بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر الفهامة، مفتي المسلمين
ببلد الله الأمين، أبو عبد الله محمد ابن سيدنا ومولانا الشيخ العلامة محمد الحطاب -نفع الله به آمين-:
[مقدمة المؤلف]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ..
فإن كتاب الورقات في علم أصول الفقه للشيخ الإمام العلامة، صاحب التصانيف المفيدة، أبي المعالي عبد الملك إمام الحرمين- كتاب صغر حجمه وكثر علمه وعظم نفعه وظهرت بركته.
وقد شرحه جماعة من العلماء -رضي الله عنهم-، فمنهم من بسط الكلام عليه، ومنهم من اختصر ذلك.
ومن أحسن شروحه شرح شيخ شيوخنا العلامة المفيد جلال الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد المحلي الشافعي (¬1)، فإنه كثير الفوائد والنكت، اشتغل به الطلبة وانتفعوا به، إلا أنه لفرط الإيجاز قارب أن يكون من جملة الألغاز، فلا يهتدى لفوائده إلا بتعب وعناية.
وقد ضعفت الهمم في هذا الزمان، وكثرت فيه الهموم والأحزان، وقل فيه المساعد من الإخوان، فاستخرت الله تعالى في شرح الورقات بعبارة واضحة، منبهة على نكت الشرح المذكور وفوائده، بحيث يكون هذا الشرح شرحا للورقات وللشرح المذكور، ويحصل بذلك الانتفاع للمبتدئ وغيره إن شاء الله تعالى.
صفحة ٥
ولا أعدل عن عبارة الشرح المذكور إلا لتغييرها بأوضح منها، أو لزيادة فائدة، وسميته {قرة العين لشرح ورقات إمام الحرمين}.
والله سبحانه المسؤول في بلوغ المأمول، وهو حسبي ونعم الوكيل.
صفحة ٦
[ترجمة الإمام الجويني] (¬1)
ولنقدم التعريف بالمصنف على سبيل الاختصار فنقول:
هو الشيخ الإمام، رئيس الشافعية، وأحد أصحاب الوجوه، وصاحب التصانيف المفيدة، أبو المعالي عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، نسبة إلى جوين، وهي ناحية كبيرة من نواحي نيسابور، يلقب بضياء الدين.
ولد في المحرم من سنة تسعة عشر وأربعمائة، وتوفي بقرية من أعمال نيسابور يقال لها: بشتنقان (¬2) ليلة الأربعاء، الخامس والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
جاور بمكة والمدينة أربع سنين يدرس العلم ويفتي ، فلقب بإمام الحرمين، وانتهت إليه رئاسة العلم بنيسابور، وبنيت له المدرسة النظامية (¬3)، وله التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها (¬4)، تغمده الله برحمته، وأعاد علينا من بركاته، آمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم) أصنف، وكذا ينبغي أن يجعل متعلق التسمية ما جعلت التسمية مبدأ له، فيقدر الآكل: بسم الله آكل، والقارئ: بسم الله أقرأ، فهو أولى من تقدير: أبتدىء، لإفادته تلبس الفعل كله بالتسمية، وأبتدئ لا يفيد إلا تلبس الابتداء به.
صفحة ٧
وتقدير المتعلق متأخرا لأن المقصود الأهم البداءة باسم الله تعالى، ولإفادة الحصر.
وابتدأ المصنف بالبسملة اقتداء بالقرآن العظيم، وعملا بحديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر}، رواه الخطيب في كتاب (الجامع) بهذا اللفظ (¬1).
واكتفى بالبسملة عن الحمدلة إما لأنه حمد بلسانه، وذلك كاف، أو لأن المراد بالحمد معناه لغة، وهو الثناء، والبسملة متضمنة لذلك، أو لأن المراد بالحمد ذكر الله تعالى.
وفي رواية في مسند الإمام أحمد: {كل أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله فهو أبتر -أو قال: أقطع -} (¬2) على التردد.
وقد ورد الحديث بروايات متعددة، قال النووي: وهو حديث حسن.
فلما اكتفى بالبسملة عن الحمدلة قال: (هذه ورقات) قليلة، كما يشعر بذلك جمع السلامة، فإن جموع السلامة عند سيبويه من جموع القلة.
