عليكَ بإظهارِ التجلُّدِ للعدا ... ولا تظهرنَّ منك الذُّبول فتحتقرا
ألستَ ترى الرَّيحانَ يشتُّم ناضرًا ... ويُطرحُ في الميضاةِ إمّا تغيَّرا
ومن شعره أيضًا:
لا تصحب الكسلانَ في حاجاته ... كم صالحٍ بفساد آخر يفسد
عدوى البليدِ إلى الجليدِ سريعة ... كالجمرِ يوضع في الرَّمادِ فيخمد
وهكذا كقول الوكيعي:
لا تُلفينَّ مقارنًا ... من لا يزينكَ في الصِّحاب
فالثوب ينفضُ صبغهُ ... فيما يليهِ مكن الثيابِ
وقال الخوارزمي لبعض أخوانه:
رأيتكَ إنْ أيسرت خيَّمت عندنا ... لزامًاَ وإن أعسرتَ زرتَ لماما
فما أنتَ إلاّ البدرُ إن قلَّ ضوؤه ... أغبَّ وإن زاد الضياءُ أقاما
وأنشد أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ولم يسم قائله:
ولكنَّ الجواد يا أبا هشامٍ ... نقيُّ الجيب مأمونُ المغيب
بطيءٌ عنك ما استغنيت عنه ... وطلاَّعٌ عليك مع الخطوب
إذا أمرٌ عراكَ حماك منه ... وعاد به على عطنٍ رحيب
قال: وهذا ضد قول الآخر:
وإذا دعوت أخا إخا ... ئكِ عند نائبةٍ تنوبُ
ألفيتهُ أحد الخُطو ... بِ إذا تتابعت الخطوبُ
والمعنى الأول كقول إبراهيم بن العباس الصولي:
أسدٌ ضارٍ إذا مانعته ... وأبٌ برٌّ إذا ما قدرا
يعرفُ الأبعدُ إن أثرى ولا ... يعرفُ الأدنى إذا ما افتقرا
وإبراهيم بن العباس القائل:
أميلُ مع الذِّمام على ابن عمّي ... وآخذُ للصَّديقِ من الشقيق
وإن ألفتني ملكًا مطاعًا ... فإنك واجدي عبد الصَّديق
أفرق بينَ معروفي ومنّي ... وأجمعُ بين ماليَ والحقوقِ
قال أبو محمد عبد الله بن درستويه النحوي: قال لي البحتري يومًا وقد اجتمعنا على خلوة عند المبرد، وسلكنا مسلكًا في المذاكرة: أشعرت أني سبقت الناس إلى قولي:
سقى الغيثُ أكنافَ الحمى في محلةٍ ... إلى الحقفِ من رملِ الحمى المتقاودِ
ولا زال مخضرُّ في الرَّوضِ يانعٌ ... عليه بمحمرٍّ من النَّورِ جاسدِ
يذكِّرني ريَّا الأحبَّةِ كلّما ... تنفَّسَ في جنحٍ من اللّيلِ باردِ
شقائقُ يحملنَ الندى فكأنَّهُ ... دموعُ التصابي في خدودِ الخرائدِ
ومن لؤلؤٍ في الأقحوانِ منظَّمٍ ... على نكتٍ مصفرَّةٍ كالفرائد
كأنَّ يد الفتح بن خاقانَ أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرَّواعدِ
فاستحسن بذلك المبرد استحسانًا أسرف فيه، وقال: ما سمعت مثل هذه الألفاظ الرطبة، والعبارة العذبة لأحد تقدمك، ولا تأخر عنك، فاعترته أريحية جربها رداء العجب، فكأنه أعجبني ما يعجب الناس من مراجعة الكلام، فقلت: يا أبا عبادة إنك لم تسبق إلى هذا، بل سبقك قولك: شقائقُ يحملن الندى.. البيت، سعيد بن حميد الكاتب في قوله:
عذب الفراق لنا قبيلَ وداعنا ... ثم اجترعناه كسمٍّ ناقعِ
فكأنَّما أثرُ الدُّموعِ بخدِّها ... طلٌّ سقيطٌ فوقَ وردٍ يانع
وشركك فيه صاحبنا أبو العباس الناشئ بما أنشدنيه آنفًا:
بكتْ للفراقِ وقد راعني ... بكاءُ الحبيبِ لفقدِ الديارِ
كأنَّ الدُّموعَ على خدِّها ... بقيَّةُ طلٍّ على جُلَّنارِ
وما أساء أبو الحسن علي بن العباس الرومي، بل أحسن في زيادته عليه إذ يقول:
لو كنتَ يومَ الوداعِ شاهدنا ... وهنَّ يطفئنَ لوعةَ الوجدِ
لم ترَ إلاّ دموعَ باكيةٍ ... تسفحُ من مقلةٍ على خدِّ
كأنَّ تلكَ الدموعَ قطرُ ندىً ... يقطرُ من نرجسٍ على ورد
وسبقك أبو تمام إلى الخروج فقال:
من كلِّ زاهرةٍ ترقرق بالنَّدى ... فكأنَّها عينٌ عليه تحدَّرُ
تبدو ويحجبها الجحيم كأنَّها ... عذراءُ تبدو تارةً وتخفَّرُ
خلقٌ أطلَّ من الرَّبيع كأنَّه ... خلقُ الإمام وهديه المتيسّرُ
في الأرضِ من عدلِ الإمام وجودهِ ... ومن النَّباتِ الغضّ سرجٌ توهر
ينسى الربيعُ وما يروضُ وفعله ... أبدًا على مرِّ الليالي يذكر
فشق ذلك عليه، وحل حبوته [ونهض]، فكان آخر عهدي من مؤانسته وغلظ ذلك على محمد بن يزيد، وقدح في حالي عنده.
1 / 13