعة تحت الحواس ، والأجناس والأنواع لا توجد إلا بقوة من قوى النفس التامة ، وتلك القوة هي العقل .
صفحة ٣٦٤
6 - قال محمد : اختصار هذا أن الحواس تجد ( 1 ) الأشخاص وأن العقل يجد المعاني .
7 - قال : وكل متمثل نوعي جزئي ، وما فوق النوعي لا يتمثل للنفوس ، لأن المثل كلها [ محسوسة ] ، ولكنه مصدق ومحقق ، متيقن اضطرارا ، كقولك ( 2 ) هو لا هو غير صادقتين ( 3 ) في شيء بعينه . وهذا وجود للنفس لا يحتاج إلى متوسط ولا مثال له في النفس ، لأنه لا لون ولا صوت ولا رائحة ولا طعم ولا ملموس . ومثله لو قال لنا : إن جسم الكل ليس خارجا منه لا خلاء ولا ملاء ، وهذا لا يتمثل لأن ' لا خلاء ولا ملاء ' لم يدركه الحس ولا لحقته النفس ( 4 ) ، فيكون له فيها مثال ، وإنما هو شيء يجده العقل اضطرارا . فاحفظ ، حفظ الله عليك جميع الفضائل ، وصانك من جميع الرذائل ، هذه المقدمة لتكون لك دليلا قاصدا إلى الحقائق ( 5 ) ، فإن بهاتين السبيلين كان الحق من جهة سهلا ، ومن جهة عسرا ، لأن من طلب تمثيل ما لا يتمثل عشي عنه ، كعشا أعين الوطاوط عن درك ( 6 ) الأشخاص الواضحة لنا في شعاع الشمس .
8 - قال : والهيولى موضوعة الانفعال فهي متحركة ، والطبيعة علة أولية لكل متحرك وساكن .
9 - قال محمد : يقول فالطبيعة فوق الهيولى ، والهيولى هو حد التمثيل والإدراك بالحس ، فكيف يدرك ما فوقها بالتمثيل لا يدرك إلا بعلته وفي الطبيعة .
10 - [ قال ] : وعلم الطبيعة ( 7 ) علم كل متحرك ، فما فوق الطبيعة من المحدثات أيضا [ هو ] لا متحرك لأنه [ ليس ] يمكن أن يكون الشيء علة كونه ،
صفحة ٣٦٥
فليس علة الحركة حركة ، ولا علة المتحرك متحركا ، فما فوق الطبيعة ( 1 ) ليس متحركا . وهذا القول صواب ، إن شاء الله ، لأنه ليس فوق الطبيعة من المحدثات إلا العدم ، والله عز وجل فوق الحركات والسكون ، لا تأخذه صفة حركة ولا سكون . فهذا صواب من الوجهين .
11 - قال : وقد ينبغي أن لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني ، لأنه ليس كل مطلوب عقلي موجودا بالبرهان ، لأنه ليس لكل شيء برهان ، إذ البرهان بعض الأشياء ( 2 ) ، ولو كان للبرهان برهان لكان هذا بلا نهاية ( 3 ) ولم يكن لشيء وجود بتة ، لأن ما لا ينتهي إلى علم أوائله فليس بمعلوم ، فلا يكون علم بتة [ 94 و ] .
12 - [ قال ] محمد : هذا كقوله لا ينبغي أن يطلب ما فوق الهيولي بالتمثيل . ونعم ما قال إن شاء الله ، لأن البرهان هو النور في نفس اللفظة ، فإدراك هو كإدراك البصر نور واضح لا يحتاج إلى برهان . فلو قال قائل : ما البرهان أن هذه السماء وهذه الأرض قيل له : لو أجبناك على ذلك ببرهان طلبت على البرهان برهانا إلى ما لا نهاية له ، ولكن هذا برهانه ، لأن ما ذهب في إدراك البرهان إلى إدراك الطبيعة وإدراك الحواس نسميه إقناعا .
13 - قال الكندي : فلا ينبغي أن يطلب الإقناع في العلوم الرياضية ، بل البرهان ، لأنا إن استعملنا الإقناع في العلم الرياضي كانت إحاطتنا به ظنية ( 4 ) .
14 - [ قال ] محمد : ثم خلط أنواع المطلوبات خلطا ما هو بمحصل لأنه قال : فلا يطلب في العلم الرياضي إقناع ، ولا في العلم الالإهي حس ولا تمثيل ، ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في الإقناعية ( 5 ) برهان ، ولا في أوائل البرهان برهانا .
صفحة ٣٦٦
15 - أوائل العلم الطبيعي هو الهيولاني عنده الآن . والجوامع الفكرية عنده البرهان . وأوائل البرهان ما فوق الطبيعة والفطرة من أوائل الأمر بلا تعريف . وكيف يكون هذا محصلا والعلم الالإهي وأوائل الطبيعة واحد في الإدراك لا يتمثل ، فهلا جمعهما وقال : حسا ولا تمثيلا ؛ وفي الآخر الجوامع الفكرية ، والجوامع الفكرية هي المتمثلات ، وهو قد قال : كهو لا هو لا يدرك إلا اضطرارا .
16 - قال محمد : صحته عندي أن لا يطلب في العلم الرياضي علم الربوبية ؛ وما كان فوق الهيولى إقناعا ، ولكن اضطرارا ، ولا يطلب في أوائل البرهان ، وهو علم الحس ، برهان ، كما ذكرنا في أمر السماء والأرض .
