مُقَدّمَة الْمُؤلف
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه نستعين وَعَلِيهِ نتوكل
الْهم أرنا الْحق حَقًا واهدنا لإتباعه وأرنا الْبَاطِل بَاطِلا ووفقنا لاجتنابه
الْحَمد لله لذاته وَجَمِيل صِفَاته وَالشُّكْر لَهُ على آلائه ونعمائه وعطائه وهباته وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على عَبده وَرَسُوله الْمَبْعُوث بِالدّينِ المتين وَالْكتاب الْمُبين سيدنَا ومولانا وَنَبِينَا مُحَمَّد الرَّسُول الْأمين وعَلى آله وَأَصْحَابه الهداة المهتدين
أما بعد فَهَذِهِ تعليقة موسومة بالْقَوْل السديد فِي بعض
1 / 29
مسَائِل الِاجْتِهَاد والتقليد
1 / 30
أذكر فِيهَا مَا حضرني من بعض مسَائِل الِاجْتِهَاد والتقليد واقتداء الْمُقَلّد بِإِمَام يرى خلاف قَول مقلده بِفَتْح اللَّام إِمَّا اجْتِهَادًا أَو تقليدا وَمَا يتَعَلَّق بذلك ويتذيل عَلَيْهِ غير متصد للتتبع فِي ذَلِك بل قيدت مَا سنح للخاطر الفاتر فِي الْوَقْت الْحَاضِر من غير تقيد بمراجعة فِي ذَلِك وَهِي نبذة يسيرَة ونزر يسير من سئ كثير فَأَقُول وَبِاللَّهِ الْإِعَانَة
الْكَلَام فِي هَذِه الْمسَائِل على فُصُول
1 / 31
الْفَصْل الأول
إعلم أَنه لم يُكَلف الله تَعَالَى أحدا من عباده بِأَن يكون حنفيا أَو مالكيا أَو شافعيا أَو حنبليا بل أوجب عَلَيْهِم الْإِيمَان بِمَا
1 / 32
بعث بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْعَمَل بِشَرِيعَتِهِ غير أَن الْعَمَل بهَا مُتَوَقف على الْوُقُوف عَلَيْهَا وَالْوُقُوف عَلَيْهَا لَهُ طرق فَمَا كَانَ مِنْهَا مِمَّا يشْتَرك بِهِ الْعَوام وَأهل النّظر كَالْعلمِ بفريضة الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَالْوُضُوء اجمالا وكالعلم بِحرْمَة الزِّنَا وَالْخمر واللواطة وَقتل النَّفس وَغير ذَلِك مِمَّا علم من الدّين
1 / 37
بِالضَّرُورَةِ فَذَلِك لَا يتَوَقَّف فِيهِ على إتباع مُجْتَهد وَمذهب معِين بل كل مُسلم عَلَيْهِ اعْتِقَاد ذَلِك
فَمن كَانَ فِي الْعَصْر الأول فَلَا يخفي وضوح ذَلِك فِي حَقه وَمن كَانَ فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخر فلوصول ذَلِك إِلَى علمه ضَرُورَة من الْإِجْمَاع والتواتر وَسَمَاع الْآيَات وَالسّنَن أَي الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة المستفيضة المصرحة بذلك فِي حق من وصلت إِلَيْهِ
وَأما مَالا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا بِضَرْب من النّظر وَالِاسْتِدْلَال فَمن كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ بتوفر آلاته وَجب عَلَيْهِ فعله كالأئمة الْمُجْتَهدين رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَمن لم يكن لَهُ قدرَة عَلَيْهِ وَجب عَلَيْهِ اتِّبَاع من أرشده إِلَى مَا كلف بِهِ
1 / 38
