الجزء الأول من كتاب الرد والاحتجاج على الحسن بن محمد بن الحنفية (4)
مقدمة
صفحة ٢٧٤
الحمدلله الذي علا على الأشياء بطوله، وتقدس عن مشابهة المخلوقين بحوله، الذي علا فقدر، وقدر فقهر، وعصي فغفر، وأطيع فشكر، الذي لا مثل له فيساويه، ولا ضد له فيناويه(1)، الذي لا تدركه الأبصار، ولا تجن منه الأستار، العالم بما تجن قعور البحور، وما تكن جوانح الصدور، العالم بما سيكون سبحانه من قبل أن يكون، اللطيف الخبير، السميع البصير، الجليل الحكيم(2)، الكريم الرحيم، الذي دنا فنأى، ونأى سبحانه فدنا، رابع كل ثلاثة، وسادس كل خمسة، الداني من الأشياء بغير ملامسة، المحيط بها من غير مخالطة، العالم بباطنها من غير ممازجة، فعلمه بما تحت الأرضين(3) السفلى؛ كعلمه بما فوق السموات العلى، الموجد للأشياء من غير شيء، وجاعل الروح في كل حي، خلق خلقه حين أراده، وإذا شاء سبحانه أباده، بلا كلفة ولا اضطرار، ولا بتخيل ولا إضمار، ولا حاجة منه إلى الأعوان(4)، إذا أراد إيجاد شيء كان بلا كلفة، البريء من أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، الذي لم يلده والد فيكون مولودا، ولم يلد ولدا فيكون لذلك(5) محدودا، الخالق غير المخلوق، والرازق غير المرزوق، الذي بقدرته قامت السموات بغير عماد(6)، وفرش لعباده الأرض ذات المهاد، فاستقلت الأقطار، وسجرت(7) البحار، وهطلت الأمطار، ونبتت الأشجار، وجرت الأنهار، وأينعت الثمار. فالق الحب والنوى، ومالك الآخرة والدنيا(8)، زارع كل ما يحرثون، ومنزل الماء الذي يشربون، وخالق النار التي يورون(9)، محصي الأعمال، ومؤجل الآجال، ومجري الأرزاق، ومسبب الأرفاق، الصادق في كل قول قوله، النافذ في كل شيء فعله، الذي أمر ونهى، فأمر بالتقوى، وزهد في الدنيا، ونهى عن العصيان، وحض(1) على الإحسان(2)، وخلق ثوابا، وجعل [عقابا] (3)، فاعد للمطيعين الجنان، وأجج للعاصين النيران، {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31]، قابل التوبة، مقيل العثرة، مجيب الدعوة، الذي لا يغافص(4) من عصاه، ولا يخيب أبدا من رجاه، يقبل اليسير الصغير، ويعطي عليه الكثير، الذي لم يزل قادرا ولا يزال، فسبحان ذي القدرة والعز والجلال.
أحمده على نعمائه، وأعوذ به من بلوائه، واستجير به من نقمته(5)، وأستديمه لنعمته(6)، الذي شملت خلائقه نعماؤه، وتظاهر عليهم إحسانه وآلاؤه، سائق كل غنيمة وفضل، وكاشف كل عظيمة وأزل(7).
أشهد له سبحانه بالربوبية، وبالعدل والصدق والوحدانية. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب، الغافر لمن تاب من موبقات الذنوب، البريء المتعالي عن كل نصب ولغوب، البائن عن الصفات، فليست تحده المقالات(8)، ولا تنقصه الساعات، ولا تعروه السنات، المحمود في كل الحالات.
صفحة ٢٧٥
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله، الداعي إليه، بعثه سبحانه بحجته، واستنقذ به من النار أهل طاعته، بعثه في طامية طمياء(1)، ودياجير ظلمة(2) عمياء، وأهاويل فتنة دهماء(3)، فدمغ فنيق الكفر والفساد(4)، وأنهج سبيل الحق والرشاد، وأدحض عبادة الأوثان، وأخلص عبادة الرحمن، وصدع بأمر ربه، وأنفذ ما أمره به، ودعا إليه علانية وسرا، وأمر بعبادته سبحانه جهرا، صابرا على التكذيب والأذى، داعيا لهم إلى الخير والهدى، حتى قبضه الله إليه، وقد رضي عمله، وتقبل سعيه، وغفر ذنبه، وشكر فعله، فصلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار الصادقين الأبرار.
ثم نقول من بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
............أما بعد ...