صفحة ٣٦٧
17 - ثم ذكر ( 1 ) حقيقة معنى الأزلية فقال : ينبغي أن نقدم القرائن ( 2 ) التي نحتاج إلى استعمالها . فنقول : إن الأزلي هو الذي لم يجب لشيء ( 3 ) هو مطلق ، أي بل هو مطلق ، فالأزلي لا قبل ( 4 ) لهويته ، فالأزلي هو لا قوامة هو [ من ] غيره ( 5 ) ، [ هو ] ولا علة له ولا موضوع ولا محمول ولا فاعل له ولا سبب ، أعني ما من أجله كان ، فلا جنس له ، لأنه إن كان له جنس فهو نوع ، والنوع مركب من جنسه العام له ولغيره ، ومن فصل ليس في غيره ، فله موضوع هو الجنس القابل لصورته وصورة غيره ، ومحمول هو الصورة الخاصية له دون غيره ، فالنوع كله موضوع ومحمول . فالأزلي لا يفسد ، لأن الفساد ( 6 ) إنما هو تبدل المحمول لا الحامل الأول ، فأما الحامل الأول الذي هو الأيس ( 1 ) فليس يتبدل ، لأن الفاسد ليس تتباين إنيته بتباين إبنيته ( 2 ) ، وكل متبدل فإنما يتبدل ( 3 ) بضده الأقرب معه ( 4 ) في جنس واحد كالحرارة ( 94 ظ ) إلى البرودة ، لا بالأبعد ( 5 ) من المقابلة كالحرارة باليبس أو بالحلاوة أو بالطول ، والأضداد المتقاربة هي في جنس ( 6 ) واحد ، فالفاسد جنس ، والأزلي لا جنس له ، فهو لا يتبدل ولا ينتقل من نقص إلى تمام ، لأن الانتقال استحالة ، وهو لا يستحيل . والتام هو الذي ليست له حاله ثانية يكون بها فاضلا ، والأزلي لا يمكن أن يكون ناقصا ، لأنه لا يمكن أن ينتقل إلى حال يكون بها فاضلا ، لأنه لا يمكن أن يستحيل بتة ، فالأزلي تام اضطرارا ، وإذا كان الأزلي لا جنس له ، فما له جنس وأنواع غير أزلي ، فالجرم لا أزلي .
صفحة ٣٦٨
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
18 - قال الموحد : هذا قولنا والرد على من جهل ربه وسماه بغير أسمائه التي سمى بها نفسه ، ووصفه بغير صفاته ، سبحانه وتعالى عن ذلك ، لا نقول في الباري عز وجل كما قال يعقوب بن إسحاق : إنه علة ، فنقض ( 1 ) توحيده وهدم بناءه وكذب نفسه في المقدمات التي برهنها في بدء أقاويله ، وزلت قدمه فهوى ، فلا نقول في الباري عز وجل إنه علة لما بعده إذا نحن أردنا كشف العلل والبلوغ إلى حقائقها في ذواتها والإبانة عنها ، لأنا نوهم السامع أنه من جهة المعلول وجب أن نسميه بعلة ، إذ ليست العلة علة معقولة إلا لمعلول ، ولا المعلول معلول إلا لعلة بالقول إلى مضاف اضطرارا ، فتوهم إذن السامع أن خالقه مضاف إلى كل معلول بغير إطلاق ، تعالى ربنا عن ذلك وتقدس .
19 - والكندي يقولنا بما قلنا بلسانه وينطق به كتابه عنه ويشهد به عليه ، فقد كرر القول وبرهنه أنه عز وجل لا يلحقه المضاف ولا ما شاكل المضاف ، وإن رام أحد بعد أن يخطئ على نفسه فيسميه بعلة [ على ] ألا يكون حينئذ من المضاف في عقله بكل جهده ، لم يجد ذلك ولم يقدر أن ينفي عنه الإضافة من بعد أبدا ، بل أوجب بذلك التبعيض والنهاية ، وكل ما نفى عنه الكندي وغيره إذ سماه علة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فلذلك لا نقول نحن إنه علة أفعال المعلولات ، ولا علة المعلولات ، ولا علة العلة ، في مطلبنا هذا الذي نريد به قصد الواحد الصمد جل ثناؤه ، بل نقول : هو الأحد الأول الصمد مبدع العلل ، وهو الذي ( 95 و ) ابتدع المعلولات لأجل تلك العلل التي سبقت منه ، فوجب أن يكون الإبداع من أجلها كائنا تاما متقنا على ما هو عليه من التنضيد والإتقان .
صفحة ٣٦٩
20 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الأول : هل هي غيره بذواتها وغير الإبداع الكائن منها قيل له : نعم ، ومن أجل تلك العلل الأول البسيطة الانهمال كانت المهويات المركبة في أنفسها حقائق ؛ والعلل الأول هي التي تسمى بالحقيقة عللا ، لأنها وضعت لتكون معلولاتها المتهوية منها بفعال فاعلها عز وجل ، ولا نقول إن العلل كانت لأجل واضعها المخرج لها من عدم ، لأنه الغني عن ذلك والمتعالي عنه عز وجل { ليس كمثله شيء } ( الشورى : 11 ) فهو لا من أجله وجب أن يكون شيء ، لأنه هو لا موضوع لشيء يجب ، فيقال لذلك الشيء إنه من أجله كان ، كما ( 1 ) يقال ذلك في العلل الموضوعة ، سبحانه وتعالى عن ذلك .
