الحمد لله الذي لا يفتح كل أمر ذي بال إلا بحمده الكريم، الذي لا تستمنح النعم إلا من لدنه، ولا ترتجى إلا من عنده، أحمده حمدا أستوهب [به] جميل صنعه وجزيل رفده، وأشكره شكرا ينجز من زيادة خيره كريم وعده. وأصلي على سيدنا محمد نبيه ورسوله وعبده وعلى آله وأصحابه الأئمة الخلفاء من بعده، وعلى أزواجه وذرياته وكافة أصحابه المهتدين بهديه، الموفين بعهده.
ورضي الله على المتقدمين كتابا وسنة، المتبوئين بما لهم من الأثر الكريمة أعلى المنازل في الجنة، المشهود لهم بسابق الفضل الذي لا يدرك مداه، ولا يبلغ منتهاه، ولا ينتهي لحده المنظوم، ذكرهم الكريم واسطة في سلك البيان، وعقده المعلوم عجز الخطباء وقصور بلاغة البلغاء عن إحصاء مالهم من أثر في الصالحات، وعدة المهاجرين أشرف العرب نسبا، وأقواهم بما اختصوا به من السابقة والهجرة والنصرة [والهداية] والصهر والخلافة والشورى حبلا وأمتنهم سببا، فلدرجتهم رضي الله عنهم المزية والسبق، ولهم على غيرهم الواجب والحق.
صفحة ٩٣
وأرض اللهم عمن سبقت لهم السعادة من جلالك، المتفئيين من سابق عنايتك مديد ظلالك، السابقين بشهودهم بيعة العقبة رجالا عدة الذين تبوءوا الدار والإيمان، وآثروا على أنفسهم في معظم الشدة، الفائزين بسابقتي النصر والإيواء، المجتمعين على إعلاء كلمتك باتفاق القلوب واجتماع الأهواء، أنصارك وأنصار رسولك صلى الله عليه وسلم ، الذين اصطفيتهم له أصحابا وإخوانا، وجعلتهم أنصارا على إظهار دينك وأعوانا، فقر الإسلام بهم عينا، واحتل من ذراهم الرفيع وحماهم المنيع حرما وأمنا.
وأستوهب من الله جل جلاله لوارث شرفهم اليمني وقسيمهم في النسب الأنصاري المدني، مولانا الغالب بالله، المجاهد في سبيله، أمير المسلمين وناصر الدين، أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن نصر، تمهيدا يمد على البسيطة ظلاله، وتأييدا يبلغه في حياطة الإسلام وأهله وآماله.
صفحة ٩٤
وأسأله عز وجل لولي عهده وسليل مجده، مقتفي آثاره الواضحة، الجاري [في الكفاية والحياطة] والحماية على الأخذ بتلك الأفعال الناجحة والأعمال الصالحة، مولانا الأمير الأجل الهمام الأوحد الأسعد [الأعلى] أبي عبد الله [محمد] دوام الشرف الذي أحرز كنهه وحقيقته، وزيادة الخير الذي يسره الله تعالى للعمل به، فأنتهج سبيله وسلك طريقه، واستدامة الفضل الذي فتح مقفله، وأوضح مبهمه ومشكله، ونهج بصالح الأعمال سبله، حين لم يثن عنانا، ولا أعمل خاطرا ولا جنانا إلا لمصلحة جر نفعها للإسلام [وتذليل صعاب تلقته بالخضوع والاستكانة والانقياد والاستسلام]. إعزازا له وإكراما وإشعارا بسعده الثاقب ويمنه المتعاقب وإعلاما، فأعلى الله يده، وفسح للإسلام وأهله أمره وكافأ مذهبه الجميل في نظم الشتات والعمل الذي عاد بإحياء الأرض الموات ومقصده.