وعبر بذلك تسهيلا على الطالب وتنشيطا له، كما قال تعالى في فرض صوم شهر رمضان: {أياما معدودات} فوصف الشهر الكامل بأنه أيام معدودات، تسهيلا على المكلفين وتنشيطا لهم، وقيل: المراد في الآية بالأيام المعدودات عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، فإن ذلك كان واجبا أول الإسلام ثم نسخ.
والإشارة ب (هذه) إلى حاضر في الخارج إن كان أتى بها بعد التصنيف، وإلا فهي إشارة إلى ما هو حاضر في الذهن.
صفحة ٨
وهذه الورقات (تشتمل على فصول) جمع فصل، وهو اسم لطائفة من المسائل تشترك في حكم.
وتلك الفصول (من) علم (أصول الفقه) ينتفع به المبتديء وغيره.
[تعريف أصول الفقه]
(وذلك) أي لفظ أصول الفقه له معنيان :
أحدهما: معناه الإضافي، وهو ما يفهم من مفرديه عند تقييد الأول بإضافته للثاني.
وثانيهما: معناه اللقبي، وهو العلم الذي جعل هذا التركيب الإضافي لقبا له، ونقل عن معناه الأول إليه، وهذا المعنى الثاني ذكره المصنف بعد هذا في قوله: (وأصول الفقه طرقه على سبيل الإجمال) إلخ.
والمعنى الأول هو الذي بينه بقوله: (مؤلف من جزأين)، من التأليف، وهو حصول الألفة والتناسب بين الجزأين، فهو أخص من التركيب الذي هو ضم كلمة إلى أخرى، وقيل: إنهما بمعنى واحد.
وقوله: (مفردين) من الإفراد المقابل للتركيب، لا المقابل
للتثنية والجمع، فإن الإفراد يطلق في مقابلة كل منهما، ولا تصلح إرادة الثاني هنا لأن أحد الجزأين الذين وصفهما بالإفراد لفظ (أصول) وهو جمع، وفي كلامه إشارة لذلك حيث قال:
[تعريف الأصل]
(فالأصل ما بنى عليه غيره)، أي فالأصل الذي هو مفرد الجزء الأول، ما بني عليه غيره، كأصل الجدار أي أساسه، وأصل الشجرة أي طرفها الثابت في الأرض.
وهو أقرب تعريف للأصل؛ فإن الحس يشهد له كما في أصل الجدار والشجرة.
فأصول الفقه أدلته التي يبنى عليها.
وهذا أحسن من قولهم: الأصل هو المحتاج إليه، فإن الشجرة محتاجة إلى الثمرة من حيث كمالها، وليست الثمرة أصلا للشجرة.
صفحة ٩
ومن قولهم (¬1): الأصل ما منه الشيء، فإن الواحد من العشرة وليست العشرة أصلا له.
ولما عرف الأصل عرف مقابله وهو الفرع على سبيل الاستطراد فقال:
(والفرع ما يبنى على غيره) كفروع الشجرة لأصولها، وفروع الفقه لأصوله.
[تعريف الفقه]
(والفقه) الذي هو الجزء الثاني من لفظ (أصول الفقه) له معنى لغوى وهو الفهم، ومعنى شرعي وهو: (معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد).
كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب، هذا على مذهب الشافعي، وأما عند المالكية فسنة مؤكدة، وأن تبييت النية شرط في الصوم، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي وغير واجبة في الحلي المباح، وأن القتل عمدا يوجب القصاص ونحو ذلك من المسائل الخلافية.
بخلاف ما ليس طريقه الاجتهاد، كالعلم بأن الصلوات الخمس واجبة، وأن الزنى محرم، والأحكام الاعتقادية كالعلم بالله سبحانه وتعالى وصفاته ونحو ذلك من المسائل القطعية، فلا يسمى معرفة ذلك فقها، لأن معرفة ذلك يشترك فيها الخاص والعام.
فالفقه بهذا التعريف لا يتناول إلا علم المجتهد، ولا يضر في ذلك عدم اختصاص الوقف على الفقهاء بالمجتهدين، لأن المرجع في ذلك للعرف (¬2)، وهذا اصطلاح خاص.
والمراد بالمعرفة هنا العلم بمعنى الظن، وأطلقت المعرفة التي هي بمعنى العلم على الظن؛ لأن المراد بذلك ظن المجتهد، الذي هو لقوته قريب من العلم.