21 - فإن قال قائل : فلولاه لم تكن العلل ولا المعلولات . قيل له : نعم ، لولاه لم تكن ، ولكن ليس علة لذلك ، لأن اسم العلة فيه معنى الضرورة إلى معلولها ، وفي المعلول معنى الضرورة إلى علته ، لأن العلة موضوعة للمعلول ، والمعلول محمول على العلة ، فهما مضافان مضطران متصلان غير مفترقين ولا غنيين ، لحاجة كل واحد منهما إلى صاحبه . وليست هذه صفة الخالق الأول الذي كان قبل أن يبدع شيئا غنيا عن كل شيء ، ثم لم يحل به حال لأنه لا لتأخذه الاستحالة فيعود من غني إلى احتياج ، أو من انفراد ( 2 ) إلى اتصال ، أو من وحدانية ( 3 ) إلى تكثر . وفرقان صفته من صفة العلة ، أن العلة منساقة إلى معلولها ، كما ذكرنا ، وهو عز وجل ليس بأولى أن يكون واضعا لها منه بأن لا يكون ، سبحانه وتعالى عن أن يكون أولى بالترك ، لا بإيجاد معرفته منه لإيجادها . كمثل ما يلزم العلل من ضد هذا القول ، بل هو المختار الذي لا يلزمه في أحد المعنيين ولا في شيء منها اضطرار ، لا يلزمه فعل شيء ولا يلزمه ترك شيء ، كلتا الحالتين معدلتان في اختياره . والعلل الموضوعة ليست بأولى بالترك لمعلولاتها وإعدامها منها إلا بترك ما قد جعل لها في قوتها أن تفعله ويوجد منها ، لأنها مضطرة إلى فعل ما جعل فيها فعله .
صفحة ٣٧٠
22 - فالأول الغني المتعال جل جلاله بريء مما يلزم الموضوعات من الضرورة لإيجاد ما لها في القوة إيجاد { ليس كمثله شيء } هو الخالق وما سواه مخلوق ( 95 ظ ) ، وهو المختار وما سواه مضطر ، ولذلك لا تلحقه الأسماء المجازية ولا الخفية لحوق اللزوم والتطرد في العقول العالمة به عز وجل ، إنما الأسماء والصفات موضوعة على معنى هي له بدائع ، لا لتلحقه ، كما هي لاحقة الذي هو مركب منها معار جوهرها ، لأنا نقول في الصفات : إنها لاحقة المركبات بجوهرها ، وإن المركبات مركبات من جوهرها مكسبة إياه ، وهذا اللحاق اللاحق الذي لا يلحق بارينا تعالى من صفاته وأسمائه ، وإنما هي دلالات دالة للعقول ، دالة عليه سبحانه وبحمده الواحد الصمد . ونقول إنها ليست بخالقة ولا نقول مخلوقة ، بل هي صفات مجعولة موضوعة ، والخلق مركب منها ، أعني من جوهرها البسيط . وأقول في الأسماء الصوتية : إنها للصفات مثالات باتفاق المعارف ، كائنة ما كانت تلك الأصوات ، كانت من صنع الله تعالى أو من صنع الآدميين ، وأقول ذلك في الأسماء المرقومة كائنة ما كانت من لون مداد أو غير ذلك .
23 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الموصوفة البسيطة السابقة ( 1 ) لتهوية المهويات ، قيل له : الاسطقصات الأربع الخارجة من عنده التي هي للخلق موضوعة منفعلة ، بعد إذ هي لا كائنة ولا موجودة ، فهي الاسطقصات الأربع المتهوية المتأيسة ( 2 ) في المكان الجامع لها ، وهي الطبائع الأربع المتأيسة ( 3 ) السابقة للخلق من ربها عز وجل : الأرض والماء والنار والهواء ، هي العلل الموضوعات لتهوية جميع المهويات في المكان الجامع .
24 - فإن قال قائل : فهل من علة أوجبت هذه العلل ، فكانت العلل لأجلها قيل له : العلل ليست بلا نهاية ، لأن هذا ( 4 ) الاسم الذي هو لها جامع يحصرها في الحال للذي له صارت عللا ، فتقصر إليه ضرورة بلا زيادة دائمة . فإن وجد واجد
صفحة ٣٧١
علة داخلة في الحال سوى ما ذكرنا فليأت على ذلك بسلطان بين : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } ( الأنعام : 144 ، الأعراف : 37 ، يونس : 17 ، الكهف : 15 ) بأن سماه علة فأدخله بزعمه في حال العلل التي هو عنها متعال في وجود كل ذي عقل ، وهو محدث العلل وواضعها ومدخلها بالاسم والحال ، بلا تبديل لها ما دامت كائنة ، كما وضعها عليه في البدء ، إقامة لدلائل الضرورة فيها ، وإبانة لنفسه عنها بالارتفاع عليها سبحانه وبحمده { تعالى } عما يقول المبطلون علوا كبيرا .
25 - ثم يقال له : هل هي علل إلا لأنها بحال هي بد للمعلولات علل ( 96 و ) موضوعة بذلك البتة ، وأن ذلك حال الفاضل لها من كل معلول خرج منها ويكون من أجلها ، وأنها ليست بأولى بأنفسها منها بإخراج المعلول بتة فهذا بيان الضرورة فيها إن أقررت ، وإن أنكرت جحدت العلل والمعلولات والمتعارف المعقول منها .
26 - فإن قال : سماه علة ، عز وجل ، لأنه للعل بحالها [ ما ] هي لغيرها على مثل سواء ، فهذا الكذب الصراح ، فليأت عليه بسلطان بين ، لأن الحال لا تلزمه ولا تستطيع أن تلحقه صفتها من جهة من الجهات أبدا .