مِمَّن هُوَ من أهل النّظر وَالِاجْتِهَاد وَالْعَدَالَة وَسقط عَن الْعَاجِز تَكْلِيفه بالبحث وَالنَّظَر لعَجزه بقوله ﵎ ﴿لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا﴾ وَقَوله عز من قَائِل ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ وَهِي الأَصْل فِي اعْتِمَاد التَّقْلِيد كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقق الْكَمَال ابْن الْهمام فِي التَّحْرِير
1 / 39
فصل
إِذا علمت ذَلِك فَاعْلَم أَن أَبَا حنيفَة ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل رَحْمَة الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ كل كَانَ من أهل الذّكر الَّذين وَجب سُؤَالهمْ لمن لم يصل إِلَى دَرَجَة النّظر وَالِاسْتِدْلَال فَإِذا عمل أحد منالمقلدين فِي طَهَارَته وَصلَاته اَوْ شَيْء مِمَّا جرى بِهِ التَّكْلِيف بقول وَاحِد مِنْهُم مُقَلدًا لَهُ فِيهِ أَو صَادف قَوْله وَلَو لم يعلم بِهِ حِين الْعَمَل فقلده فِيهِ بعد انقضائه على
1 / 41
مَا ظهر لي فِي الْمَسْأَلَة كَمَا يدل عَلَيْهِ مَا اسْتشْهد بِهِ فِي المسالة بعد هَذَا فقد أدّى مَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ لأحد مِمَّن هُوَ فِي دَرَجَته التَّقْلِيد لَهُ قلت بل وَلَا للمجتهد الْإِنْكَار عَلَيْهِ كَمَا صرح بِهِ (فِي غير كتاب) عندنَا من تصانيف الصَّدْر الشَّهِيد حسام الدّين وَغَيره من
1 / 42
كتب الْمَذْهَب الْمُعْتَبرَة كالتجنيس والمزيد لشيخ الْإِسْلَام برهَان الدّين صَاحب الْهِدَايَة كَمَا نقلته بخطي عَنْهَا فِي مظانه
1 / 43
إِذا ثَبت ذَلِك فَلَيْسَ لحنفي أَو مالكي أَو شَافِعِيّ من المقلدين أَن يمْتَنع من الِاقْتِدَاء بِالْإِمَامِ الْمُخَالف لمذهبه و(لَيْسَ لَهُ أَن يحْتَج) بِأَنِّي لما قلدت الشَّافِعِي أَو أَبَا حنيفَة مثلا فقد وَجب على الحكم بِبُطْلَان مَا خَالف اجْتِهَاده لأننا نقُول إِنَّمَا أُبِيح التَّقْلِيد بِقدر الضَّرُورَة وَذَلِكَ ينْدَفع بتقليدك لَهُ فِي عَمَلك وكيفيته فَقَط (وَإِن شِئْت قل فِي كَيْفيَّة إِيقَاع مَا كلفت بِهِ فَقَط) وَأما الحكم بِبُطْلَان مخالفه فَلَيْسَ ذَلِك إِلَيْك بل للْكَلَام مجَال فِي تسويغ ذَلِك للمجتهد الَّذِي قلدته
1 / 44
وَأما أَنْت وَمن هُوَ فِي مرتبتك من المقلدين فَقَوْل كل مُجْتَهد عِنْده على حد سَوَاء إِذْ لَيْسَ التَّرْجِيح بِالدَّلِيلِ من
1 / 45
وظائفك ولكنت فِي درجتهم وَوَجَب عَلَيْك الِاجْتِهَاد وارتفع التَّقْلِيد وَلَكِن لابد للْعَمَل فِي تَصْحِيحه من مُسْتَند فَأَنت استندت إِلَى إمامك وَنعم الإِمَام وَهَذَا الآخر اسْتندَ إِلَى إِمَام فِي فعله مثل إمامك أَو أَعلَى مِنْهُ فَلَا يمكنك الحكم على عمله بِالْبُطْلَانِ الْبَتَّةَ فلست حِينَئِذٍ فِي تخلفك عَن الِاقْتِدَاء بِهِ إِلَّا عَاملا بمحض التعصب وَقد نَص عُلَمَاؤُنَا وَغَيرهم من أَصْحَاب الْمذَاهب على حُرْمَة التعصب وتصويب الصلابة فِي الْمَذْهَب وَمعنى الصلابة أَي الثَّبَات على مَا ظهر للمجتهد من الدَّلِيل وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا للمجتهد نَفسه أَو لمن هُوَ من أهل النّظر مِمَّن أَخذ بقوله
