ما تغنت إلا تقشع هم ... عن الفؤاد وأقلعت أحزان
تفضل المسمعين طيبًا وحذقًا ... مثلما يفضل السماع العيان
وقال:
ما نطقت عاتب ومزهرها ... إلا ظللنا للراح نعملها
تطلب أوتارها الهموم بأو ... تار تستفيق تقتلها
وقال:
شدو ألذ من ابتدا ... ء العين في لإغفائها
أشهى وأحلى من منى ... نفس وصدق رجائها
وقال أيضًا:
لها غناء مطرب معجب ... يفعل ما لا تفعل الخمرة
تشوق الأذن إلى شدوها ... تشوق العين إلى الحضرة
كأنما بهجة من زارها ... بهجة من طارت له القمرة
لو أن إسحاق شدا بعدها ... لخلت من يسمع في سخرة
مندرة في كل ألحانها ... لا كالتي تحسن في الندرة
وقال:
لقد برعت في الغناء ... وزادت وأربت على البارع
يسبح سامعها معجبًا ... فأصواتها سبحة السامع
[وقال أيضًا:
يا صاحبي قم فقد أطلنا ... أنحن طول المدى هجود؟
فقال لي: لن نقوم منها ... ما دام من فوقنا الصعيد
تذكر كم ليلة نعمنا ... في ظلها والزمان عيد
ظل كأن لم يكن تقضى ... وشره حاضر عتيد]
وقال يرثي عجائب جارية ابن مروان:
أضحى الثرى بجوارها ... عطر المسالك والمسارب
حلت حفيرتها حلو ... ل المسك في سرر الكواعب
يا درة كانت تضي ... ء لناظر من كل جانب
تبع فيه أستاذه ابن الرومي، يرثي جارية أم علي بنت الرسي:
واهًا لذاك الفناء من طبق ... على جميع الأنام مقتدر
أضحت من الساكني حفائرهم ... سكنى الغوالي مداهن السرر
يا مشربًا كان لي بلا كدر ... يا سمرًا كان لي بلا سهر
أصبحت بالترب غير راجحة ... عنه وقد ترجحين بالبدر
ومن ألفاظ أهل العصر في الغناء والمغنين: غناؤه كالغنى بعد الفقر، وهو عذر للسكر، غناء يبسط أسرة الوجه، ويرفع حجاب الأذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويمتزج بأجزاء النفس، غناء يحرك النفوس ويرقص الرؤوس، ويحرض [على الكؤوس]، فلان طبيب القلوب والأسماع، ومحيي الخواطر والطباع، يطعم الآذان سرورًا، ويقدح في القلب نورًا، القلوب من غنائه على خطر، فكيف الجيوب! السكر على صوته شهادة، نعمة نغمته تطرب وضروب ضربه لا تضطرب.
ولهم في ضد هذا: يغني فيتعب ولا يطرب، إذا غنى عنى، وإذا أدى أذى، يميت الطرب، ويحيي الكرب، ضربه يوجب ضربه، من عجائب غنائه أنه يورد الشتاء في الصيف، [ولا يقدر على سماعه الضيف] .
وقال كشاجم:
ومغن بارد النغم ... ة مختل اليدين
ما رآه أحد في ... دار قوم مرتين
قربه أقطع للذا ... ت من صبحة بين
وقال أيضًا يذم عوادة:
جاءت بعود مثلها نافر ... كأنه نقنق الضفدع
مضطرب الأوتار منقوصها ... مستقبح المبدإ والمقطع
يود من يسمع أصواته ... لو فقد السمع ولم يسمع
فأقبلت تضرب غير الذي ... تحسب والنغمة لم تتبع
كأنما قسمة تأليها ... مثلث مختلف الأضلع
وهذا ضد قوله لبعض إخوانه:
عندي معتقة كودك صافية ... ونديمك الدمث الرقيق الحاشية
إذا كربت إلى السماع ترنمت ... بيضاء زاهية تسمى زاهية
تصل الغناء يمينها بشمالها ... كمثلث أضلاعه متساوية
وله في هذا المعنى:
صحت مقادر ضربها وحسابها ... وغنائها وتوازنت في الأنفس
فكأن أشكال المثلث إنما ... يؤخذن عنها ليس عن إقليدس
وقال أبو فراس الحمداني: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان، ويحظرهما علي، فوافت من بغداد ظلوم الشهرامية، وكانت من المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم، فاضل [أهل] زمانه. فتاقت نفسي إلى سماعها، فسألنه أن يحضرهما، فوعدني بذلك في يومنا، فانصرفت عنه، وأنا غير واثق [به]، لعلمي بضعف نيته في ذلك، ووجهت إلى ظلوم وابن المنجم فحصلتهما، وأقمت أنتظر رسوله إلى غروب الشمس فكتبت له:
محلك الجوزاء بل ارفع ... وصدرك الدهناء بل أوسع
وقلبك القلب الذي لم يزل ... للجد والهزل به موضع
رفه بقرع العود سمعًا غدًا ... قرع العوالي جل ما يسمع
1 / 30