27 - فإن قال : فهل هي للعلل ببعض ما هي لغيرها . قيل له : سبحان الله عن التبعيض والتجزئة ، أو أن يكون نفسه لغيره لا لنفسه ، فإن ظهر له نفي جميع ذلك عنه ، كما هو أهله عز وجل ، بالحقيقة الظاهر ( 1 ) نورها لكل ذي هدى وإنصاف . فما سبيله إذن إلى أن يسميه علة يجب لإيجابه شيء سواه ، كما وجبت أن تكون المعلولات لأجل العلل ، وأن تكون العلل لأجل المعلولات الواجبة منها ضرورة ، وانعطف بعض الخلق على بعض وانحصر في نفسه بما حده له خالقه ، ولم يكن له أن يجاوز الحادث إلى القدم ، ولا المحصور إلى المطلق ، ولا المخلوق إلى الخالق ، إنما نفع اسم من كتب نبوة أو حجة فطرة ، فإن أقر بالنبوة فليس هذا الاسم منها ، وإن ذهب إلى حجة العقول ، فقد ظهر به نفي ذلك عنه سبحانه .
28 - وإن سأل السائل عن حال العلل فقال : وما الحال التي من أجلها صارت عللا ، فلا يجب لتلك الحال أن يكون الباري علة المعلول قيل له : الاشتراك في
صفحة ٣٧٢
حال العلل ، لأن تلك الحال جامعها معا لكون كل معلول يكون من أجلها ، كالاشتراك بحالها الجامع لها . فالباري تعالى لا علة ، إذ ليس مشتركا معها في الاسم ولا في المعنى ، وإذ هي بالفصل بائنه عنه ، لأن الفصل غاية لها ، وهو لا غاية له عز وجل .
29 - فإن قال : فلم صارت هي عللا سابقة دون أن تكون هي المعلولات المسبوقة قيل له : لأنها بالفصل الأكبر في بسطها أحق من المعلولات ، وإذ هي بالفصل الأكبر أحق ، وجب لها السبق قبل كل معلول ، لأنه محال أن تكون هي في بسطها وعظم أقدارها في الفصل الأصغر الذي هو أحق المعلولات من بعدها ، فلأجل [ 96 ظ ] صغر الفصل صارت معلولات من غير اضطرارا ، ولأجل عظم الفصول العظام صارت عللا لغيرها واستحقت السبق لها ، وهو أصغر قدرا منها . ثم هي لا تعود بتلك الفصول العظام إلى أن تكون معلولات لغيرها أبدا إلا أن يكون قبلها ذو فصل أعظم منها . ولو كان قبل كل عظيم أعظم منه ، كان هذا بلا غاية . والباري جل وعز لا يقال فيه إنه ذو فصل ، أي يناله بذاته ، على معنى أن تكون المنفصلات فيه كما هي في العلل ، لأن الموضوع في المحدود محدود ، والفاصل لذي الغاية ذو غاية ، والمحيط بذي النهاية إحاطة الاتصال ذو نهاية ، وهو الذي لا غاية له ، عز وجل عن ذلك .
30 - فإن قال قائل : ولم كان هذا كذا قيل له : لأنه لم يكن بد من أن يكون صغير وكبير ، ليعقل الصغير والكبير ، ولا يعقل الصغير إلا بالكبير ، ولا الكبير إلا بالصغير ، فلما لم يكن بد من أن يعقل وضع على المعنى الذي به يعقل ، فكان الكبير أحق بالسبق لكبره وفضله عن الصغير وحمله له ، فكان علة له ، وتأخر الصغير لصغره إذ حق ذلك له ، إذ لا يقوم إلا في حامل قبله يسعه ، فالكبير مكان ، والصغير متمكن .
31 - فإن قال : ولم لم يكن المعلول بالفصل الأكبر أحق من العلة قيل له : فهذا تكرير بعد الفصل ، ولكنا نقول له : لأن الفصل الأكبر فاصل عنه ، فالكبير يفصل الصغير ، لا الصغير يحيط بالكبير ، ولا يعقل المعقول إلا بفصله الأحق به ، فالصغير معقول بفصله الأصغر إذا أضيف إلى ما هو أكبر منه ، فإن لم يضف إلى ما هو أكبر منه لم يعقل أن فصله صغير أو كبير بتة ، وإذا لم يعقل دثر بلا زمان عن
صفحة ٣٧٣
المعقول ، لأن ما لا يعقل فصله دائر غير قائم ، لأن الفصل هو الحق المبين له في العقول ، فإن لم يكن الحق فقد بطل ما قارنه الحق ، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال .
32 - واعلم أن الحق الأول الرب الأعلى المحقق للحق ، الفاصل لكل شيء مرتفع عن أن يقال بالحق حق ، كما حق بالحق غيره ، لأنه المحقق للحق الذي حقت به الأشياء ، ولو وجب أن يكون المحقق للحق بالحق حق أعني قبل الحق - لوجب أن يكون المكون للكون بالكون تكون ، وهذا رأس المحال ، وهو الذي أحق الحق الأكبر وأحق به الأشياء ، فأثبتها وأبانها به ، فمحال أن تكون حقت بالحق حقيقته ، بل ( 97 و ) ويحق عندنا بالحق على معنى الدلالة عليه أنه الحق المبين ، لأن كل ما حقت إنيته بشيء ، فذلك الشيء قبل إنيته ، فافهم .
