يا لُبينيَ أوقدي النارا ... إن من تَهْوين قد حارا
رب نارٍ بتُّ أرمقها ... تقضمُ الهنديَّ والغارا
عندها ظبيٌ يؤرثها ... عاقد في الجيد تِقصارا
لأنبس الأمير على سَعَنَة، وكان الأمير يُلقب سَعَنة، وكان أقبح خلق الله صورة، فقال الحجاج: بالله أخرجوه من القبر، يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم، فلم يبق أحدٌ حضر القبر إلا استفرغ ضحكًا.
وقال سليمان بن أبي جعفر للأمين: لقد صحَّ عندي يا أمير المؤمنين أن أبا نواس زنديق، وشهد عليه جماعةٌ أنه أبرز كأس خمرٍ إلى المطر، فقيل له: لِم فعلت ذلك؟ قال: لأنهم يزعمون أن مع كل قطرةٍ ملك فأنا أشرب عددًا من الملائكة فأمر بحبسه.
ودخل الحسن خال الفضل بن الربيع، وكان يتعهد المحبوسين ويشفع فيهم، وكانت غفلة فقال لأبي نواس: ما جُرمُك حتى حُبست في حبس الزنادقة، أزنديق أنت؟ قال معاذ الله، قال: أفتعبد الكبش؟ قال: لا والله ولكن آكله بصوفه، قال: أفتعبد الشمس؟ قال: والله ما أجلس فيها من بغضها فكيف أعبدها؟ قال: أفتعبد الديك؟ قال: لا والله بل آكله، ولقد نقرني ذيكٌ مرةً فذبحتُ من أجله ألف ديك. قال: فلأي شيءٍ حبست؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة وأنام خلف الناس. قال: وأنا أيضًا أفعل ذلك، ثم خرج إلى الفضل، فقال: ما أحسنتم جواز نِعَمِ الله، تحبسون من لا ذنب له، سألت رجلًا في الحبس عن ذنبه فقال كذا وكذا، وعرَّفه بكل ما جرى بينه وبين أبي نواسٍ فضحك، ودخل على الأمين فأخبره، فأمر بتخليته، وقال في هذا:
يا ربّ إن القوم قد ظلموني ... وبلا اقتراف خطيئةٍ حبسوني
أما الأمين فلست أرجو دَفعَه ... عنِّي فمن لي اليومَ بالمأمونِ
فبلغت المأمون وهو بخراسان فقال: والله لئن بقيتُ له لأرفعنَّ شأنه، فمات قبل دخول المأمون بغداد سنة أربع ومائتين.
ولما بعث المأمون طاهر بن الحسين فظفر بعلي بن عيسى بن ماهان عمل كتبًا، فقرأ على المنابر بخراسان معائب الأمين يقول فيها: وإنَّ نديمه وجليسه رجل شاعر ماجن كافر يعرف بأبي نواس استخلصه دون سائر الناس لشرب الخمور وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، ويقوم رجل بين يديه فينشد للحَسَن مثل قوله:
ألا سَقني خمرًا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعني من الكُنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
وقوله:
يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ ... قم سيدي نعصِ جبار السموات
فقام والليل يجلوه النهار كما ... جلا التبسم عن غرِّ الثَّنياتِ
وقوله:
ما جاءَنا أحدٌ يخبر أنه ... في جنةٍ من مات أو في نار
وقال إسحق بن إبراهيم: كان عندي أعرابي له فصاحة، فذكرته للفضل بن الربيع، فقال لي: أرسل به إليَّ، فلما دخل إليه قال: فيم كنتم، قال: في قدرٍ تفور، وكأس تدور، وغناءٍ يصور، وساقٍ لا يحور.
وقال بعض الأدباء: رأيت قاضيًا يقصُّ ويعظ، ثم رأيته بالعشيِّ في بيت نبَّاذ، فقلت: ما هذا. فقال: أنا بالغداة قاضٍ وبالعشي ماضٍ.
ودخل أبو الطيب المتنبي على عليّ بن إبراهيم التنوخي، فعرض عليه كأسًا فيها شراب أسود من الدُّوشاب [فقال]:
أغار من الزجاجة وهي تجري ... على شفة الأمير أبي الحسينِ
كأن بياضها والراح فيها ... بياضٌ محدقٌ بسوادِ عَيْنِ
ورآه قد شرب كأس خمرٍ فقال:
مرَتْكَ ابن إبراهيم صافية الخمر ... وهُنئتها من شاربٍ مسكرِ السكرِ
رأيت الحميا في الزجاجة بكفهِ ... فشبهتها بالشمس في البدر في البحر
وكان بدر بن عمار قد تاب عن الشراب مرةً بعد أخرى فدخل عليه أبو الطيب وهو يشرب فقال:
يا أيها الملك الذي ندماؤه ... شركاؤه في مِلكِهِ لا مًلكِهِ
في كل يومٍ بيننا دمُ كرمةٍ ... لك توبةٌ من توبةٍ في سفكه
والصدق من شيم الكرام فقل لنا أَمِنَ الشراب نتوب أم من تركِهِ وشرب عنده ليلةً، فلما أراد الانصراف قال:
مضى الليل والفضل الذي لك لا يمضي ... ورؤياك أحلى في العيون من الغمضِ
1 / 52