1 / 46
والتعصب هُوَ الْميل مَعَ الْهوى لأجل نصْرَة الْمَذْهَب ومعاملة
1 / 47
الإِمَام الآخر ومقلديه بِمَا يحط عَنْهُم وَقد نَص فِي جَوَاهِر
1 / 48
الفتاوي وَغَيرهَا من كتب أَصْحَابنَا أَن الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى لم يكن لَهُ تعصب على أَئِمَّتنَا رَحِمهم الله تَعَالَى
وَقد كَانَ الصَّحَابَة ﵃ يَقْتَدِي بَعضهم بِبَعْض وَكَذَا التابعون لَهُم وَفِيهِمْ المجتهدون وَلم ينْقل عَن أحد من السّلف رَحِمهم الله تَعَالَى أَنه كَانَ لَا يرى الِاقْتِدَاء بِمن يُخَالف قَوْله فِي بعض الْمسَائِل وَلَو فِي خُصُوص الطَّهَارَة وَالصَّلَاة بل كَانَ يَقْتَدِي بَعضهم بِبَعْض وَرُبمَا اعْتقد بَعضهم ولَايَة بعض حَتَّى أَن الشَّافِعِي ﵁ بعث يطْلب قَمِيص الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل من بَغْدَاد
1 / 49
يستشفي بِهِ فِي مُدَّة مَرضه بِغسْلِهِ وَشرب مَائه كَمَا رَأَيْته مثبتا فِي مَنَاقِب أَحْمد رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم يُعَامل بَعضهم بَعْضًا كَمَا يعلم ذَلِك من سيرهم وأحوالهم
وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا قد تمسك بِهِ من لَا معرفَة عِنْده بِأَن الِاخْتِلَاف بَينهم لم يكن بَينهم بِهَذِهِ الصّفة الَّتِي عَلَيْهَا الْمذَاهب الْآن لأَنا قد قَررنَا أَن ذَلِك لَا يمْنَع لِأَن الْكل كَانُوا فِي طلب الْحق على
1 / 50
حد متساو واجتهاد كل وَاحِد مِنْهُم يحْتَمل الْخَطَأ كَغَيْرِهِ بعد تَسْلِيم بلوغهم دَرَجَة الِاجْتِهَاد وَإِن تفاوتوا فِيهِ
فَإِن قلت قد نقل الإِمَام حَافظ الدّين النَّسَفِيّ صَاحب
1 / 51
الْكَنْز وَالْكَافِي فِي مصفاة عَن الْمَشَايِخ الْمُتَقَدِّمين إِنَّا إِذا
1 / 52
سئلنا عَمَّا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي الْفُرُوع نجيب بَان مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ صَوَاب يحْتَمل الْخَطَأ وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْغَيْر خطا يحْتَمل الصَّوَاب انْتهى بِمَعْنَاهُ وَإِن لم يكن بِلَفْظِهِ وَهَذَا يُوجب امْتنَاع الْمُقَلّد من اتِّبَاع امام يرى مُخَالفَة قَول امامه لكَونه خطأ وَمَا قلد فِيهِ صَوَاب عِنْده
قُلْنَا المُرَاد من هَذَا تَخْصِيص أَن مَا ذهب إِلَيْهِ أَئِمَّتنَا هُوَ صَوَاب عِنْدهم مَعَ احْتِمَال الْخَطَأ إِذْ كل مُجْتَهد قد يُصِيب وَقد يُخطئ فِي نفس الْأَمر وَأما بِالنّظرِ إِلَيْنَا فَهُوَ مُصِيب فِي اجْتِهَاده وَهُوَ
1 / 53