فإنه وقع إلينا كلام للحسن بن محمد بن الحنفية(5)، يؤكد فيه الجبر، ويشدد في ذلك منه الأمر، ويزعم فيه أن الله سبحانه جبر العباد أجمعين؛ من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين، وجميع الثقلين، على كل الأعمال من صالح أو فاسد أو طالح(6)؛ فرأينا أن نجيبه في ذلك، وننقض عليه ما جاء به من المهالك، ونثبت عليه في ذلك كله لربنا وسيدنا وخالقنا ما هو أهله مما هو عليه، وما لا يجوز لخلق عندالله أن يقول بغيره فيه، فاختصرنا له في قوله الجواب، وتركنا خشية التطويل كثيرا من الأسباب.
صفحة ٢٧٦
فلينظر من نظر في قولنا وقوله، وجوابنا لسؤاله، بلب حاضر، ورأي حي صادر؛ يبن له الحق إن شاء الله، ويثبت في قلبه الصدق. والحمدلله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين، محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين وسلم.
المسألة الأولى:
هل يستطيع الرسل ترك البلاغ والتغيير أم ألزموا ذلك
فكان أول ما سأل عنه أن قال: أخبرونا عن رسل الله من بني آدم، هل جعل الله لهم السبيل والإستطاعة إلى ترك البلاغ ولو شاءوا لغيروا ما أمروا به من تبليغ الوحي والعمل بالسنن؟ أو ألزموا على ذلك إلزاما، فلا يستطيعون على تركه ولا الزيادة فيه ولا النقصان منه؟
فإن قالوا: نعم، قد جعل الله لهم سبيلا واستطاعة لترك البلاغ؛ فلو شاءوا لغيروا ما نزل إليهم من كتابه وحكمته؛ فقد دخلوا في أعظم مما كرهوا؛ حين زعموا أن الرسل لو شاءوا لم يعبدوا الله بالتوحيد، ولم يعملوا له بطاعة، إذ زعموا أنهم كانوا يقدرون على كتمان الوحي والسنن.
فيقال لهم: وأنتم الآن لا تدرون هل بلغت الرسل كل ما جاءهم من الوحي والسنن أم لا؟
فإن قالوا: نعم، تقدر الرسل على كتمان الوحي والسنن إذا أرادت ذلك؛ احتج عليهم، وإن قالوا: لم تكن الرسل تقدر(1) على كتمان الوحي، ولا إبدال الفرائض، ولا ترك البلاغ؛ لأن الله ألزمهم البلاغ إلزاما؛ فلا يقدرون على تركه وكتمانه؛ فقد أجابوا، وفي ذلك نقض(2) لقولهم.
[جوابها]:
بسم الله الرحمن الرحيم
فكان أول ما سأل عنه أن قال: أخبرونا عن قولكم فيما نسأل(3) عنه، نبئونا هل الأنبياء صلوات الله عليهم مستطيعون لعمل فعلين متضادين في حالين مختلفين؟
صفحة ٢٧٧
وقولنا في ذلك، والله الموفق لكل رشد وخير، والدافع لكل سوء وضير، أن رسل الله صلوات الله عليهم قد أدوا ما أمرهم الله بأدائه على ما أمرهم، لم يشبهم في ذلك تقصير، ولم يتعلق عليهم في ذلك من التفريط(1) جليل ولا صغير، وأنهم كانوا في ذلك كله لأمر الله مؤثرين، وعلى طاعته سبحانه مثابرين، وأن الله سبحانه لم يكلفهم أداء الرسالة، حتى أوجد فيهم ما يحتاجون إليه من الإستطاعة، ثم أمرهم بعد ونهاهم، وكلفهم من أداء الوحي ما كلفهم، فبلغوا عنه ما به أمرهم، على اختيار منهم لذلك، وإيثار منهم لطاعته، وحياطة لمرضاته، لم يكن منه جبر لهم على أدائه، ولا ادخال(2) لهم قسرا في تبليغه، بل أمرهم بالتبليغ فبلغوا، وحثهم على الصبر فصبروا، فقال سبحانه: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته}[المائدة: 67]، فقال: بلغ ما أنزل إليك، ولو لم يكن التبليغ منه صلى الله عليه وآله باستطاعة وتخير لم يقل له: (بلغ)؛ إذ الأمر لمن لا يقدر أن يفعل فعلا حتى يدخل فيه ادخالا، ويقلب فيه تقليبا محال، لأن الفاعل هو المدخل لا المدخل، والمقلب لا المقلب، فلم يأمر الله عز وجل أحدا بأمر إلا وهو يعلم أنه يقدر على ضده، فحثه بأمره على طاعته، ونهاه عن معصيته، ألا تسمع كيف يقول: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}[الأحقاف: 35]، فأمره باحتذاء ما فعل من هو قبله من الرسل؛ من الصبر على الأذى والتكذيب، والشتم والترهيب، ولو كان الله سبحانه هو المدخل لهم في الصبر ادخالا، ولم يكن منهم له افتعالا؛ لقال: صبرناك كما صبرناهم، ولم يقل: اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل. وكيف يأمر ذو الحكمة والفضل، مأمورا بما يعلم(1) أنه يفعله من الفعل؟ فجل الله عن ذلك، وتعالى عن أن يكون كذلك. فهل سمعه من جهله سبحانه يأمر أحدا من خلقه أن يفعل شيئا مما هو من فعله، مما يتولى إحداثه فيهم؟ ويقضي به تبارك وتعالى عليهم، مما ليس لهم فيه فعل ولا افتعال، ولا تصرف باخراج ولا إدخال، مثل الموت والحياة وإيجاد السمع والبصر والأفئدة؟ بل ذكر ذلك كله عن نفسه، وأضاف فعله إليه بأسره، فقال: {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير} [ق: 43]، ولم يأمرهم بأن يموتوا، ولا بأن يحيوا.