33 - ومن الزيادة في إيضاح قولنا في العلة والمعلول أنا نقول : إن الباري عز وجل خلق المعلولات على ما هي عليه من الإتقان والإحكام والثبات باضطراره للعلل التي وجبت المعلولات من أجلها واضطراره إياها . وهذا قول صحيح جدا . ألا ترى المركب المعلول المنضد ذا أجزاء لا محالة بعضها مخالف في الطبع لبعض : حار وبارد ، ورطب ويابس ، وثقيل راسب ، وخفيف طاف ، ومتوسط بينهما شبيه بالطرفين كليهما ، وشديد غاية ضعيف بتة ، ومتوسط بينهما قد توسط بين طرفيهما مما يلي الشديد شديد ليس كشدة الأشد ، ومما يلي الضعيف ضعيف ليس كضعف الأضعف ، فأنت لو طلبت سوى الأربعة بجهدك وجهد غيرك لم تجده بتة في شيء من العالم . فيحق ما قلنا على المعلولات إنها فعل الله تعالى باضطرار العلل لبعضها ، لأنا نرى الأربعة في المعلول المركب مبنية بوزن العدل ، قائمة بالإتقان لما يجب على ما يجب عند دفع العلل من أماكنها في الفصل المراد للمعلول . فالأثقل الراسب منها تجده في المعلول قد نزل في الحضيض الأسفل حاملا لسواها ، كالماء الذي هو في الأسفل من العالم الأكبر ، وكذلك هو في العالم الأصغر ، وكذلك هو في النبات والحيوان الكلي . والأخف الطافي تجده لا محالة في الأعلى من العالم الأكبر وفي كل شيء سواه . والمتوسط بين الطرفين قائم لا محالة باعتدال موزون ، فإن نزل فيه الجزء حامت ( 1 ) الأطراف عليه
صفحة ٣٧٤
ليعتدل ويسكن ، ذلك تقدير العزيز العليم .
34 - فالمعلول فرع لعلته بوصفنا هذا ، والعلة أصل لمعلولها ، وحركة التأليف لا يمكن أن يكون منها التضاد القائم بينهما ، فهي من محرك غيرهما ليس مثلهما لا محالة . فالمعلولات ، كما فسرنا ، كناية لأجل العلل الأول التي اضطرت إلى فعل معلولها ، والعلل الأول الباعثة بما جعل في طبعها لكون كل معلول موضوعات لمنفعلاتها ، وليست العلل بعد ، إذ هي النهاية من [ كل ] شيء ، سوى العدم الذي هو اسم ناف لكل شيء من وهم أو لفظ . ومن قال كقول يعقوب بن إسحاق إنها من أجل ( 97 ظ ) الباري ، تعالى عن ذلك ، فالباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء ، إلا أن الأول لا يكون إلا عن سبب معلوم أنه لا موضوع هو لشيء يكون من أجله انفعال ذلك الشيء ، فقد نقض قوله إنه لا موضوع إذن ، والباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء ، لأن الأولى لا يكون إلا عن سبب متقدم يوجب له أن يكون أولى ، فهو مطلق الاختيار عز وجل تام الغنى .
35 - فرأس العلم وقطبه وذروته العليا أن تعلم أنه ليس شيء من المعلولات كائنا إلا لعلة موضوعة ، وضعها من تعالى عن أن يكون علة أو معلولها ، ولكن كل شيء كان فلعلة موضوعة كان ، وجب عند الله عز وجل أن يكون المعلول من أجلها كائنا لأن الله عز وجل تعالى وتقدس وتنزه وارتفع عن أن يضع نفسه ليكون من أجله شيء ، لأن الخالق لا يعود مخلوقا والموضوع مخلوق ، ولكنه القادر على أن وضع ما من أجله كان كل شيء ، فتعالى ذو الكبرياء والعزة والعظمة والجلال عما يقول الملحدون في أسمائه ، خطأ وعمدا ، علوا كبيرا .
36 - وإنما دخل الغلط على الكندي على ما قال ، لأنه نزه الباري زعم - أن يكون خلق الخلق من أجل غيره ، فظن أنه إن أوجب ذلك وجب أن ذلك الغير سابق له ومستحق للقبل قبله ، فاعجب كيف طمس عليه عقله ، فإذا لم يجد صحيحا أن يكون فعل من أجل إنيته ولا من أجل غير قبله ، أن يقول فعل من أجل شيء بعده فيصيب ، فنعوذ بالله من العمى عن الهدى والضلال عن الحق والزيغ عن الطريق المستقيم .
صفحة ٣٧٥
37 - أرأيت لو قال له قائل قولا مختصرا : يا أيها الكندي المنكشف المبهوت ، نحن نقول : إن الباري جل جلاله فعل ما فعل من أجل المفعول ، إذ لا يجوز أن يكون مفعوله مفعولا تاما كائنا ذا أفعال وانطلاق وانتفاع إلا بفعل التمام له الذي من أجله كان المفعول وتم ، وكان هو من أجل المفعول ، إذ لا يكون علة إلا لمعلول ، ولا معلول إلا لعلة متشاكلان . وإذ لا يجوز أن يعلمه المفعول إلا وهو منفعل وإرادته أن تعلمه هي علة انفعاله ، فللإرادة كان المفعول ، وللمفعول كانت الإرادة ، ليس لواحد منهما عن صاحبه مخرج . فإن قال : هو إذن من [ أجل ] أن يعلمه فعله ، قيل له : نعم ، من أجل أن يعلمه ، وأن يعلمه هي إرادته التي من أجلها فعل ، لأن علم المفعول هي الإرادة التي من أجلها قام ، فافهم .
