أسرى لخالدة الخيالُ ولا أرى ... عيشًا ألذَّ من الخيال الطارق
إن البلية من تملُّ حديثه ... فانقع فؤادك من حديث الوامق
فقال: لمن هذا الشعر، فقيل: لجرير، ثم غناه:
إن الذين غدوا بلبِّك غادروا ... وشلًا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقال: لمن هذا الشعر، فقيل لجرير، فقال الفرزدق، ما أحوجه مع عفافه إلى خشونة شعري وأحوجني مع فسوقي إلى رقة شعره.
وكان العماني الراجز مداحًا للملوك من بني أمية وبني العباس مشتهرًا بالشراب وهو الذي يقول لجاريته:
قومي أنظري كيفف نبيذي يا مُلَحْ ... إن لم يكن جاد فبولي في القدح
وناولينيه وقولي قد صَلحْ
قال أبو محجن الثقفي: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمةٍ تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
فأخذ أبو نواس هذا المعنى فقال:
خليليَّ إن متُّ لا تحفرا ... لي القبر إلاَّ بقُطْرُبّلِ
خلال المعاصرِ بين الكروم ... ولا تكثرا لي من الجندلِ
لعلي أسمع في حفرتي ... إذا عصرتْ موقع الأرجل
وأخذه بعد أبي نواس بكر بن خارجة فقال:
ادفنوني إن متُّ في أصلِ كرمٍ ... إن روحي تحيا بماءِ الكروم
واحنطوني بتربتها ثم رشوا ... كفني من رحيقها المختوم
وادفنوني بحانةٍ عند دنٍّ ... بفِنا عسكرِ الدنان مقيم
وقال أبو الهندي:
إذا حانت وفاتي فادفنوني ... بكرم واجعلوا زقًا وسادي
وإبريقًا إلى جنبي، وطاسًا ... تروي هامتي وتكون زادي
أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: مرَّ العجير السلولس بإخوانٍ له يشربون فعوه لمنادمتهم، فنزل عن ناقته وشرب، واحتاجوا إلى طعام على النبيذ فقال: هذه ناقتي فانحروها وكلوا لحمها، فنحروها وبقروا خاصرتها وأكلوا من كبدها وسنامها، وجعل العجير يتغنى:
عللاني إنما الدنيا عَلَل ... ودعاني من عتابٍ وعَذَلْ
إدرأا باللهو يومًا صالحًا ... واسقياني علَلًا بعد نَهَلْ
وانشلا ما اغبَّر من قِدرَيْكما ... واصبحاني، أبعد الله الجَمَلْ
وحكى الهيثم بن عدي قال: خرج عمارة بن الوليد، وكان أجمل فتيان قريش وأسمحهم، متنزهًا، فمرَّ بقوم يشربون فعرضوا عليه، فنزل عن ناقته فجعلوا يسقونه ولا يشربون، فقال لهم: لم لا تشربون؟ قالوا: نبيذنا قليل وقد أحببنا أن نؤثرك به، فقال لفتى منهم، يقال له غياث بن ديهب، اذهب بناقتي هذه فبِعها ولا تماكس، وابتع بثمنها شرابًا، ففعل، وأنشأ عمارة يقول:
خليليَّ قد خف الشراب ولم أجد ... له سورةً في عظم رأسٍ ولا يد
خليليَّ هذي ناقتي فاشربا بها ... فلا خيرَ في الشرب القليل المصرد
ولا تبعثا إلا غياث بن ديهبِ ... إذا سيم عند البيع لم يتشددِ
وجاء الشراب فشربوا وانصرف إلى امرأته، فسألته عن ناقته فأخبرها الخبر فقالت: كلاّ ولكنهم أسكروك وخدعوك فقال:
أسَرَّك لما صُرع القومُ نشوةً ... أن أخرج عنهم غانمًا غير غارم
وحتى كأني لم أكن قبلُ فيهمُ ... وليس خداعٌ من فعال الأكارم
ولكننا شربٌ كرامٌ نديمنا ... بنا بَهِجٌ باللهو ليس بواجِمِ
وشرب مالك بن أسماء مع إخوانٍ له، ففني شرابهم ولم يحضره نقدٌ فأعطاهم مُطرفًا كان علي، فاشتروا بثمنه شرابًا، فلما عاد إلى منزله لامته جاريته فقال:
يسُرُّك أن أكون، وذاك عيبٌ ... عليَّ، كمن ينال ولا يُنيلُ
ويغرم من ينادمه اغتنامًا ... وذاك على أخي جودٍ ثقيلُ
أبت لي ذاك، مأثرةٌ نماها ... كريمٌ، فضلُ نائلِهِ جزيلُ
ودخل رجل على قومٍ يشربون وعندهم قينة تغنيهم فقيل له: أي صوت تشتهي أن تغني لك، وكان جائعًا فقال: لشيش مقليٌّ.
وقيل لأعرابي: كم تشرب من النبيذ، فقال: على قدر النديم.
1 / 47