صفحة ٢٧٩
وقال سبحانه إخبارا عمن سلف، وتوقيفا واحتجاجا على من جاء بعدهم وخلف : {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [ق:37]، فقال: جعلنا لهم، ولم يقل: اجعلوا، ولا تجعلوا(1). ثم قال: فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء [إذ فعل السمع والأبصار والأفئدة](2). فأراد سبحانه منهم إذ فعل لهم الأسماع أن يفعلوا هم الاستماع بها، فيستمعوا ما جاء به الرسول من أخبار من هلك من قبلهم، وإنذار من أنذر ممن هو أشد منهم بطشا فلم يقبل الهدى فأهلك. قال الله سبحانه: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} [الأحقاف: 26]. فأراد إذ فعل لهم سمعا أن يسمعوا به أخبار من نزل به ما نزل فينتهوا، ويسمعوا لرسله ويطيعوا، ويسلموا للحق ويجيبوا. وكذلك إذ فعل لهم أبصارا أراد أن يبصروا بها إلى ما خلق من السموات والأرض وأنفسهم وما ذرأ وبث؛ فيعلموا أن لهذا خالقا ومدبرا فيؤمنوا. وكذلك الأفئدة أراد بجعلها لهم إذ أوجدها فيهم أن يفكروا، ويدبروا فيعتبروا، ويميزوا فيهتدوا. ولو كان سبحانه وتعالى عن ذلك المتولي لفعل أفعالهم لم يحتاجوا إلى الإسماع والتبصير والتفكير(3)؛ إذ كان الله المتولي لإنفاذ ما أرادوا(4)، والممضي دونهم لكل فعل منهم؛ ولم يقل عز وجل: {فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم}، وكيف يستمعون إذا أسمعوا(1)، ويستبصرون إذا أبصروا(2)، وينتفعون إذا فكروا؛ وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه، وغيرهم الفاعل له المصرف لهم فيه؟
فتعالى من فعله غير فعل خلقه، ومن أمر عباده باتباع حقه. ألا تسمع كيف قوله(3) سبحانه، وإخباره عن المؤمنين والفاسقين، فقال: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} [النحل: 30]، وقال في الفاسقين: {ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} [النحل:24]، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين.
ولو لم يكن العباد متخيرين، ولا مما أرادوا متمكنين، وكان الحامل لهم على أفعالهم، المدخل لهم في كل أعمالهم رب العالمين؛ لكان هو القائل لما نزل من الحق: (أساطير الأولين)، ولم يكونوا هم القائلون بما قالوا من قولهم، والناطقون بما أنطقهم، [ولم يكونوا](4) عند العدل الجواد الرؤوف الرحيم بالعباد بمذمومين، ولا عليه بمعاقبين. ففي أقل من ذلك حجة لذوي الإيمان(5) المميزين.
***
وأما ما قال: من أنهم إن كانوا صلوات الله عليهم قادرين على التبليغ والترك، وكان تبليغهم اختيارا منهم للطاعة على المعصية، ولرضاه على سخطه؛ فما يدريكم لعلهم قد تركوا وبدلوا، أو غيروا وخانوا، أو ستروا واجبا وخالفوا؟.
قيل له: في ذلك من الحجة والحمد لله أبين البيان، وأنور القول والبرهان، ألا تعلم(6) أيها السائل(7) أن الله سبحانه لا يزكي إلا زكيا رفيعا؟، ولا يذكر بالطاعة إلا سامعا مطيعا؟، ولا بالأداء إلا مؤديا؟.