38 - وقوله إن الإنية فعلت من أجل إنيتها فباطل محض ، لأنه لا يجوز أن يقال على الإنية الواحدة بقول متوسط ، إذ لا غاية لها فيدخلها توسط ، لأنه لو دخلها توسط كان لها إذن بعض يفعل من أجله هذا قول لا يحمله العقل عن الله عز وجل ، تعالى الله عنه ، لأنه إن كان فاعلا من أجل [ 98 و ] ذاته ، والذات وحده لا غيرية فيها ، فهو لذاته فاعل ما فعل ، وذاته قبل ذلك وحدة لا علة فيها ، هذا من أشنع المحال والتناقض لمن عقله . وأيضا إن كان فعل من إجل إنيته ، فالفعل لازمه ضرورة بما كانت الإنية علة للفعل ، لأن العلة والمعلول من المضاف ، لأن العلة علة المعلول ، والمعلول معلول العلة ، لا يجد العقل سوى هذا .
39 - وأيضا إن كانت الإنية فعلت من أجل ذاتها ، إذ الفعل ليس ضرورة ، فهي فاعلة لبعضها وما سواها معدوم ، لأن بعضها علة فعل ، وبعضها علة إيجاب فعل ، فهذا كله يدخل على الكندي .
40 - وأيضا إن كان الفعل من أجل الإنية ، فالفعل لازمه ضرورة ، فالفعل إذن لم يزل والإنية متقدمة للفعل ، فهي إذن قبل الفعل ، فهي إذن أزلية والفعل حادث ، والفعل من أجل الإنية ، فالفعل إذن لم يزل ، فالفعل إذن حادث والفعل لم يزل ، هذا خلف ، أراد شيئا فكانت الإرادة السابقة علة موضوعة لما يكون ، ولا علة لها هي لأنه ليس قبلها مثلها ، والعلة والمعلول متشاكلان ، فمحال أن يكون لها علة ، إذ ليس
صفحة ٣٧٦
قبلها شيء يشاكلها فيكون علة لها ، فالله تعالى محدثها وباعثها ، وهي علة بأن سبقت كل معلول بعدها . هذا عندي أصح من أن يكون من أجل المعلول .
41 - تفسير الإرادة : الإرادة في الفصل الأكبر وهي الحد الأول وهي النهاية القصوى وهي العلة الأولى ، فليس للفصل فصل ، ولا للحد حد ، ولا للنهاية نهاية ، ولا للعلة علة . الفصل هو بنفسه فصل ، والحد هو بنفسه حد ، والنهاية هي بنفسها نهاية ، والعلة هي بنفسها علة .
42 - العلة والمعلول من المضاف الذي لا يكون بعضه إلا لبعض ، وهو يتسابق بالفعل ليس هو كالمكان والمتمكن ؛ المكان والمتمكن والحد والمحدود والفصل والمفصول لا يتسابق بتة ، وأما العلة والمعلول فيتسابق بالفصل ، وأظن القائلين إنه لا يتسابق هم الدهرية ، لأن هذا اللفظ يعضد ضلالهم فيزيدهم ضلالا . والناقص والتام يتسابقان أيضا ، فاحفظ إن شاء الله ما يتسابق مما لا يتسابق وتحفظ منه . وإنما يعنون بقولهم في العلة والمعلول : مضاف لا يتسابق ، لأن العلة فيها معنى المعلول مضمر في لفظها ، إذ لا يكون علة إلا لمعلول فيها معنى المعلول قائم لا تسبقه ، كما المعلول فيه معنى العلة لا يسبقها ، لأنه إذا ذكر فذكرها قائم فيه ، فهو لا يسبقها بزمان ، لغنى في ذكره إذا ذكر ومعناه وصف ، وهي تسبق معلولها بالذات كالأب يسبق الابن ، والمالك يسبق المملوك [ 98 ظ ] .
43 - تفسير الفصل الأول : الفصل الأول فصل العدم من الوجود ، فهل فصل للمفصول وحد للمحدود ، فالمحدود فيه عن العدم ، والمفصول فيه من العدم ، هو العلم . هي المقادير الأول التي عنها كان الكون كله ، هي مثال الكون كله ، ولا يمكن أن يكون هذا الفصل الأكبر إلا العدم ، والعدم لا يكون علة ولا معلولا . فمن زعم أن العلة التي هي العدم علة ، قيل له : مشاكلة لها أو غير مشاكلة فإن قال : مشاكلة ، قيل له : فهي إذن العلة الأولى حتى تنتهي إلى علة ليس بعدها علة مشاكلة ، فإذا لم يجد أن الخالق والعدم ، قيل له : فالخالق ليس مشاكلا للمعلول فيكون علة ، والعدم لا يكون علة ولا معلولا ، فإلى العلة إذن ، فهي إذن ضرورة بنفسها علة لا علة لها ، ولغيرها كانت علة ، وذلك الغير هو المحدث لها ، والأول الذي ليس كمثله
صفحة ٣٧٧
شيء .
