جاءَنا فسَلَّم علينا وجلس فتحدث معنا، وكانت الجماعة تعرف سوء خُلقِهِ وغضبه إذا سئل أن يغني، فأقبل بعضهم على بعض يتحدثون [بأحاديث كثيِّر وجميل يستجرون] بذلك أن يطرب فيغني، فقلت: لقد حدثني اليوم بعض الأعراب حديثًا مليحًا، وإن شئتم حدثتكم به، قالوا هات: قلت: حدَّثني أنه أقبل من الربذة قال، فمررت بغدير، وإذا صبيان يتغاطسون فيه وإذا شابٌ جميل منهوك الجسم عليه أثر العلة، والنحولُ في جسمه بين وهو جالسٌ ينظر إليهم فسلمتُ عليه فردَّ السلام وقال من أين وَضَح الراكبُ، قلتُ من الحِمى، قال: ومتى عهدك به، قلت رائحًا، قال، واين كان مبيتك، قلت، بفناء فلان، فتأوه وألقى بنفسه على ظهره، وتنفس ظننت أنه خَرَق حجاب قلبه ثم أنشأ يقول:
سقى بلدًا أمست سليمي تحلُّهُ ... من المزن ما يروى به ويُسيمُ
وإن لم أكن من قاطنيه فإنه ... يحلُّ به شخصٌ عليَّ كريم
ألا حبذا من ليس يَعدلُ قُربُه ... لديَّ، وإن شطَّ المزار، نعيم
ومن لامني فيه حبيبٌ وصاحبٌ ... فردَّ بغيظٍ، صاحبٌ وحميمُ
ثم سكن كالمغشي عليه، فصحت بالصبية، فأتوا بماءٍ فنضحتُ على وجهه فأفاق وأنشأ يقول:
إذا الصبُّ الغريب رأى خشوعي ... وأنفاسي تزيَّن بالخشوع
ولي عينٌ أَضرَّ بها التفاتي ... إلى الأجزاع مطلقةُ الدُّموع
إلى الخلوات، تأْنسُ فيك نفسي ... كما أَنس الوحيدُ إلى الجميع
فقلت: ألا أَنزل فأُساعدك أو أكثر عودي على بدئي إلى الحمى، في حاجةٍ إن كانت لك، أو رسالةٍ، فقال: جزيت خيرًا وصحبتك السَّلامة، إمض لِطيَّتِكِ، فلو علمت، أنك تُغني لي شيئًا لكنت موضعًا للرغبة، ولكنك أدركتني في صُبابةٍ من حياتي يسيرة، قال: فانصرفت وأنا لا أراه يُمسي ليلته إلا ميتًا، فقال القوم: ما أعجب هذا الحديث، فطرب ابنُ عائشة وقال ليونس الكاتب: أعِد علي الشِّعرين، فأعادهما عليه، فصاغ للأول منهما لحنًا في خفيف الرَّمل المطلق في مجرى الوسطى، وقيل إنه منسوب إلى معبد، فأخذه ابن عائشة وعمل في الثاني لحنًا في خفيف الثقيل وغناهم فيهما، قالوا فما سمعنا قط مِثاه ثم ختم مجلسنا بهذا الصوت:
أفاطمُ إن النأي يُسلي ذوي الهوى ... ونأيك عن زادني بكُمُ وجدا
وما هبَّ عرْفُ الريح، من نحو أرضكم ... فيبلغني، إلا وجدت له بردا
على كبدٍ قد كاد يبدب بها الهوى ... صدوعًا، وبعض القوم يحسبني جلدا
وجعل يعيده ونحن نشرب حتى ما عقل كلُّ واحدٍ منا كيف وصل إلى أهله سكرًا.
وحكى إسحق بن إبراهيم الموصلي، عن أبي عبيدة قال: قدم الفرزدق المدينة فنزل على الأحوص فقال له الأحوص: ما تشتهي، قال: شواء، ووطاء، وغناء، فأتاه بذلك وقينة من قيان أهل المدينة فشرب وغنته بهذا الصوت:
ألا حيِّ الديار بسُعدَ إني ... أُحبُّ لُحبِّ فاطمةَ الديارا
إذا ما حلَّ أهلُك يا سليمي ... بدارة جُلجُلٍ شحطوا مزارا
أراد الطاعنون ليحزنوني ... فهاجوا صدع قلبي فاستطارا
فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها، قال: أو ما تدري لمن هذا الشعر، قال: لا والله، قال: هو لجرير يهجوك به، قال: ويل ابن المراغة، ما كان أحوجه مع صلاحه إلى صلابة شعري، وأحوجني مع قسوتي إلى رقة شعره.
قال إبراهيم: كنت في زمان شبابي أُلازم الخمارين بِقُطْرُبُّل فجئت يومًا إلى خمارٍ ما رأيت أنظف منه، فقلت: ما عندك؟ قال: عندي شيءٌ يوافقك، وأخرج لي شرابًا كشعاع الشمس لم أر مثله، فقلتُ: اكتل لي منه، وكنت قد صنعت في الوقت لحنًا:
اِشرب الراح وكن في ... شُربكَ الراح وقورا
اِشرب الراح رواحًا ... وظلامًا وبكورًا
1 / 34