صفحة ٢٨١
وقد وجدنا الله سبحانه ذكر في توراته التي أنزلها على موسى بن عمران تبليغ من بعثه من أنبيائه بوحيه؛ من نوح وإبراهيم وغيرهما، وأثنى عليهم بذلك، وحض موسى(1)، صلوات الله عليه على الإقتداء بهم والإيثار لما آثروا من الطاعة لربهم، ثم قص قصة موسى صلى الله عليه، وذكر فضله، [وتبليغه](2) وصبره واجتهاده وفعله، في الإنجيل الذي انزل على عبده المسيح، المطهر من كل قبيح، صلوات الله عليه. ثم قص قصة عيسى على محمد، وذكر له من قصته واجتهاده وتبليغه وتبليغ غيره من الرسل؛ فقال: {وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف: 6]، فصدق بما جاء به موسى، وبشر بما أمر بالتبشير به من البشير النذير، الرؤوف بالمؤمنين الرحيم، محمد الرسول الكريم. ثم ذكر لنا في كتابه أن رسوله قد بلغ وأنذر، وأخبر أنه قد أدى كل ما يجب عليه؛ فقال: {ما على الرسول إلا البلاغ المبين}[المائدة: 99]، وقال: {فتول عنهم فما أنت بملوم} [الذاريات: 54]، ولو كان منه صلى الله عليه وآله غير الاجتهاد لم يقل سبحانه: {فما أنت بملوم} فقد برأه الله من كل دنس ولوم.
فقد بطلت حجة من أراد الطعن على الأنبياء المهتدين، المؤدين لأمر الله الخانعين(3)، بما قال عنهم وذكر فيهم رب السموات والأرضين. والحمدلله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين. تمت المسألة.
المسألة الثانية: عن إبليس
من أخطر المعصية على باله؟ ومن أين علم ما علم عن آدم وذريته؟
صفحة ٢٨٢
ثم أتبع هذه المسألة فقال: أخبرونا عن إبليس، ما أخطر المعصية على باله؟ أو من أوقع التكبر(1) في نفسه؟.
فإن قالوا: نفسه أمرته بالمعصية، وهواه حمله على التكبر، فقل: فمن جعل نفسه أمارة بالمعصية، وهواه حاملا له على التكبر؟.
فإن قالوا: الله، كان ذلك نقضا لقولهم.
ويقال لهم: فمن أعطاه علم الخديعة والمكر؟ آلله جعل ذلك في نفسه؟ أو شيء جعله هو لنفسه؟
فإن قالوا: الله جعل ذلك له؛ كان ذلك نقضا لقولهم. وإن قالوا: إن ذلك لم يكن من الله عطاء ولا قسما؛ فقد دخل عليهم أعظم مما هربوا منه؛ حين زعموا أن غير الله يجعل في خلقه مالم يرد الله أن يكون فيهم، فما أعظم هذا من القول!!
وسلهم: من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية، وأن الموت يقضي عليهم، وأنه يكون بينهم(2) لله عباد مخلصون، وأنه يحتنكهم إلا قليلا منهم؟.
فإن قالوا: إن الله أعلمه ذلك؛ فقد نقض ذلك قولهم، وإن قالوا: إن إبليس علمه من قبل نفسه، فقد زعموا أن إبليس يعلم الغيب، فسبحان الله العظيم!!
***
جوابها(3)
وأما ما سأل عنه وقاله من أمر إبليس فقال: من أخطر المعصية على باله؟ ومن أوقع التكبر والمكر والخديعة في نفسه؟
صفحة ٢٨٣
فإنا نقول في ذلك: إن الله أعطى إبليس من الفهم واللب ما يقدر به على التمييز بين الأمور، ويعرف به الخيرات من الشرور، ويقف به على الصالح من ذلك والطالح، وإنما أعطاه الله ذلك، وجعله وكل الخلق المتعبدين كذلك، لأن يعرفوا [قوله](1) ويعرف ما افترض الله عليهم [وعليه](2)، فيتبع ذلك دون غيره ويثابر عليه، ويعرف ما يسخط الله فيجتنبه ويتقيه، ويحاذر انتقامه فيه، ولو لم يعطه وغيره ذلك لم يهتدوا أبدا إلى فعل خير ولا شر، ولا تخير طاعة، ولا إيثار هوى، ولا اتباع تقوى، ولو كان [ذلك وكان] (3) الخلق كذلك؛ لكان معنى الثواب ساقطا عنهم، ولما جرى أبدا عقاب عليهم، ولو لم يجر عقاب، ولم ينل ثواب؛ لم يحتج إلى جنة ولا نار، ولما وقع تمييز بين فجار ولا أبرار، وقد ميز الله ذلك فقال: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}[الحشر: 20]، ولو كان ذلك كذلك، لكان معنى الملك والتمليك عندالله سبحانه ساقطا هنالك، ولكنه سبحانه لما خلق الخلق لم يكن للخلق بد من عمل، ولم يكن العمل كله لله رضى، ولا كله سخطا [طرا معا](4)، ولما كان من الأعمال مرض لله ومسخط، لم يكن بد من الأمر بالعمل المرضي، والنهي عن العمل المسخط، فلما كان ذلك كذلك لم يكن بد من الترغيب على العمل الصالح