وخرج بقوله: (الأحكام الشرعية)، الأحكام العقلية، كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين، والحسية كالعلم بأن النار محرقة.
صفحة ١٠
والمراد بالأحكام في قوله: (معرفة الأحكام الشرعية) جميع الأحكام، فالألف واللام فيه للاستغراق.
والمراد بمعرفة جميع ذلك التهيؤ لذلك، فلا ينافي ذلك قول مالك
رضي الله عنه -وهو من أعظم الفقهاء المجتهدين-، في اثنين وثلاثين مسألة من ثمان وأربعين مسألة سئل عنها: لا أدري، لأنه متهيء للعلم بأحكامها بمعاودة النظر، وإطلاق العلم على مثل هذا التهيؤ شائع عرفا، تقول: فلان يعلم النحو، ولا تريد أن جميع مسائله حاضرة عنده على التفصيل، بل إنه متهيء لذلك.
[أقسام الحكم الشرعي]
ثم بين الأحكام المرادة في قوله الأحكام الشرعية فقال: (والأحكام سبعة: الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه والصحيح والباطل).
فالفقه العلم بهذه السبعة، أي معرفة جزئياتها، أي الواجبات والمندوبات والمباحات والمحظورات والمكروهات والأفعال الصحيحة والأفعال الباطلة، كالعلم بأن هذا الفعل مثلا واجب وهذا مندوب وهذا مباح وهذا محظور وهذا مكروه وهذا صحيح وهذا باطل، وليس المراد العلم بتعريفات هذه الأحكام المذكورة فإن ذلك من علم أصول الفقه لا من علم الفقه.
وإطلاق الأحكام على هذه الأمور فيه تجوز؛ لأنها متعلق الأحكام.
والأحكام الشرعية خمسة: الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والتحريم.
وجعله الأحكام سبعة اصطلاح له، والذي عليه الجمهور أن الأحكام خمسة لا سبعة كما ذكرناها، لأن الصحيح إما واجب أو غيره، والباطل داخل في المحظور.
وجعل بعضهم الأحكام تسعة وزاد: الرخصة والعزيمة، وهما راجعان
إلى الأحكام الخمسة أيضا، والله أعلم.
[تعريف الواجب]
ثم شرع في تعريف الأحكام التي ذكرها بذكر لازم كل واحد منها فقال:
(فالواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه).
صفحة ١١
أي فالواجب من حيث وصفه بالوجوب، هو ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه.
فالثواب على الفعل والعقاب على الترك أمر لازم للواجب من حيث وصفه بالوجوب، وليس هو حقيقة الواجب، فإن الصلاة مثلا أمر معقول متصور في نفسه، وهو غير حصول الثواب بفعلها والعقاب بتركها.
فالتعريف المذكور ليس تعريفا بحقيقة الواجب إذ لا يمكن تعريف حقيقته لكثرة أصناف الواجبات واختلاف حقائقها، وإنما المقصود بيان الوصف الذي اشتركت فيه حتى صح صدق اسم الواجب عليها، وذلك هو ما ذكره من الثواب على الفعل والعقاب على الترك.
وكذلك يقال في بقية الأحكام.
فإن قيل: قوله يعاقب على تركه يقتضى لزوم العقاب لكل من ترك واجبا، وليس ذلك بلازم.
فالجواب أنه يكفي في صدق العقاب على الترك وجوده لواحد من العصاة، مع العفو عن غيره.
أو يقال: المراد بقوله (ويعاقب على تركه)، أي ترتب العقاب على تركه، كما عبر بذلك غير واحد، وذلك لا ينافي العفو عنه.
وأورد على التعريف المذكور أنه غير مانع، لدخول كثير من السنن فيه، فإن الأذان سنة وإذا تركه أهل بلد قوتلوا، وكفي بذلك عقابا، وكذلك صلاة العيدين عند من يقول بذلك، ومن ترك الوتر ردت شهادته ونحو ذلك.
وأجيب بأن المراد عقاب الآخرة، وبأن العقوبة المذكورة ليست على نفس الترك بل على لازمه، وهو الانحلال من الدين، وهو حرام، ورد الشهادة ليس عقابا، وإنما هو عدم أهلية لرتبة شرعية شرطها كمالات تجتمع من أفعال وترك، فدخل فيها الواجب وغيره.
