قصص من التاريخ
الناشر
دار المنارة للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
العاشرة
سنة النشر
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٧ م
مكان النشر
جدة - المملكة العربية السعودية
تصانيف
والمجد ... لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألمًا وتثير حسرة وتحرق القلب. وتمنى أن لو كان خُلق فقيرًا منفردًا، ما عرف لذة الألفة ولا متعة الغنى، وعاودته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة، وأن يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبّت عليه نفحة من نفحات الإيمان فاستراح إليها، وذكر أنه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وأن وراء هذه الأحداث حكمة بالغة وقدرًا حكيمًا. فاطمأن إلى حكمة الله وسلّم أمره إليه ووجد بهذا الاطمئنان راحة وشبعًا.
وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق، فنظر فإذا «زلال» (١) ضخم قد أقبل عليه. فلما حاذاه أشار ونادى وسأل صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن «الديموقراطية» كانت شعار العرب وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأميرَ مجدُه أن يقف لفقير سائل ويحمله معه. فأدخله الزلال وأطعمه وخلع عليه ولم يسأله عن خبره، لأن النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يُسأل وقبل أن يجيب.
ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق والسفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهوًا وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغمًا سائغًا وحبًا ومجدًا، وترنحت القصور طربًا، وانتشت الرياض أنسًا، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام،
_________
(١) كلمة عباسية مولدة، معناها: السفينة الحربية.
1 / 50