النبوغ المغربي
في الأدب العربي
تأليف
عبدالله كنون
- (الجزء الأول) -
1 / 1
النبوغ المغربي
في الأدب العربي
1 / 3
مقدمة الطبعة الثانية
1 / 5
هذا الكتاب
لما ألفت هذا الكتاب، لم أكن أهدف به إلى تمييز أدب المغرب بميزةٍ ليست في الأدب العربي العام، ولا إلى تخصيصه ببحث مستقل يجعله في نظر المغاربة أو غيرهم كتابًا خاصًا بأدب قطر من أقطار العروبة على حدته، وإنما كان مقصودي الأهم من تأليفه، هو بيان اللبنة التي وضعها المغرب في صرح الأدب العربي الذي تعاونت على بنائه أقطار العروبة كلها، وذكر الأدباء المغاربة الذين لم يقصروا عن إخوانهم من المشارقة ومغاربة بقية أقطار المغرب العربي في العمل على ازدهار الأدبيات العربية على العموم.
وذلك لأني رأيت منذ نشأتي الأولى إهمال هذا الجزء من بلاد العروبة في كتب الأدب وكتب تاريخ الأدب، حتى لقد تذكر تونس والجزائر، وبالحرى القيروان وتلمسان فضلًا عن قرطبة وإشبيلية، ولا تذكر فاس ومراكش بحال من الأحوال. وظننت أولًا أن ليس لبلادي في هذا المجال مشاركة، وإنما حسبها ميادين البطولة والجهاد والفتح، ولذلك لا يسع المؤرخين وكتاب التراجم إلا أن ينوهوا بشخصيات يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن بن علي، ويعقوب المنصور، وأبي الحسن المريني، وأضرابهم من أبطال المعارك وأرباب الحكم والسلطان، ويثنوا على أعمالهم ومساعيهم في خدمة الإسلام، وتوطيد دولته؛ في حين أنهم لا يعيرون اهتمامًا لرجال العلم والأدب، ولا يعرجون على ما كان لهذا الوطن العزيز من صولة في عالم الفكر وميدان العرفان.
ثم لما بحثت، وجدت كنوزًا عظيمة من أدب لا يقصر في مادته عن أدب أي قطر من الأقطار العربية الأخرى، وشخصياتٍ علمية وأدبية لها في مجال
1 / 7
الإنتاج والتفكير مقام رفيع. ولكن الإهمال قد عفى على ذلك كله، وعدم الاهتمام يجمعه في كتاب، والتنبيه عليه في خطاب أدى إلى وأده، فاحتاج إلى من يبعثه من مرقده.
وقد شمرت عن ساعد جدي، وأنا يافع لم يبقل بعد عارضي، فتتبعت جميع ما وصلت إليه يدي من آثار أدبية مغربية، وأخبار عن أدباء المغرب وعلمائه، مما وقفت عليه في الكتاب والأوراق والمحافظ، أو تلقفته من أفواه المشائخ والأدباء والأقران، وجمعت ذلك كله في كتاب النبوغ ودفعت به إلى المطبعة منذ بضع وعشرين سنة، لعلي أرفع الضيم عن بلادي، وأثبت مركزها في حظيرة العلم والأدب، على ما هو عليه مركزها في السياسة والحرب أو أعظم.