صفحة ١٢
ألا ترى أن العبد إذا ردت شهادته لم يكن ذلك عقوبة له، وإنما ذلك لنقصانه عن درجة العدالة؟!
على أن الصحيح أن الأذان في المصر فرض كفاية، ونص أصحابنا على أنه لا يقاتل من ترك العيدين.
والسؤالان واردان على حد المحظور، والجواب ما تقدم (¬1).
[تعريف المندوب]
(والمندوب) هو المأخوذ من الندب، وهو الطلب لغة.
وشرعا من حيث وصفه بالندب هو (ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه).
صفحة ١٣
[تعريف المباح]
(والمباح) من حيث وصفه بالإباحة (ما لا يثاب على فعله)، يريد ولا على تركه، (ولا يعاقب على تركه)، يريد ولا على فعله، أي لا يتعلق بكل من فعله وتركه ثواب ولا عقاب.
ولا بد من زيادة ما ذكرنا لئلا يدخل فيه المكروه والحرام.
[تعريف المحظور]
(والمحظور) من حيث وصفه بالحظر، أي الحرمة (ما يثاب على تركه) امتثالا، (ويعاقب على فعله).
وتقدم السؤالان وجوابهما.
[تعريف المكروه]
(والمكروه) من حيث وصفه بالكراهة (ما يثاب على تركه) امتثالا (ولا يعاقب على فعله).
وإنما قيدنا ترتب الثواب على الترك في المحظور والمكروه امتثالا، لأن المحرمات والمكروهات يخرج الإنسان من عهدتها بمجرد تركها، وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إلى تركها، لكنه لا يترتب الثواب على الترك إلا إذا قصد به الامتثال.
فإن قيل: وكذلك الواجبات والمندوبات لا يترتب الثواب على فعلها إلا إذا قصد به الامتثال.
فالجواب: أن الأمر كذلك، ولكنه لما كان كثير من الواجبات لا
يتأتى الإتيان بها إلا إذا قصد بها الامتثال، وهو كل واجب لا يصح فعله إلا بنية، لم يحتج إلى التقييد بذلك، وإن كان بعض الواجبات تبرأ الذمة بفعلها ولا يترتب الثواب على ذلك إلا إذا قصد الامتثال، كنفقات الزوجات ورد المغصوب والودائع ورد الديون ونحو ذلك مما يصح بغير نية، والله أعلم.
صفحة ١٤
[تعريف الصحيح] (والصحيح) من حيث وصفه بالصحة اصطلاحا: (ما يتعلق به النفوذ) بالذال المعجمة، وهو البلوغ إلى المقصود، كحل الانتفاع في البيع والاستمتاع في النكاح.
وأصله من نفوذ السهم أي بلوغه إلى المقصود.
(ويعتد به) في الشرع، بأن يكون قد جمع ما يعتبر فيه شرعا، عقدا كان أو عبادة.
فالنفوذ من فعل المكلف، والاعتداد من فعل الشارع، وقيل: إنهما
بمعنى واحد.
[تعريف الباطل]
(والباطل) من حيث وصفه بالبطلان: (ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به) بأن لم يستجمع ما يعتبر فيه شرعا، عقدا كان أو عبادة.
والعقد في الاصطلاح يوصف بالنفوذ والاعتداد، والعبادات توصف
بالاعتداد فقط.
[تعريف العلم]
(والفقه) بالمعنى الشرعي المتقدم ذكره (أخص من العلم)؛ لصدق العلم على معرفة الفقه والنحو وغيرهما، فكل فقه علم وليس كل علم فقها.
وكذا بالمعنى اللغوي، فإن الفقه هو الفهم، والعلم المعرفة، وهي أعم.
(والعلم) في الاصطلاح: (معرفة المعلوم)، أي إدراك ما من شأنه أن يعلم، موجودا كان أو معدوما، (على ما هو به) في الواقع، كإدراك الإنسان أي تصوره بأنه حيوان ناطق، وكإدراك أن العالم وهو ما سوى الله تعالى حادث.
وهذا الحد للقاضي أبي بكر الباقلاني، وتبعه المصنف.
واعترض بأن فيه دورا، لأن المعلوم مشتق من العلم، فلا يعرف المعلوم إلا بعد معرفة العلم، لأن المشتق مشتمل على معنى المشتق منه مع زيادة.
صفحة ١٥
وبأنه غير شامل لعلم الله سبحانه، لأنه لا يسمى معرفة إجماعا، لا لغة ولا اصطلاحا.