بالثواب، والترهيب على العمل الطالح بالعقاب، فجعل(5)الجنان ترغيبا، والنيران ترهيبا، وترهيب الشيء من الشيء الذي لا يستطيع أن يرهبه محال، كما أن ترغيب الشيء فيما لا يقدر على أن يرغب فيه محال، فاحش من الفعال، ولا يكون ترغيب إلا لمن يقدر على الرغبة، ولا ترهيب إلا لمن يقدر على الرهبة، ولا أمر ولا نهي إلا لمن [يقدر على أن](6) يميز بين المأمور به والمنهي عنه، فجعل الله وركب فيهم استطاعة وتمييزا، ليعرفوا رضاه فيتبعوه، ويفهموا سخطه فيتجنبوه فيثيبهم أو يعاقبهم على ما يكون من أفعالهم باختيارهم، لأن المثيب على فعله إنما هو مجاز لنفسه. ثم أمرهم عز وجل ونهاهم، ثم قال: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، ولو لم يعلم أن لهم(1) مشيئة وتمييزا واقتدارا على الفعل والترك لم يقل: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. وقال سبحانه: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12]، ولو لم يكن فيه استطاعة مركبة قبل الأمر، ولم يكن قادرا على أخذ الكتاب؛ لم يقل: خذ، وهو لا يقدر على الأخذ، لأن القائل للحجارة وما كان مثلها يقال (2): مخطيء محيل في المقال، فتعالى الله عن ذلك.
وقال: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} [الجاثية: 14]، ولو لم يكن المؤمنون يقدرون على الغفران لمن أمروا بالمغفرة له لم يقل: يغفروا، وكان يحدث فيهم الغفران لأولئك فيغفروا، ولم يكن ليأمرهم من الأمر بمالا يطيقون.
صفحة ٢٨٥
وأعطى الله إبليس اللعين ما أعطاه من الفهم والتمييز لأن يطيعه ولا يعصيه، وأراد أن يطيعه تخيرا وإيثارا لطاعته، فكانت هذه إرادة معها تمكين واستطاعة، ولم يرد أن يطيعه قسرا، ولا أن يمنعه من المعصية جبرا، [فيكون إبليس اللعين في ذلك غير محسن ولا مسيء. فلم يحل بينه وبين المعصية قسرا، ولم يحمله على الطاعة جبرا] (1)، فمكنه وهداه، ثم أمره ونهاه، فرفض له الويل تقواه، واتبع هواه، وكفر نعم ربه، وكره تنزيله وحكمه، فكان كما قال الله سبحانه: {والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} [محمد: 89]. فلو كانت الكراهة لما أنزل الله قضاء له فيهم، وفعلا ادخله سبحانه عليهم؛ لكانت من الله لا منهم، ولكان الكاره لتنزيله لاهم، ولكانوا ناجين من العقاب، وكانوا متصرفين في أمره في كل الأسباب، وكذلك المهتدون، لو كان هو الذي فعل هداهم، وزادهم في تقواهم، لم يقل: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد: 17]، ولو كان ذلك كما يقول الجاهلون، وينسب إلى الله الضالون؛ لكان من اهتدى، ومن كره وأبى، في الأمر عندالله شرعا واحدا(2)؟ إذ كان كلهم في امره وقضائه له مطيعا، متقلبا(3) متصرفا في إرادته سريعا.
صفحة ٢٨٦
وأما قوله: من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية؟ وأن الموت يقضي عليهم؟ فإن جوابنا له في ذلك: أن الله أعلمه ملائكته، فسمعه إبليس من ملائكة الله فيما كان يسترق من السمع، كما قالوا وحكى الله عنهم في قوله: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 9]، فكانوا قبل أن يبعث الله نبيه صلى الله عليه، ويكرمه بما أكرمه من الوحي إليه يسترقون السمع، فلما أن بعثه الله حجبهم عن المقاعد التي كانوا يقعدونها من السماء، ويسترقون من الملائكة الأخبار فيها؛ فيهبطون بها إلى إخوانهم؛ من كهنة الإنس وأوليائهم، كما قال ذو المن والجلال(1): {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام: 113]، فلما أرسل الله رسوله بالوحي البالغ، والنور الساطع؛ حجبهم عن علم شيء من أخبار السماء، لكيلا يسبقوا به ولا يلقوه(2) إلى إخوانهم من كهنة أهل الدنيا، فقذفهم بما جعل لهم من النجوم شهبا رصدا، فرماهم بالنجوم من السماء، ولم يكن قبل ذلك بشيء منها يرمى، فهيل لذلك أهل الأرض والشياطين في الهواء(3)؛ فقالوا في ذلك كما أخبر الله به عنهم، وحكى من قولهم: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا} [الجن: 9].