44 - مسألة الإمكان : نقول قولا لابد للكندي وأهل مذهبه وأشباههم من القول به ضرورة ، نقول : إن الفاعل الأول فعل فعلا كان ممكنا أن يكون قبل كونه ، فليس يقدر أن ينكر الإمكان لله تعالى في ذلك أحد ، لأن الإمكان واجب قبل الفعل لا محالة ، فلإمكان الذي ظهر ضرورة بين الفاعل والفعل هو البون الأكبر بين البون بين الفاعل والمفعول ، ثم بينه بون آخر دونه في القدر والعظم هو تحته حاجز أيضا للمفعول أن يضاف إلى البون الأعلى ، فضلا عن الفاعل الأول ، جل وعز ، وهذا البون الثاني هو الانفعال الخارج من جهة البون الأعلى الذي هو الإمكان ، ولا يجوز أن يكون الإمكان هو الانفعال ، كما لا يجوز أن يكون الانفعال هو المفعول التام المقدر المفروغ منه ، لأن الانفعال عن إمكان يكون ضرورة ، والمفعول القائم عن انفعال يكون ضرورة أيضا متتابعا . هكذا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بجميع ذلك لمن لقنه ، والحمد لله ، وليس لأحد من الملحدين عن هذا بحجة العقل مخرج أبدا ولا محيص .
45 - تفسير الإمكان : فقل الآن للمتشاغل عن نور النبوة التي أبانت الألفاظ مع المعاني بوحي الله تعالى ونوره : فلإمكان هي الإرادة ، هي الملك ، هي العرش ، وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر ، وهو الحق المحيط بالكل ، وهو الأمر الأعلى ، والنور الأعظم ، والحجاب الأرفع المضروب بين الخالق وخلقه ، ثم دونه إلى الخلق حجاب آخر ، وهو مكان الانفعال ، وهو المثال الكائن [ 99 و ] من بعد الأمر الأول الجامع لأقدار المكونات كلها ، قدر كل ما يكون ، وزمام ما قد كان ؛ وهو العلم والكرسي القائم تحت عرش الرحمن ، فسبحان رب العالمين رب العرش العظيم .
46 - فقل الآن على ترجمة ما قالت حكماء الفترة ( 1 ) ولم يفصحوا بالتسمية إذ عدموا نور النبوة : الإمكان هي الإرادة الجامعة لكل مراد من المنفعل والمفعول ،
صفحة ٣٧٨
والانفعال هو الطبيعة المتحركة تحت الإمكان ، فهو مدة خروج الأقدار المفعولة عنه ، فهو الزمان ، ونهاية حركة الانفعال إلى حد ؛ الإمكان الإرادة الجامعة لانفعال المنفعلات ، والإمكان نهاية للزمان [ أي ] الطبيعة المتحركة للانفعال ؛ فالإمكان [ هو ] العرش والذي تحته حركة انفعال الزمان ، والذي تحت الزمان حركة المفعولات المكونات التامة هي الأوقات والسنون والأيام ، والزمان نهاية السنين والأيام ، والدهر نهاية الزمان ، فالدهر جامع للزمان القائم بحركات الصور التي هي ذات الأقدار الثلاث طول وعرض وعمق - التي هي للجرم ، وتلك الحركات التي هي حركات الأجرام هي المفصلة أوقات الانفصال أقدارها أجساما تامة ، والدهر الجامع لذلك كله هو البون الأكبر والحد الأعظم والإرادة الدائمة الأبدية لخلود أهل الجنة والنار ، وربنا المحمود ذو العرش المجيد الفعال لما يريد ، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لم يدعنا في ضلال أهل الفترة ولا حيرة أهل الفتنة وسلم .
47 - وقوله : اعلم أن الدهر هو بقاء غاية الإمكان التي يقوم الإمكان بها دائما ما بقيت تلك الغاية ساكنة في حال واحدة أو حركة واحدة لا ضد لها ، واعلم أنهما غايتان : إحداهما ساكنة والأخرى متحركة ، فالمتحركة تحمل الساكنة ، لأنا لا نجوز أن يكون ساكن قبل حركته ، لأنه لا يكون قبل حركة إبداعه وكونه ولا قبل حركة انفعاله ، فالساكن من حركة فصل ، ولم تفصل الحركة من ساكن كأنه يفسر الإرادة الأولى والحادثة هذا الكلام مدخول لأن الذي قال فيه بإمكان ( 1 ) لا بد أن يجعله قديما أو محدثا . فإن جعله محدثا زعم أنه لم يكن ممكنا له أن يفعل قبل ، فأوجب عارضا فنفى الوحدة . وإن جعله قديما أوجب الدهر قديما شيء آخر ، فنفى الوحدة .
48 - فإن تبلد ذهن سامع فازداد بيانا فقال : بين لي كيف امتنع ذلك بوجوب الإمكان والانفعال فصلان عظيمان [ 99 ظ ] والإضافة لا تقال إلا على اثنين لا بون بينهما بمكان ولا بزمان ، بإجماع من الفلاسفة الذين خطوا لكم الطريق ، فالوجود الضروري للفصلين العظيمين قطع الإضافة بين الخالق والمخلوق ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ومن جهة مائية الإضافة هلكت النصارى
صفحة ٣٧٩
بديا ، وعن إيجاب الإضافة هلكت الدهرية أيضا والديصانية والمجوس كلها ، وعن جهل ذلك هلكت المنانية والمشبهة أيضا ، وبجهل الكندي بها هلك في كتابه ، فلم يجد علة للخلق إلا الخالق ، فسماه غير اسمه ، إذ لم يجد إلا الخالق والخلق ولم يعرف الأمر . فوجود الإمكان والانفعال بحجة العقل وضرورته ، قيل : كون المعقول الخارج عنها من عدم ، وهما الدهر والزمان الكائنان بتعديهما بين المفعول والفاعل الأول ، جل ثناؤه ، فصل الإضافة ، لأنهما ليسا فعلا تاما ، بل الفعل التام أعني المفعول كائن لأجلهما ( 1 ) ، ولذلك لا يمكن أن يقال : الانفعال والإمكان فعل ، إذ الفعل المفعول غيرهما لا محالة ، وهما الدهر والزمان المدبران لذلك الفصل بين الفاعل الأول والفعل الكائن القائم المحسوس في مستقره .