وبأن قوله: (على ما هو به) زائد لا حاجة إليه، لأن المعرفة لا
تكون إلا كذلك (¬1).
[تعريف الجهل]
(والجهل تصور الشيء على خلاف ما هو به) في الواقع.
وفي بعض النسخ (على خلاف ما هو عليه) كتصور الإنسان بأنه حيوان صاهل، وكإدراك الفلاسفة أن العالم قديم.
فالمراد بالتصور هنا التصور المطلق الشامل للتصور الساذج وللتصديق (¬2).
وبعضهم وصف هذا بالجهل المركب، وجعل الجهل البسيط عدم العلم بالشيء، كعدم علمنا بما تحت الأرضين وبما في بطون البحار، وهذا لا يدخل في تعريف المصنف، فلا يسمى عنده جهلا.
والتعريف الشامل للقسمين أن يقال: الجهل انتفاء العلم بالمقصود، أي ما من شأنه أن يقصد فيدرك، إما بأن لم يدرك أصلا وهو البسيط، أو بأن يدرك على خلاف ما هو عليه في الواقع، وهو المركب.
وسمي مركبا لأن فيه جهلين: جهل بالمدرك، وجهل بأنه جهل به.
[أقسام العلم الحادث]
(والعلم) الحادث وهو علم المخلوق ينقسم إلى قسمين: ضروري ومكتسب.
وأما العلم القديم وهو علم الله سبحانه وتعالى، فلا يوصف بأنه ضروري ولا مكتسب.
صفحة ١٦
فالعلم (الضروري) هو (ما لم يقع عن نظر واستدلال) بأن يحصل بمجرد التفات النفس إليه، فيضطر الإنسان إلى إدراكه ولا يمكنه دفعه عن نفسه، وذلك (كالعلم الواقع) أي الحاصل (بإحدى الحواس) جمع حاسة بمعنى القوة الحساسة (الخمس) الظاهرة، احترازا من الباطنة:
(التي هي: السمع): وهو قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ، أي مؤخره، يدرك بها الأصوات بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية الصوت إلى الصماخ، بمعنى أن الله سبحانه يخلق الإدراك في النفس عند ذلك.
(والبصر)، وهو قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين يتلاقيان في الدماغ ثم يتفرقان فيتأديان إلى العينين، يدرك بهما الأضواء والألوان والأشكال وغير ذلك مما يخلق الله إدراكه في النفس عند استعمال العبد تلك القوة.
(والشم)، وهو قوة مودعة في الزائدتين الناتئتين في مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي، يدرك بها الروائح بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم، يخلق الله سبحانه وتعالى الإدراك عند ذلك.
(والذوق) وهو قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان، يدرك بها الطعوم، بمخالطة القوة اللعابية التي في الفم للمطعوم ووصولها إلى العصب، يخلق الله سبحانه وتعالى الإدراك عند ذلك.
(واللمس)، وهو قوة منبثة في جميع البدن، يدرك بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك عند الاتصال والالتماس، يخلق الله سبحانه وتعالى الإدراك عند ذلك.
وفي بعض النسخ تقديم اللمس على الشم والذوق.
وهذه الحواس الخمس الظاهرة هي المقطوع بوجودها، وأما الحواس الباطنة التي أثبتها الفلاسفة فلا يثبتها أهل السنة؛ لأنها لم تقم دلائلها على الأصول الإسلامية.
ودل كلام المصنف على أن العلم الحاصل من هذه الحواس غير الإحساس.
صفحة ١٧
ويوجد في بعض النسخ بعد ذكر الحواس الخمس (أو التواتر)، وهو معطوف على قوله: (بإحدى الحواس الخمس).
والمعنى أن العلم الضروري كالعلم الحاصل بإحدى الحواس الخمس، وكالعلم الحاصل بالتواتر، وذلك كالعلم الحاصل بوجود النبي صلى الله عليه وسلم، وكظهور المعجزات على يديه وعجز الخلق عن معارضته.
ومن العلوم الضرورية العلم الحاصل ببديهة العقل، كالعلم بأن الكل أعظم من الجزء، وأن النفي والإثبات لا يجتمعان.