صفحة ٢٨٧
فمن الملائكة علم إبليس أخبار آدم وذريته، ولو لم يعلم الله الملائكة بذلك لم يعلمه إبليس ولا هم، كما لم يعلموا بما كتمهم من أسماء الأشياء التي اعلمهم آدم بأسمائها، في وقت ما علمه الله أسماءها وكتم الملائكة إياها، كما قال سبحانه: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}[البقرة: 31 33]، فأنبأهم حين أمره الله أن ينبئهم بأسماء من كان قد خفي عنهم علمه من الأشياء، فعندما رأى إبليس اللعين الرجيم(1) تعليم الله لآدم (2) وتعظيمه لقدره، وإسجاده الملائكة من أجله، ولما أظهر فيه من عجائب تدبيره وصنعه؛ حسده على ذلك غاية الحسد، حتى أخرجه حسده لآدم إلى أن كفر (3) بربه، وخالف فيما ترك من السجود عن أمره، ثم خشي أن يؤاخذه (4) الله مغافصة على ذنبه، فطلب الإنظار والتأخير من ربه، فأنظره وأمهله الله إلى يوم حشره.
صفحة ٢٨٨
ولو حجب الله علم آدم وذريته عن الملائكة لم يكن ليعلمه إبليس ولا هم، وليس إعلامه إياهم سبحانه بأنه سيجعل لآدم ذرية إلا كإعلامه من قبل إيجاده لآدم بآدم؛ حين يقول عز وجل: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]، وكما أعلمنا في كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله، بما يكون في دار الآخرة من الثواب والعقاب، والمجازاة بين العباد، وليس على الله في ذلك من حجة كبيرة ولا صغيرة.
***
وأما ما سأل عنه من استكبار إبليس، وقال: ممن هو؟ أمن الله؟ أم منه؟ أم من غيره؟ فسبحان الله! ما أبين جهل من شك في هذا، أيتوهم أو يظن ذو عقل أن الله ألزم إبليس التكبر والإجتراء عليه، فأدخله قسرا فيه، وهو يسمع إخبار الله في ذلك عنه؟ وأنه نسب التكبر إليه، فقال سبحانه: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} [البقرة: 34]، فذكر أن الاستكبار والكفر من فعل إبليس الكافر المستكبر، ولو كان الله أدخله في الاستكبار فاستكبر، وقضى عليه بالكفر فكفر؛ لم يقل فيه: وكان من الكافرين. ولكان أصدق الصادقين يقول فيه: إنه أطوع المطيعين. وما كان من استكبار إبليس فهو كاستكبار غيره من الناس، قال الله سبحانه: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون} [الأحقاف: 30]، ولو كان الكبر(1) والفسق من الله فيهم فعلا، وله سبحانه عملا؛ لم يجزهم عذاب الهون على فعله الذي أدخلهم فيه، بل كان يثيبهم عليه، ويكرمهم لديه.
المسألة الثالثة:
صفحة ٢٨٩
في آدم هل شاء الله خلوده في الجنة أم خروجه منها؟
ثم أتبع(1) ذلك الحسن بن محمد المسألة عن آدم عليه السلام وزوجته(2)، فقال: خبرونا عن آدم وزوجته(3) حين أسكنهما الله الجنة، ما كانت محبة الله ومشيئته لهما في دخولهما فيها؟ أخلودهما فيها وإقامتهما؟ أم في خروجهما منها؟ فإن زعموا ان محبة الله ومشيئته كانت في خلودهما فقد كذبوا؛ لأن أهل الجنة لا يموتون ولا يتوالدون ولا يمرضون ولا يجوعون ولا يخرجون، وقد قضى الله الموت على خلقه جميعا، وقضى على آدم أن تكون له ذرية تكون منهم الأنبياء والرسل والصديقون والمؤمنون والشهداء والكافرون، ثم قال: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25]، وقال: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]، وكيف يكون ما قالوا وقد قضى الله القيامة والحساب والموازين والجنة والنار؟ سبحان الله! ما أعظم هذا من قولهم، وإن قالوا: إن محبة الله ومشيئته كانت في خروج آدم وزوجته من الجنة وهبوطهما إلى الأرض؛ فقد زعموا أنه لم يكن ليخرجهما من الجنة إلا الخطيئة التي عملاها، والأكل من الشجرة التي نهيا عنها، فقد أقروا لله بقدرته ونفاذ علمه، وفي ذلك نقض قولهم.
تمت مسألته (4).