صفحة ٩٥
أما بعد: فإن من أنجح الوسائل وأنفع مما تقرب به الراغب والسائل، التوسل إلى الله تعالى بمن سبقت لهم العناية والحظوة من هذه الأمة، والاستشفاع لجلاله جل وعز بأوليائه المخلصين وخاصته المقربين، أولي المكنة والكرامة والعز والوجاهة والحرمة، ولا أحد بعد أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم أفضل ممن أثنى الله عليه ورسوله، وثبت بالكتاب والسنة تزكيته وتعديله وإيثاره وتفضيله، وهم الصفوة الأخيار والأتقياء السادة الأبرار، الرحماء بينهم، الأشداء على الكفار، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المهاجرون ثم الأنصار [رضي الله عنهم].
صفحة ٩٧
فحق على كل من علم مكان عزهم وقربه، أن يتوسل إلى الله تعالى بهم، ويتقرب إليه جل جلاله [وعظم سلطانه] بما ينطوي عليه الضمير من حبهم، ولا خفاء بانتظام هذا الجزء في سلك الديانة وإن من شروط صحة إسلام المرء أداء هذه الأمانة لأن حبهم إنما يرجع إلى حب الله ورسوله، وإلى ذلك ينتهي بناهج طريقه وسالك سبيله.
وبحسب ما يقرع الأسماع من نشر مآثرهم ومفاخرهم، وتسمعه الآذان من حسن مواردهم في أحوالهم الكريمة ومصادرهم، ويرد عليها من ذكر فضائلهم ومناقبهم، تبصر أعين البصائر علو درجاتهم في الفضل وأقدارهم، وتتضاعف أسباب المحبة بالوقوف على حميد سيرهم وجميل آثارهم.
وقد قام الناس بهذه الوظيفة الجليلة، وانتهزوا الفرصة في اغتنام هذه الغنيمة، وإحراز هذه الفضيلة، فنشروا من ذلك ما لا يتغير بطول المدة، ولا يزيد مع تعاقب الأيام إلا جمالا وبهاء وجدة.
صفحة ٩٨
غير أني رأيت بعض من: تعرض لذلك من المتأخرين، نقصه ذكر الأنصار بعد ذكر المهاجرين، فقصدت تتميم ذلك القصد، واستدراك ما أغفله في ذلك الحد، ثم إني لما عجزت عن معارضته في حسن مساقه، والوقوع على ما غاص من تفسير درره وفاخر أعلاقه، لم أتعرض لإدراك مداه، ولا تعاطيته أن أحل نفسي بعلي منتداه، فانتزعت خلاف منزعه، ومشيت على غير منهجه المسلوك ومهيعه.
وإذا حصل المقصود والحمد لله، فلا مبالاة بارتكاب الطرق المسلوكة ولا عبرة بالسبل المأخوذة في ذلك أو المتروكة.
وقد أوردت ما أثبت من ذلك بمن الله تعالى، معتمدا فيه على تجريد الصحيح من الأثر وانتقائه، مضموما فيه الشكل إلى شكله، مجعولا بإزائه مسوقا بحذائه.
صفحة ٩٩
وضمنته نبذا من النسب والتفسير والأثر والفضائل والمناقب، موصولا ذلك ببيان المشكل وشرح الغريب، نظمت ذلك كله عقودا، وأقمت عليه من انتقاء المتخير بينة عادلة وشهودا، فجاء بفضل الله تعالى مرهف الحد، محكم العقد، لا يلين عن غمز النقد، ولا يقف بموقف من مواقف الرد.
وحصرت الكلام فيه في خمسة أبواب:
الباب الأول: في ذكر نسبهم.
الباب الثاني: في ثناء الله تعالى عليهم.
الباب الثالث: في ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عليهم.
الباب الرابع: في مناقب آحاد منهم رضي الله على جميعهم
الباب الخامس: في فضل بلدهم.
وسميته ((نزهة الأبصار في فضائل الأنصار))، تسمية استحقها وصفه، واستوجبها نظمه وجمعه، ومن الله تعالى أسأل أن يجعل ذلك من العمل المرفوع إليه، المقرب منه، المزلف لديه بمنه وفضله.