(وأما العلم المكتسب فهو الموقوف على النظر والاستدلال)، كالعلم
بأن العالم حادث، فإنه موقوف على النظر في العالم ومشاهدة تغيره، فينتقل الذهن من تغيره إلى الحكم بحدوثه.
[تعريف النظر]
(والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه)، ليؤدى إلى علم أو ظن، بمطلوب تصديقي أو تصوري.
والفكر حركة النفس في المعقولات، بخلاف حركتها في المحسوسات
فإنها تسمى تخييلا.
[تعريف الاستدلال والدليل]
(والاستدلال طلب الدليل) ليؤدي إلى مطلوب تصديقي، فالنظر أعم من الاستدلال، لأنه يكون في التصورات والتصديقات، والاستدلال خاص بالتصديقات.
(والدليل) لغة: (هو المرشد إلى المطلوب، لأنه علامة عليه).
وأما اصطلاحا: فهو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب جزئي.
[تعريف الظن والشك] (¬1)
(والظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر) عند المجوز -بكسر الواو-.
صفحة ١٨
وقول المصنف رحمه الله: إن الظن هو التجويز، فيه مسامحة، فإن الظن ليس هو التجويز، وإنما هو الطرف الراجح من المجوزين -بفتح الواو-، والطرف المرجوح المقابل له يقال له وهم.
(والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر) عند المجوز -بكسر الواو-.
والتردد في ثبوت قيام زيد ونفيه على السواء شك، ومع رجحان
أحدهما ظن للطرف الراجح، ووهم للطرف المرجوح.
[تعريف أصول الفقه بالمعنى الاصطلاحي]
(و) علم (أصول الفقه) الذي وضعت فيه هذه الورقات (طرقه)، أي طرق الفقه الموصلة إليه، (على سبيل الإجمال)، كالكلام على مطلق الأمر والنهي وفعل النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس والاستصحاب والعام والخاص والمجمل والمبين وغير ذلك، المبحوث عن أولها بأنه للوجوب حقيقة، وعن الثاني بأنه للحرمة كذلك، وعن البواقي بأنها حجج وغير ذلك مما سيأتي.
بخلاف طرق الفقه الموصلة إليه على سبيل التعيين والتفصيل، بحيث أن كل طريق توصل إلى مسألة جزئية تدل على حكمها نصا أو استنباطا، نحو: {أقيموا الصلاة}، {ولا تقربوا الزنى}، وصلاته صلى الله عليه وسلم في الكعبة كما أخرجه الشيخان (¬1)، والإجماع على أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب لها، وقياس الأرز على البر في امتناع بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل يدا بيد كما رواه مسلم (¬2)، واستصحاب العصمة لمن يشك في بقائها، فإن هذه الطرق ليست من أصول الفقه وإن ذكر بعضها في كتبه -يعنى أصول الفقه- تمثيلا.
صفحة ١٩
(وكيفية الاستدلال بها) أي بطرق الفقه الإجمالية من حيث تفاصيلها وجزئياتها عند تعارضها، من تقديم الخاص منها على العام، والمقيد على المطلق وغير ذلك.
وإنما حصل التعارض فيها لكونها ظنية، إذ لا تعارض بين قاطعين.
وقوله: (وكيفية) بالرفع عطفا على قوله: (طرقه).
وكيفية الاستدلال بالطرق المذكورة تجر إلى الكلام على صفات من يستدل بها، وهو المجتهد.
فهذه الثلاثة -أعني طرق الفقه الإجمالية وكيفية الاستدلال بها
وصفات من يستدل بها- هي الفن المسمى بهذا اللقب، أعني أصول الفقه، المشعر بمدحه بابتناء الفقه عليه، وهو المعنى الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه.
[أبواب أصول الفقه]
(و) قوله (أبواب أصول الفقه) مبتدأ، خبره (أقسام الكلام والأمر والنهي والعام والخاص)، ويذكر فيه المطلق والمقيد، (والمجمل والمبين والظاهر)، وفي بعض النسخ (والمؤول) وسيأتي، (والأفعال) أي أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، (والناسخ والمنسوخ والتعارض والإجماع والأخبار) جمع خبر، (والقياس والحظر والإباحة وترتيب الأدلة وصفة المفتي والمستفتي وأحكام المجتهدين).
فهذه جملة الأبواب، وسيأتي الكلام عليها مفصلا إن شاء الله
تعالى (¬1).