[جوابها](5)
صفحة ٢٩٠
وأما ما سأل عنه من إرادة الله في آدم وزوجته (1) حين أسكنهما الجنة، أكانت إرادته خلودهما فيها؟ أم خروجهما عنها؟ وما توهم من هذه الجنة التي كان فيها آدم وزوجته أنها جنة المأوى التي جعلها الله ثوابا للعاملين، ومقرا دائما لعباده المؤمنين.
***
فإنا نقول: إن الجنة التي كان فيها آدم وزوجته هي جنة من جنات(2) الدنيا ذوات الأنهار، والغرف والأشجار، فسماها الله جنة، وهذا فموجود في لغة العرب غير مفقود، تسمي ما كان من الضياع والبساتين ذا فواكه وأشجار وعيون جنانا، أما سمعت إلى قول الله سبحانه، ما أبين نوره وبرهانه، وكيف حكى عن الأمم الماضين، الفراعنة المتجبرين، حين يقول سبحانه: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين} [الدخان: 26].
وقال: {ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله} [الكهف: 39]، فسمى الله ما كان من الأرضين على ذلك من الحالات، في قديم الدهر وحديثه جنات (3). وإن آدم كان في موضع قد برأه الله له(4) من الأرض كريم، شريف عظيم، خلقه فيه، وأجرى رزقه ومرافقه عليه.
وليس كما ظن الحسن بن محمد وقال، وتوهم من فاحش الظن والمقال؛ أن أهل الجنة منها خارجون، وعنها منتقلون، وأن آدم وحواء كانا فيها ثم أخرجا، وليس كذلك، بل هو كما قال رب العالمين، وأصدق الصادقين، فيمن صار إلى جنة المأوى من عباده الصالحين: {خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8].
صفحة ٢٩١
وكما قال: {لايمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} [الحجرات: 48]، فأخبر أن من دخل جنة المأوى، غير خارج منها أبدا، وأنه لن يذوق بعد دخوله إياها نصبا ولا شقاء، وقال عز وجل إخبارا منه أنه لا يدخل الجنة إلا المطيعون المجازون من العالمين، فقال: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 37]، فأخبر سبحانه أن الجنة لا يدخلها إلا من اتقى، وتقدم منه العمل بالحسنى، فأولئك الذين تزلف لهم الجنة، قال الله تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} [ق: 31].
***
وأما ما سأل عنه من قول الله: {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} [الأعراف: 25]، ومن قوله: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55]، وما توهم من ذلك أن هذه الأرض التي خلق منها آدم هي أرض الجنة وعرصتها،وأن كل العباد راجع إليها، فليس ذلك كما توهم ولا كما قال، وإنما عنى الله بكل ما ذكر من هذه الأقوال؛ هذه الأرض التي منها خلقوا وفيها يدفنون، ومن أجداثها يبعثون. قال الله تعالى: {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} [المرسلات: 25]، وقال سبحانه: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير} [ق: 24].
***
صفحة ٢٩٢
وأما ما سأل عنه فقال: ما كانت إرادة الله في آدم وزوجته ؟ أيخلدان في الجنة؟ أم أراد أن يخرجا منها، وأن يهبطا عنها؟
فإنا نقول: إن إرادة الله في وقت خلق آدم وزوجته سكناهما في الجنة ومقامهما، وإن ارادته وحكمه عندما كان من غفلتهما، واستزلال الشيطان لهما حتى كان منهما ما كان من معصيتهما، لسبب الغفلة والنسيان لما عهد إليهما ربهما، من اجتناب الشجرة التي عنها نهاهما؛ فطلبا البقاء والحياة والاستزادة من العمل الصالح، ورجوا أن يخلدا ثم يزدادا طاعة لربهما، وتكثر عبادتهما لخالقهما، فغوى(1) صلى الله عليه في الشجرة ناسيا، ولم يكن ذلك عن مباينة لله بالعصيان، ولا عن قلة معرفة بما يجب للرحمن، قال الله تبارك وتعالى: {فنسي ولم نجد له عزما} [طه: 115]. فلما أن كان ذلك منهما، أراد الله أن يهبطهما من الجنة التي كان قد كفاهما فيها لباسهما وقوتهما، فأخرجهما منها إلى غيرها من الأرض، وأبدلهما بالراحة تعبا، وبالكفاية للمؤونة طلبا، وحرثا وزرعا.