49 - فإن قال : وما الذي منع أن يكون الدهر والزمان من المضاف إلى ربهما دون المفعول قيل له : منع من ذلك أنهما مضافان إلى مفعولهما الكائن عنهما ، لأن الدهر هو غاية الزمان ، أعني غاية مدة حركة الانفعال والمفعول ، والزمان مدة انفعال المفعول ، فلا يمكن أن يكون الزمان بلا غاية ، لأنه لا يكون شيء بلا غاية ، ولا يكون مفعول بلا مدة ، فالانفعال مدة المفعول ، فهما لا يصلان إلى غير ما هما مضافان إليه ، بل هما بائنان بالمفعول وزائلان به ، والمفعول ثابت بهما وزائل فيهما ، دون الوصول منه أو منهما إلى الفاعل الذي لا غاية له . والإضافة أيضا لا تكون إلا لذوي الغايات المتساوية الأبعاد والأوساط ، وإلا لم تكن الإضافة بينهما حقيقة أصلا ولا واجبة لهما أبدا . ألا ترى أنه يمتنع أن يكون المفعول مضافا إلى الزمان كله من قبل حدوث كلية المفعول المستقر في الدهر بعد زمانه ، المقضي الذي هو انفعاله المخرج له من عدم إلى وجود . والمفعول إنما يكون مضافا إلى الانفعال بأول دقيقة منه ، يكون إذن مضافا ، والإرادة الأولى المحيطة بالانفعال هي الفصل الجامع الفاصل في الانفعال إلى مثلها من الانفعال في الصغر من الزمان ضرورة ، وهكذا تقال الإضافة بينهما قولا صادقا بالتكافؤ بالدقائق ، فكيف تجب الإضافة لما لا أبعاد له [ 100 و ] ولا أوساط إذن
50 - فإن قال : فما منع أن يكون المفعول بدهره وزمانه مضافا إلى الفاعل الأول
صفحة ٣٨٠
فلا يتسابق قيل له : الزمان الذي هو انفعال المفعول إلى أن يستقر في دهر لا يتخلق به فيه بعد لتمام انفعاله ؛ قد أريناك فصل المفعول من فاعله ، لأنه مخرج من عدم إلى وجود ، وموجب عليه الحدث ، ووجوب الحدث عليه موجب لقدمه خالقه قبله ، فإذا وجب التسابق بطلت الإضافة بطل التسابق ، فافهمه .
51 - فإن تبلد فقال : فإن كان الانفعال قديما ثم ظهر المفعول حديثا قيل له : الانفعال حركة ما ، والحركة بدء ما ، وما كان له بدء فله قبل ، وما كان له قبل فهو حادث .
صفحة ٣٨١
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم
{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } وهذه زيادة تبين على من ألحد في أسماء الله فسمى ربه علة
52 - قال الموحد : نحن نقول أن الواحد الأول الذي لا مثل له يقول لأجل إرادته ، فيفعل بقوله الذي لا خلف فيه ، وهو جل وعز أبدا ، إن أراد شيئا قال له : كن فيكون ، قوله الحق وله الملك ، فقوله الحق وأرادته الحكم الفاصل ، جل ربنا وتقدس . فإن أراد ربنا شيئا كان بقوله : كن فيكون كائنا ، وإن لم يرد شيئا لم يكن . فنقول : إن الله عز وجل فاعل بالقول ، لأجل الإرادة التي سبقت منه قبل الفعل ، وهذا بين في القرآن [ مثل ] قوله تعالى : { فعال لما يريد } ( سورة البروج : 16 ) ، وهو بالقول فعال ، قال تعالى : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } ( سورة النحل : 40 ) . ونقول : إنه لو لم يشأ أن تكون منه الإرادة لم تكن ، لأنه غير مضطر إلى الإرادة ، غير مضطر إلى أن يريد ، كيف وهو الأول قبل الإرادة سبحانه الواحد الصمد الفرد الأحد فنقول : لا كائن إلا بقوله ، ولا قول يسبق منه إلا بإرادته ، وهما يحدثان منه متى ما شاء قضاءهما بلا مانع له عنهما ، فإن أراد قولا قال ، وإن لم يرد لم يقل ، فإذن لا قول يكون منه ولا إرادة إن لم يرد ، هو مالك الإرادة ومالك القول ، ومالك كل شيء سواه . فلأجل هاتين الصفتين كان المفعول مفعولا بعد أن لم يكن ، وهما علتان لكل مفعول ، لا علة قبلهما من الله لكون الكائنات سواهما . فلا يقال في الباري جل جلاله إنه علة الأكوان ( 100 ظ ) بهذا الاسم الذي لا يحسن ولا يحق أن يسمى به إن أراد مريد قصد الصمد بذلك دون الصفات ، أعني دون القول والإرادة ، لأن الصفات علل الكائنات جميعا ، وهو بوحدانيته غيرهما لا محالة ، وهي محضة صمدة كما سمى نفسه ، متعال ، ووحدانيته قديمة بلا غاية
صفحة ٣٨٢