صفحة ١٠٠
الباب الأول في ذكر نسبهم رضي الله عنهم
صفحة ١٠١
لا خلاف بين أهل العلم بالأنساب أن العرب [كلها] يجمعها أصلان: عدنان وقحطان، فإلى هذين الأصلين ينتمي كل عربي في الأرض.
ولا خلاف أيضا بين جماعة أهل العلم بالنسب وأيام العرب أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما.
وإنما الخلاف في قحطان، فمنهم من ينسبه إلى إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ومنهم من ينسبه إلى إسماعيل صلوات الله عليه.
صفحة ١٠٣
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ((يشهد لقول من قال قحطان وسائر العرب من ولد إسماعيل عليه السلام قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من أسلم والأنصار: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ..)) وأسلم هو [ابن] أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العرب كلها من ولد إسماعيل إلا جرهم فإنهم من [عاد] [وثقيف فإنهم من ثمود] وقبائل من حمير فإنهم من تبع))، لكنه ضعف إسناده.
صفحة ١٠٤
[وفي ثقيف الخلاف المشهور عند النسابين، فبعضهم ينسبهم إلى إياد، وبعضهم إلى قيس، وقد نسبوا إلى ثمود على ما جاء في الأثر].
وهذا الذي أشار إليه الحافظ أبو عمر رحمه الله، قد تقدمه فيه البخاري رضي الله عنه بترجمة نصها ((باب نسبة اليمن إلى إسماعيل صلى الله عليه وسلم ))، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم يتناضلون بالسوق، فقال: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباك كان راميا)).
صفحة ١٠٥
[قال أبو العباس محمد بن يزيد في كامله: ((النسب الصحيح في قحطان الرجوع إلى إسماعيل، وهو الحق وقول المبرزين من العلماء، وهو ابن الهميسع بن تيم بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من خزاعة، وقيل من الأنصار: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا].
وإلى هذا النحو أشار القاضي [أبو الفضل عياض] رحمه الله في إكمال المعلم حيث انتهى به الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم عليه السلام وسارة حين قدما على أرض الجبار، وفيه أنه دعا الذي جاء بها، فقال: أخرجها وأعطها هاجر، قال:
صفحة ١٠٦
فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم صلوات الله عليه: قال: مهيم! فقالت: خيرا، كف الله يد الفاجر وأخدم خادما.
قال: أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء، يعني هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليه.
قال: الأظهر عندي أن المراد بذلك الأنصار، نسبهم إلى جدهم عامر بن حارثة ابن امرئ القيس، وكان يعرف بماء السماء، والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، ويكون ذلك على قول من جعل العرب كلها من ولد إسماعيل، قال: وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((ارموا يا بني إسماعيل))، وكلها حجة لمن يجعل العرب كلها من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
صفحة ١٠٧
[وقد تأول غير القاضي أبي الفضل هذا الأثر على غير هذا] وقوله في الحديث ((مهيم)): قال الخليل [رحمه الله] هي كلمة لأهل اليمن خاصة معناها ما هذا؟
وقال الطبري معناها: ما شأنك وما أمرك؟
صفحة ١٠٨
[وذكر ابن أبي زيد في نوادره ((أن هاجر أول امرأة ثقبت أذناها وأول من جرت ذيلها، وذلك أن سارة غضبت عليها، فحلفت أن تقطع ثلاث أعضاء من أعضائها فأمرها إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن تبر يمينها بثقب أذنيها، وخفاضها فصارت سنة].
[قال أبو القاسم السهيلي رحمه الله في كتاب الأعلام له: ((والقول في العرب العدنانية والقحطانية بانتسابهم إلى إسماعيل صلوات الله عليه أظهر وأصح لما تقدم من قول أبي هريرة رضي الله عنه. قال: وهذا خلاف قول ابن إسحاق وجماعة فإنهم زعموا أن قحطان هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. قال: وقد قيل هو هود عليه السلام وقيل هو أخو هود صلى الله عليه وسلم ، والأصح أن هودا هو ابن عبد الله بن رباح لا ابن عابر))].
