إلى أن تفاقم الأمر وعيل الصبر، وانتهى إلينا عيب عصابة لو أمسكنا عن الإجابة عنها والاحتجاج فيها، علما بأن من شأن الحاسد تهجين ما يحسد عليه، ومن خلق المحروم ذم ما حرم وتصغيره والطعن على أهله كان لنا في الإمساك سعة. فإن الحسد عقوبة موجبة للحاسد بما يناله منه ويشينه، من عصيان ربه واستصغار نعمته، والسخط لقدره، مع الكرب اللازم والحزن الدائم، والتنفس صعدا، والتشاغل بما لا يدرك ولا يحصى. وأن الذي يشكر فعلى أمر محدود يكون شكره، والذي يحسد فعلى ما لا حد له يكون حسده. فحسده متسع بقدر تغير اتساع ما جسد عليه. لأنا خفنا أن يظن جاهل أن إمساكنا عن الإجابة إقرار بصدق العضيهة، وأن إغضاءنا لذي الغيبة عجز عن دفعها. فوضعنا في كتابنا هذا حججا على من عابنا بملك القيان، وسبنا بمنادمة الإخوان، ونقم علينا إظهار النعم والحديث بها. ورجونا النصر إذ قد بدينا والبادي أظلم، وكاتب الحق فصيح - ويروي " ولسان الحق فصيح " - ونفس المحرج لا يقام لها، وصولة الحليم المتأني لا بقاء بعدها.
فبينا الحجة في اطراح الغيرة في غير محرم ولا ريبة، ثم وصفنا فضل النعمة علينا، ونقضنا أقوال خصمائنا بقول موجز جامع لما قصدنا. فمهما أطنبنا فيه فللشرح والإفهام، ومهما أدمجنا وطوينا فليخف حمله. واعتمدنا على أن المطول يقصر، والملخص يختصر، والمطوي ينشر، والأصول تتفرع، وبالله الكفاية والعون.
إن الفروع لا محالة راجعة إلى أصولها، والأعجاز لاحقة بصدورها، والموالي تبع لأوليائها، وأمور العالم ممزوجة بالمشاكلة ومنفردة بالمضادة، وبعضها علة لبعض، كالغيث علة السحاب والسحاب علة الماء والرطوبة، وكالحب علته الزرع، والزرع علته الحب، والدجاجة علتها البيضة، والبيضة علتها الدجاجة، والإنسان علته الإنسان.
والفلك وجميع ما تحويه أقطار الأرض، وكل ما تقله أكنافها للإنسان خول ومتاع إلى حين. إلا أن أقرب ما سخر له من روحه وألطفه عند نفسه " الأنثى "؟ فإنها خلقت له ليسكن إليها، وجعلت بينه وبينها مودة ورحمة.
صفحة ١٤٦