صفحة ٢٩٣
فكانت إرادته في وقت إيجادهما: الكفاية لهما، وفي وقت نسيانهما: ما حكم به من إخراجهما، وإهباطهما منها إلى غيرها. والهبوط فهو القدوم من بلد إلى بلد، تقول العرب: هبطنا من بلد كذا وكذا إلى بلد كذا وكذا، وهبطنا عليك أرضك. وقال الله المتقدس الأعلى، فيمن كان مع عبده ونبيه موسى؛ ممن كان ينزل عليه المن والسلوى، ويظلل بالغمام ويسقى زلال الماء، فطلبوا وسألوا التبدل بذلك ما هو أقل وأدنى؛ فقالوا: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61]، فقال: اهبطوا مصرا، أي أقدموا وانزلوا مصرا تجدوا فيه ما سألتم من هذا الأدنى.
فأراد سبحانه أن يسكنها آدم أولا، ويخرجه منها آخرا، كما شاء أن يسكن ذريته(1) الدنيا ثم يخرجهم منها إذا شاء إلى الآخرة.
وكما شاء وأراد أن يصلي له نبيه صلى الله عليه وآله إلى بيت المقدس، ثم شاء أن ينقله عنه إلى ماهو أعظم، فينقله إلى بيته الحرام المكرم.
صفحة ٢٩٤
وكما شاء سبحانه أن يفترض على أمة موسى من الفرائض المشددة، والأمور المؤكدة، فافترض ذلك عليهم، ولم يرض منهم بسواه. من ذلك ما حرم عليهم من المأكل من الشحوم اللذيذة وغيرها، وما حظر عليهم من صيد البحر في يوم سبتهم، حتى كانت الحيتان يوم السبت تأتيهم وتظهر لهم، وتكثر عندهم وتشرع قريبا منهم؛ امتحانا من الله لهم، فكانوا لله في تركها مطيعين، وكانوا عنده على ذلك مكرمين، ثم عتوا من بعد ذلك وفسقوا، وخالفوا فتصيدوا، فأخذهم الله بذنوبهم، فجعل منم القردة والخنازير، فقال سبحانه في ذلك: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} [الأعراف: 163].
ثم أراد الله التخفيف عن عباده؛ فبعث فيهم عيسى صلى الله عليه، فأحل لهم بعض ما قد كان حرم عليهم. قال الله تعالى يخبر عما جاء به عيسى وقاله، مما أمره الله به جل جلاله، حين يقول: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 50].
ثم أراد التخفيف عنهم، والنقل لهم إلى أفضل الأديان، إلى دين أبيهم إبراهيم، الأواه الحليم، فبعث محمدا صلى الله عليه وعلى أله بذلك، فصدع بأمر ربه، وأنفذ ما أرسل به.
فكان(1) ذلك إرادة من بعد إرادة، ومتعبدا من بعد متعبد، فصرف (2) الله فيه العباد، فتبارك الله ذو العزة والأياد(3).
صفحة ٢٩٥
وكذلك حكم على من عصاه بالمعصية، فإن تاب حكم له بالطاعة، وإن عاد فعصى؛ حكم عليه بما حكم على أهل الردى، فإن تاب وأناب، وعاد إلى الله وأجاب؛ حكم له بالهدى والثواب.
فهذه أحكام من الله وإرادات، أراد الله سبحانه أن يتصرف في المخلوقين، على قدر ما يكون منهم من العملين، فقال جل وعز: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} [فصلت: 46].
***
وأما ما ذكر من العلم، وأن العلم لا يخلو من أن يكون الله العالم بنفسه، ويكون العلم من صفاته في ذاته لا صفته(1) لغيره، أو يكون العلم غيره.
فمن قال: إن العلم غيره؛ فقد جعل مع الله سواه، ولو كان مع الله سواه؛ لكان أحدهما قديما والآخر محدثا، فيجب على من قال بذلك أن يبين أيهما المحدث لصاحبه، فإن قال: إن العلم أحدث الخالق كفر، وإن قال إن الله أحدث العلم؛ فقد زعم أن الله كان غير عالم حتى أحدث العلم، ومتى لم يكن العلم؛ فضده لا شك ثابت وهو الجهل، تعالىالله عن ذلك علوا كبيرا.
وإن رجع هذا القائل الضال، إلى الحق من المقال؛ فقال في الله بالصدق، تبارك وتعالى ذو الجلال، فقال: إنه العالم بنفسه، الذي لم يزل ولا يزال(2)، وأنه الواحد ذو الإفضال(3)، وأنه لا علم ولا عالم سواه، وأنه الله الواحد العالم؛ وجب عليه من بعد ذلك، أن يعلم ان كل ما نسبه إلى العلم فقد نسبه إلى الله، وسواء قال: أدخله العلم في شيء؛ أو قال أدخله الله فيه، وحمله(4) سبحانه عليه.
والله عز وجل فبريء من ظلم العباد، متقدس عن أفعالهم، فأفعالهم بائنة من فعله، وأفعاله بائنة من أفعالهم، لم يحل بين أحد وبين طاعته، ولم يدخل أحدا في معصيته.
صفحة ٢٩٦