[باب أقسام الكلام]
(فأما أقسام الكلام) فلها حيثيات:
فأولها من حيث ما يتركب منه: (فأقل ما يتركب) منه (الكلام اسمان)، نحو: الله أحد.
- (أو اسم وفعل) نحو: قام زيد.
صفحة ٢٠
- (أو فعل وحرف) نحو: ما قام، أثبته بعضهم، ولا يعد الضمير في قام الراجع إلى زيد مثلا كلمة لعدم ظهوره، والجمهور على عدة كلمة.
- (أو اسم وحرف) وذلك في النداء، نحو: يا زيد، وأكثر النحاة قالوا: إنما كان نحو يا زيد كلاما؛ لأن تقديره أدعوا زيدا، أو أنادي زيدا، ولكن غرض المصنف رحمه الله وغيره من الأصوليين بيان أقسام الجملة ومعرفة المفرد من المركب، فلذلك لم يأخذوا فيه بالتحقيق الذي يسلكه النحويون.
(والكلام) في الاصطلاح (ينقسم) من حيثية أخرى (إلى:)
- (أمر) وهو ما يدل على طلب الفعل، نحو: قم.
- (ونهي) وهو ما يدل على طلب الترك نحو: لا تقم .
- (وخبر) وهو ما يحتمل الصدق والكذب، نحو: جاء زيد، وما جاء زيد.
- (واستخبار) وهو الاستفهام، نحو: هل قام زيد؟ فيقال: نعم أو لا.
(وينقسم) الكلام أيضا (إلى:)
- (تمن) وهو طلب ما لا طمع فيه، أو ما فيه عسر: فالأول نحو: ليت الشباب يعود يوما، والثاني: نحو قول منقطع الرجاء: ليت لي مالا فأحج به، ويمتنع التمني في الواجب نحو: ليت غدا يجيء، إلا أن يكون المطلوب مجيئه الآن فيدخل في القسم الأول.
- والحاصل أن التمني يكون في الممتنع والممكن الذي فيه عسر.
- (وعرض) بسكون الراء، وهو الطلب برفق نحو: ألا تنزل عندنا، ونحوه التحضيض إلا أنه طلب بحث.
- (وقسم) بفتح القاف والسين، وهو الحلف، نحو: والله لأفعلن كذا.
(ومن وجه آخر ينقسم) الكلام أيضا (إلى: حقيقة ومجاز).
(فالحقيقة) في اللغة: ما يجب حفظه وحمايته.
صفحة ٢١
وفي الاصطلاح: (ما بقي في الاستعمال على موضوعه) أي على معناه الذي وضع له في اللغة.
(وقيل: ما استعمل فيما اصطلح عليه من المخاطبة) التي وقع التخاطب بها وإن لم يبق على موضوعه الذي وضع له في اللغة، كالصلاة المستعملة في لسان أهل الشرع للهيئة المخصوصة، فإنه لم يبق على موضوعه اللغوي وهو الدعاء بخير، وكالدابة الموضوعة في العرف لذوات الأربع كالحمار فإنه لم يبق على موضوعه اللغوي وهو كل ما يدب على الأرض.
(والمجاز) في اللغة: مكان الجواز.
وفي الاصطلاح: (ما تجوز) أي تعدي به (عن موضوعه)، وهذا على القول الأول في تعريف الحقيقة، وعلى القول الثاني: هو ما استعمل في غير ما اصطلح عليه من المخاطبة (¬1).
(والحقيقة إما لغوية) وهي التي وضعها واضع اللغة، كالأسد للحيوان المفترس.
(وإما شرعية) وهي التي وضعها الشارع، كالصلاة للعبادة المخصوصة.
(وإما عرفية) وهي التي وضعها أهل العرف العام، كالدابة لذوات الربع، وهي في اللغة كل ما يدب على وجه الأرض، أو أهل العرف الخاص كالفاعل للاسم المعروف عند النحاة.
وهذا التقسيم إنما يتمشى على القول الثاني في تعريف الحقيقة دون الأول، فإنه مبنى على نفي ما عدا الحقيقة اللغوية، فالألفاظ الشرعية كالصلاة والحج ونحوهما، والعرفية كالدابة مجاز عندهم.
صفحة ٢٢
وفي إثبات المصنف للحقيقة الشرعية والعرفية دليل على اختيار القول الثاني، وهو الراجح، وإن اقتضى تقديمه للقول الأول على ترجيحه.
