فحين ورد الجواب، وغير العذر رائده، تركناه بعره، وطويناه على غرة، وعمدنا إلى ذكره فسحوناه ومحوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وتنكبنا خطته، وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه، ولا طرنا به، ومضى على ذلك الأسبوع، ودبَّت الأيام ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها السماع من لسانه، وتردها إلي، وكلمات تحفظها اللسنة من فمه، وتعيدها عليّ، فكاتبناه بما نسخته: أنا أرد من الأستاذ سيدي أطال الله بقاءه شرعة وده، وإن لم تصف، وألبس خلعة بره، وإن لم تضف، فإني، وإن كنت دعي النسب في الأدب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفًا في الود، إن زرت زار، وإن عدت عاد، وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولًا، وصارفني على الإقبال ثانيًا، فأما الحديث الإفضال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، [غير] متسع لتوقعه منه، وبعد فكلفة الفضل هينة، وقروض الود متعينة، وارض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم اختار قعود التعالي مركبًا، وصعود التقالي مذهبًا، وهلا ذاد الطير عن شجر قد ذاق الحلو من ثمرها، فقد علم الله أن شوقي إليه قد كد الفؤاد، برحًا على برح، ونكأه قرحًا على قرح، ولكنها مرة مرة، ونفس حرة، لم تغذ إلا بالإعظام، ولم تلق إلا بالإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل بتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، وكم أعزه من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا رففت إلا عليه:
أحبُّكَ يا شمسَ المعالي وبدرها ... وإن لامني فيك السُّها والفراقدُ
وذاك لأنَّ الفضلَ عندكَ باهرٌ ... وليس لأنَّ العيشَ عندك باردُ
فلما وردت عليه هذه الرقعة حشر تلاميذه وخدمه، وزم عن الجواب قلمه، وجشم للإيجاف قدمه، وطلع مع الفجر علينا طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الأمير الإمام أبي الطيب، فقلت: الآن تشرق الحشمة وتثور، وننجد في العشرة ونغور، وقصدناه شاكرين لما أتاه من فعله، وانتظرنا عادة بره، [وتوقعنا] مادة فضلة، فكان خلباَ شمناه، وآلًا وردناه، وصرفناه في تأخره، وتأخرنا عنه إلى ما قاله عبد الله بن المعتز بالله:
إنّا على البعادِ والتفرُّقِ ... لنلتقي بالذّكرِ إن لم نلتقِ
وأنشدناه قول ابن عصرنا:
أحبُّكَ في البتول وفي أبيها ... ولكنّي أحبُّكَ من بعيد
وبقينا نلتقي خيالًا، ونقنع بالذكر وصالًا، حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب.
والمجلس طويل، والإفراط ثقيل، فلذاك وقفت عن الغاية، وقطعت دون النهاية.
وقال بعض الظرفاء:
أنتَ الذي تشبهُ منْ أهوى ... يا بدرُ قد أبطلتَ في الدعوى
بلى عسى يشبههُ كلَّما ... صدَّ ولم يستمعِ الشَّكوى
ولابن وكيع في هذا النحو:
إنْ قلتُ إنكَ بدرٌ ... غلطتُ بابَ السَّدادِ
أنى يقاسُ لبيبٌ ... مميَّزٌ بجمادِ
وقال الأمير تميم فيه:
سألتهُ قبلةً من على عجلِ ... فاحمرَّ من خجلٍ واصفرَّ من وجلِ
واعتلَّ من بينِ إسعافٍ يرقّقهُ ...
وبين منعٍ تمادى فيه بالعللِ
وقال: وجهي بدرٌ لا خفاءَ به ... ومبصر البدرِ لا يدعوه للقبلِ
وقال:
صادفتْ لامَ صدغها صادُ لثمي ... فأرتها المرآةُ في الخدِّ لصَّا
فاستشاطتْ ممّا رأت ثم قالت: ... أكتابًا أرى ولم أرَ شخصا
وهذا ينظر إلى قوله:
أباحَ لمقلتي السَّهرا ... وجارَ عليَّ إذ قدرا
غزالٌ لو جرى نفسي ... عليه لذابَ وانفطرا
ولكن عينهُ حشدتْ ... عليّ الغنجَ والحورا
ومن أودى به قمرٌ ... فكيف يعاتب القمرا
كأنه ذهب إلى طريقة أبي نواس في قوله:
كأنّ ثيابهُ أطلع؟ ...؟ن في أزرارهِ قمرا
يزيدك وجههُ حسنًا ... إذا ما زدتَهُ نظرا
بعينٍ خالط التفتي؟ ...؟رُ من أجفانها الحورا
ووجهٍ سابريِّ لو ... تصوَّبَ ماؤهُ قطرا
وقيل للجاحظ: من أشعر المحدثين؟ فقال: الذي يقول: وأنشد هذه الأبيات. وقال تميم [بن المعز]:
1 / 19