قال مخارق المغني: لقيني أبو العتاهية فقال: أنا شديد الصبابة بك، متشوق إلى مجلس منك، كثير الوله نحوك، فقلتُ له: وما ذاك؟ قال: تمتعني بمجلسٍ منك، قلت: نعم، قال: فمتى، قلت: متى شئت، قال: غدًا، ثم قال لي: إني والله إن فارقتك على ميعاد ثم أخللت به اقترقنا، فندمتُ وقلتُ في نفسي: أنا عبد مملوك، فلا أدري ما يتهيأ لي من هذا، ولعل أمير المؤمنين يطلبني، وأبو العتاهية لا يقبل عذرًا، و[أَمّا] أنا فلا طاقة لي بلسانه فما صنعت بنفسي، ولم أنم من الفكرة حتى أضاء الفجر فحمدت الله تعالى إذ لم يأتني رسول، غدوت إليه فوجدته قاعدًا يُسبِّح بعد الصلاة فسلمت عليه فرَّحب بي وقصصت عليه ما أصابني فشكر ذلك وجزاني خيرًا وأخذنا في الحديث وهو قاعد في غرفةٍ له مشرفةٍ على بستان قد فتح إليه أبوابًا صغارًاتقابله، فمرة ينظر إلى البستان، ومرة ينظر إلى من يمُر في الطريق ونحن في أطيب موضع وقد أوسعني والله سرورًا وفوائد وطرائق اختبار، ثم قال: هل اشتهيت الطعام، قلت: نعم، فقال لغلامه: أحضر الطعام، فقرب الوضوء فغسلنا أيدينا ثم جاء بخوانٍ لطيف عليه سُكرُّجات في إحداهن ملحٌ وفي الأخرى مرق، ثم أقبل الغلام برغيفين واسعين حسنين، على كل واحد منهما دجاجة باردة وسكين، فأصاب وأصبت منها ثم أقبل بطبق عليه سكرجات مثل الأول ثم برغيفين مثل الأَولين عليهما دجاجتان مشويتان حارتان وسكين فأصبت وأصاب ثم رفع باقي الدجاجتين والرغيفين، ثم جدَّد طبقًا آخر مثل الأول عليه سكرجات ورغيفان عليهما فرخان باردان ثم مثل ذلك حارَّان ثم طبق عليه جامان فيهما سُرَّتا حوت مملوحة، ثم مثل ذلك عليهما سثرتا حوتٍ طريٍّ، مثل ذلك من جدي بارد، ثم حارٍّ، وذلك سوى ما على المائدة من كل لونٍ حارٍ وبارد، ثم أتى الغلام فقال: فرغت من الطبيخ وعندي كذا وكذا حتى عدَّد ألوانًا كثير، فالتفت إلي وقال: أدعُ بما شئت، فقلت: لم أُبقِ من شهوتي في الطعام شيئًا لما يأتي، فقال: الحمد لله، ثم جاء بالوضوء فغسلنا أيدينا، ثم جاء بحوضين من ساجٍ مرصعين، في كل واحدٍ منهما صينية فيها خرداذي، وقدح ومغسل وكوز ماءٍ باردٍ من نبيذٍ مصفَّى رقيق، ثم شرب وشربتُ حتى استوفينا ستةً وستةً، ثم قال: يا مخارق، غنِّ:
ذهب الشبابُ وليته لم يذهبِ ... ونعى الشباب مخبرٌ لم يكذب
بينا الشباب تسُرُّنا أَيامُهُ ... ونشوب لذته بلهوٍ معجب
نزل المشيب وقال جانب عقبتي ... وإخال أني سابق بك فأركب
فأندب عشيات الشباب فلن ترى ... مثل الشباب مودًِّا لم يُندب
فغنيته فبكى ثم قال: غنِّ:
بان الخليط، ولو طووعتُ ما بانا ... وقطَّعوا من حبال الوصل أقرانا
إن العيون التي في طرفها مرضٌ ... قتلننا ثم لم يُحيين قتلانا
يصرعنَ ذا اللب لا حراكَ به ... وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا
فغنيته ثم قال: غنِّ:
أتصحو أم فؤادك غير صاح ... عشيَّة همَّ صحبُك بالرَّواحِ
تقول العاذلات علاك شيبٌ ... أهذا الشيب يمنعني مراحي
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
1 / 40