صفحة ١٠٩
فالأنصار إذا [من ولد الأزد، و] هم بنو الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء، ابن عمرو مزيقياء، ابن عامر ماء السماء بن حارثة الغضريف بن امرئ القيس البهلول ابن ثعلبة بن مازن بن الأسد، وكلهم ملوك متوجون، (والملوك المتوجون في آل قحطان).
قال أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء: ((ولم يتوج من العرب إلا قحطاني، قيل له قد تتوج هوذة بن علي الحنفي، فقال: لم يكن تاجا وإنما كانت خرزات تنظم له. وكان سبب تتوج هوذة أنه أجار لطيمة لكسرى، ومنعها عمن أرادها، فلما وفد عليه توجه لذلك وملكه، وسأله عن بنيه، فذكر هوذة عددا فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: ((الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح)).
صفحة ١١٠
وقال خلف الأحمر رحمه الله: المتوجون من ملوك العرب في ثلاثة قبائل: قضاعة ومتوجوها في بني القيس، وكندة ومتوجوها في بني آكل المرار، وبنو عمرو بن عامر ومتوجوها في الخزرج.
وخلف الأحمر يكنى أبا محرز مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال أبو العباس: وكان خلف مولدا ظريفا شاعرا. والأصمعي يروي عنه.
صفحة ١١١
ووقع في كتاب أبي الفرج الأصبهاني رحمه الله أن ثعلبة سمي بالعنقاء لطول عنقه، والغطريف السيد الشريف والبهلول الوضيء الوجه.
ووقع لابن قتيبة رحمه الله] أن عمرو قيل له مزيقياء لأنه كان يمزق كل يوم حلتين يلبسهما، ويكره أن يعود فيهما، ويأنف أن يلبسهما غيره، ويقال إنه ملك ثلاثا وستين سنة.
وأما أبوه عامر ماء السماء، فيذكر أنه [إنما] سمي لأنه كان إذا أصاب الناس القحط وامتنع القطر جاء بما له وأقامه مقام القطر. فسمي بذلك ماء السماء.
وماء السماء في غير هذا الموضع [إسم] امرأة، وهي أم المنذر ملك الحيرة، سميت بذلك لحسنها وجمالها.
صفحة ١١٢
ويقال له المنذر بن ماء السماء، منسوبا لأمه. وابنه [عمرو] بن هند [نسب] كذلك أيضا لأمه. [ووقع في كتاب النزهة لابن وكيع رحمه الله: ما سمعت للعرب أحسن موقعا في الأدب من كلام المنذر بن ماء السماء لابنه النعمان. قال له يوما ومن [ ] الاستحقاق لوصيته: إن لي فيك رأيا دون غيرك من ولدي، وأنا موصيك بالذي أوصاني به أبي: أوصيك بالذل في عرضك والاقراع في مالك، وأحب لك خلوة الليل ومسره، وأنهاك عن ملاحاة الرجال، ومزاح السفهاء فإن لك عقلا وجمالا، فالبس من البشر ما يزيد في جمالك، ودع الكلام وأنت تقدر، وليكن لك من عقلك حب تنصرف إليه.
فقال له النعمان: إن كان لك يا أبت في هذا إيجاز كان أوقع لعنايتي. قال: عليك بالحياء فإنه جماع لما أوصيك به.
صفحة ١١٣
ووقع في كتاب أبي الفرج رحمه الله أن المنذر هذا هو الذي كان له في السنة يومان يوم نعيم يعطي فيه أول من يطلع عليه مائة من الإبل، ويوم بؤس يقتل فيه أول من يطلع عليه، وهو الذي طلع عليه عبيد بن الأبرص الشاعر يوم بؤسه فقتله.
ونسب ابن قتيبة ذلك للنعمان صاحب النابغة، والأشهر ما ذكره أبو الفرج رحمه الله والله أعلم.
والنعمان صاحب النابغة هو آخر ملوك آل المنذر، ثم انتقل الأمر بعده لإياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر. ثم اضطرب أمر كسرى، وجاء الله تعالى بالإسلام.
صفحة ١١٤