وكان لمطيع بن إياس خاصةٌ يهيم بها، فحكى الهيثم بن عدي قال: اجتمع حماد الراوية، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحكم الوادي يومًا على شراب لهم في بستان بالكوفة، وذلك في زمن الربيع ودعوا جوهر جارية بربر فقال مطيع في ذلك:
حرجنا نجتني الزهرا ... ونجعل سقفنا الشجرا
ونشربها معتقةً ... تخال شعاعها الشررا
و(جوهر) عندنا تحكي ... بِسُنةِ وجهها القمرا
يزيدك وجهًا حسنًا ... إذا ما زدته نظرا
لها لونٌ كلون الورد لو قطرته قطرا
وغنى فيه حكم الوادي لحنًا خفيفًا شربوا عليه بقية يومهم وثلاثة أيام متوالية وجوهر بينهم، فقال لهم يحيى بن زياد: ويحكم لنا ثلاثة أيام سكارى لا نعقل ولا يصلي أحدٌ منا، قم يا مطيع فأذن، وقالوا: من يصلي بنا، فكلما ذكروا رجلًا أبى، فقال مطيع: عليَّ وعليَّ إن صلى بنا غير جوهر، تقدمي صلي بنا حتى تكون صلاتنا عجبًا بين الصلوات، فقالت: كيف تصلي امرأة برجال، قالوا: أنت لم تشربي كما شربنا، فتقدمت وهي تضحك، وصلت بهم، فلما سجدت بان فرجها من تحت غلالتها وكانت رقيقة، فوثب مطيع فقبله وقامت الجارية خجلة وجعلت تشتمه وضحك القوم وعادوا إلى شرابهم فقال مطيع في ذلك:
ولما بدا حِرُها جاثمًا ... كرأس حليقٍ ولم يعتمر
خررت عليه فقبلته ... كما يفعل العابد المعتمر
فزاد شتمها له والقوم يضحكون منه، وفيها قول مطيع:
يا بأبي وجهك من بينهم ... فإنه أحسن ما أبصر
جارية أحسن من حليها ... والحلي فيه الدرُّ والجوهر
وريحها أطيبُ من طيبها ... والطيب فيه المسك والعنبر
جاءت بها (بربر) حتفًا لنا ... يا حبذا ما جلبت بربر
كأنما ريقتها قهوةٌ ... صُب عليها البارد الأخصر
وشرب دعبل بن علي وصاحبان له في قرية يقال لها " بطياثا " فقالوا: ليقل كل واحدٍ منا بيتًا في يومنا هذا، فقال دعبل:
نلنا لذيذ العيش في بطياثا
وقال الآخر: لما حثثنا كأسنا احتثاثا وارتج على الآخر فلم يقدر أن يقول شيئًا فاستحيا، فقال:
وامرأتي طالقةٌ ثلاثا
فقالوا: ويحك وما ذنب امرأتك، قال والله ما لها ذنبٍ إلا أنها قعدت على طريق القافية.
وكانت بالمدينة جارية من مولداتها يقال لها (بصبص) أحسن الناس وجهًا وأطيبهم غناء، أخذته عن معبد والغريض وغيرهما من طبقتهما، وكان مولاها يحيى بن نفيس يُقين عليها وكان الأشراف يهدون إليه وينفقون عنده، فاجتمع عنده جماعة منهم فتذاكروا أمر مزيد وبخله، فقالت بصبص: أنا آخذ لكم من دراهمه فقال مولاها: أنت حرة، لئن فعلت، إن لم أشتر لك عقدًا بمائة دينار وأجعل لك مجلسًا بالعقيق أنحر فيه بدنةً لم تُقنب ولم تُركب، فقالت: جيء به وارفه الغيرة عني، قال: أنت حُرة، لامنعته ولو رأيته بين رجليك إن خلصتِ درهمًا، فقال عبد الله بن مصعب الزبيري، أنا لكم به، قال عبد الله: فصليت الغداة في مسجد رسول الله ﷺ وإذا به قد أقبل فقلت يا أبا إسحق، أما تحب أن ترى بصبص فقال: بلى قلت فإذا صليت العصر، فأنني هاهنا، قال امرأته طالق إن برح يومه هذا من هاهنا إلى العصر، قال فتصرفت في حوائجي حتى كانت العصر فدلت المسجد فوجدته بمكانه، فأخذت بيده وأتيتهم به، فأكل القوم وشربوا حتى صليت العتمة ثم تساكروا وتناوموا وأقبلت بصبص على مزيد فقالت: أبا اسحق، كأني بك تشتهي في نفسك الساعة أن أغنيك بصوت الغريض في شعر جميل.
ألا ليت أيام الصباء جديد ... ودهرًا تولى يا بثين يعود
فنغني كما كنا نكون وأنتم ... صديق وإذ ما تبذلين زهيد
فقال: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ، فغنته إياه ساعة ثم قالت: يا أبا إسحق كأني في نفسك تشتهي أن تقوم من مجلسك فتجلس إلى جنبي وتدخل يدك في جلبابي فتقرص عكني قرصات وأغنيك بقول عروة بن أذينة.
قالت وابثثتها شجوي فبحتُ به ... قد كنت عندي تحب الستر فاستترِ
ألست تبصر من حولي فقلت لها ... غطي هواك وما ألقى على بصري
1 / 22