وجعل المصنف الحقيقة والمجاز من أقسام الكلام مع أنهما من أقسام المفردات، إشارة إلى أن المفرد لا يظهر اتصافه بالحقيقة والمجاز إلا بعد الاستعمال لا قبله، والله أعلم.
(والمجاز إما أن يكون بزيادة أو نقصان أو نقل أو استعارة.
فالمجاز بالزيادة مثل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء})، فالكاف زائدة لئلا يلزم إثبات مثل له تعالى؛ لأنها إن لم تكن زائدة فهي بمعنى مثل، فيقتضى ظاهر اللفظ نفي مثل مثل الباري، وفي ذلك إثبات مثل له وهو محال عقلا، وضد المقصود من الآية، فإن المقصود منها نفي المثل، فالكاف مزيدة للتأكيد، وقال جماعة: ليست الكاف زائدة والمراد بالمثل الذات كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا، لقصد المبالغة في نفي ذلك الفعل عنه، لأنه إذا انتفي عمن يماثله ويناسبه كان نفيه عنه أولى.
وقال الشيخ سعد الدين (¬1): القول بأن الكاف زائدة أخذ بالظاهر، والأحسن ألا تكون زائدة وتكون نفيا للمثل بطريق الكناية التي هي أبلغ، لأن الله سبحانه موجود قطعا، فنفي مثل المثل مستلزم لنفي المثل، ضرورة أنه لو وجد له مثل لكان هو تعالى مثلا لمثله، فلا يصح نفي مثل المثل، فهو من باب نفي الشيء بنفي لازمه، كما يقال: ليس لأخي زيد أخ، فأخي زيد ملزوم، وأخي لازمه، لأنه لا بد لأخي من أخ هو زيد، فنفيت اللازم، وهو أخو أخي زيد، والمراد نفي ملزومه وهو أخو زيد، إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ وهو زيد.
(والمجاز بالنقصان مثل قوله تعالى: واسئل القرية) أي أهل القرية، ويسمى هذا النوع مجاز الإضمار، وشرطه أن يكون في المظهر دليل على المحذوف، كالقرينة العقلية هنا الدالة على أن الأبنية لا تسأل لكونها جمادا.
صفحة ٢٣
فإن قيل: حد المجاز لا يصدق على المجاز بالزيادة والنقصان؛ لأنه لم يستعمل اللفظ في غير موضوعه.
فالجواب: أنه منه، حيث استعمل نفي مثل المثل في نفي المثل وسؤال القرية في سؤال أهلها، فقد تجوز في اللفظ وتعدى به عن معناه إلى معنى آخر.
وقال صاحب التلخيص (¬1): إنه مجاز من حيث أن الكلمة نقلت عن إعرابها الأصلي إلى نوع آخر من الإعراب، فالحكم الأصلي ل (مثله) النصب؛ لأنه خبر ليس، وقد تغير بالجر بسبب زيادة الكاف، والحكم الأصلي ل (القرية) الجر، وقد تغير إلى النصب بسبب حذف المضاف.
(والمجاز بالنقل) أي بنقل اللفظ عن معناه إلى معنى آخر لمناسبة بين معنى المنقول عنه والمنقول إليه، (كالغائط فيما يخرج من الإنسان)، فإنه نقل إليه عن معناه الحقيقي وهو المكان المطمئن من الأرض، لأن الذي يقضى الحاجة يقصد ذلك المكان طلبا للستر، فسموا الفضلة التي تخرج من الإنسان باسم المكان الذي يلازم ذلك، واشتهر ذلك حتى صار لا يتبادر في العرف من اللفظ إلا ذلك المعنى، وهو حقيقة عرفية مجاز بالنسبة إلى معناه اللغوي.
فقول من قال: إن تسميته مجازا مبني على قول من أنكر الحقيقة العرفية ليس بظاهر؛ إذ لا منافاة بين كونه حقيقة عرفية ومجازا لغويا كما عرفت.
(والمجاز بالاستعارة كقوله تعالى: {جدارا يريد أن ينقض}) أي يسقط، فشبه ميله إلى السقوط بإرادة السقوط التي هي من صفة الحي دون الجماد، فإن الإرادة منه ممتنعة عادة.
والمجاز المبني على التشبيه يسمى استعارة.
صفحة ٢٤