ولقد وفقت إلى ما أردت أو بعضٍ مما أردت، على ضعف وسائلي المادية والأدبية في ذلك الحين، فكان للكتاب صدًى بعيد في الداخل والخارج، نبه الزملاء والناشئين بعد إلى العناية بهذه الناحية من تاريخهم، وأثار اهتمام الباحثين والمعنيين بهذه الشؤون في الشرق والغرب، حتى قال فيه أمير البيان المرحوم الأمير شكيب أرسلان؟؟ إن من لم يقرأه فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي؟؟ وصار العلامة الأستاذ كارل بروكلمان، الحجة في تاريخ الأدب العربي يعتمده في ملحقات كتابه العظيم، عن تاريخ هذا الأدب. ولا يمكنني في هذه العجالة أن أستوعب أسماء جميع الأدباء والكتاب الذين تناولوه بالنقد والتقريظ في مختلف الصحف والمجلات منذ صدوره إلى الآن. ولكني أشير إلى إقرار العالم الإيطالي الشهير جيوفاني بيانكي في مقال له بمجلة الشرق الحديث (١) عن الكتاب؟؟ بإبرازه للمساهمة التي أبداها المغرب في الآداب العربية، تلك المساهمة التي أهملت حتى اليوم، ولم تقدر كما كان ينبغي؟؟ وهذه هي الغاية التي من أجلها الفت النبوغ. وكذلك أشير إلى ما جاء في مقال عنه للدكتور محسن جمال الدين، نشر بمجلة الأديب البيروتية منذ عهد قريب (٢) وهو قوله:؟؟ أن فضيلة هذا الكتاب في أنه يختص بدراسة
_________
(١) انظر ترجمه في مجلة العالم العربي (عدد أول سنة ثانية) بقلم المستشرق؟؟ اميليو بوسي؟؟، وكان الكاتب اطلع على الترجمة الإسبانية للكتاب.
(٢) عدد سبتمبر ١٩٥٨.
1 / 8
أدب بلاد المغرب الأقصى وتاريخه ويستخرج النصوص من خزائنها النادرة، ذات المخطوطات النفيسة، ويعرض لنا نماذجها الحسنة. ودراسة شخصياتها المعتبرة، وهو بعيد عن ابتذال القول وضعف الرأي. . . والذي يدرس منا كتاب «النبوغ المغربي» فستدهشه هذه الوفرة الزاخرة من أسماء الرجال والمؤلفات والنصوص، ويتأكد بعدها أن أغلب أصحاب حرفة الأدب عندنا أو حملة العلم في جامعاتنا، لم يسمعوا بها أو يقتنوا من آثارها، أو يحفظوا بعض أشعارها ونثرها، وما عمل المؤلف المفضال، والصديق الكريم إلا صيحة داوية، ودعوة حارة، وغرسًا مثمرًا لجمله الحاضر، ولأجيالنا القادمة في الوطن العربي كافئة، وفي عالم الحضارة العالمية الواسعة، وهذا وصف للمجهود الطائل الذي بذلته في تأليف النبوغ، بقلم أستاذ جامعي يعرف قيمة البحوث المبتكرة التي لم تنسج على منوال سابق.
وكان المرحوم الأستاذ سعيد حجي يعلن عنه في جريدة المغرب عند صدوره بهذه العبارات «حادث خطير في تاريخ المغرب، ظهور كتاب النبوغ المغربي في الأدب العربي، أول كتاب من نوعه، وأوفاه في موضوعه "، وألقي بأحد نوادي سلا محاضرة عنه بعنوان (خطوة عظيمة في تاريخ الفكر المغربي) نشرها في العدد الثامن وما بعده من الملحق الثقافي لجريدة المغرب.
ثم كانت موافقة عجيبة أن أعلن في مصر عن جائزة الدولة قدرها خمسمائة (٥٠٠) جنيه، خصصت لمن يؤلف عن الأدب العربي في القطر المصري، من الفتح الإسلامي إلى العصر الحاضر. . فكتب الأستاذ حجي معلقًا على هذا النبأ بالملحق المذكور ما يلي: «من حسن الصدف أن تهتم وزارة معارف مصر بوضع جوائز عن الأدب المصري في الماضي، في نفس الأسبوع الذي يصدر فيه كتاب مغربي عن الأدب المغربي في ذلك الماضي، فيكون المغرب أسبق إلى تلك المفخرة من كل الأمم الناطقة بالضاد ولكن يجب أن نتساءل ماذا ينال مؤلفنا من تقدير إدارة العلوم والمعارف، وما يستحقه من تشجيع من جمهور المثقفين؟ فنحن نهيب بتلك الإدارة إلى الاهتمام بهذا المؤلف الحافل، ونرجو أن تشتري منه بضع مئات من النسخ تقديرًا لمجهودات مؤلفه الثمينة، وتشجيعًا لمثل هذه المباحث القيمة،، وقد كان الجواب على هذا النداء النبيل هو صدور قرار عسكري بمنع رواج الكتاب، ومعاقبة من تضبط عنده نسخة منه. ونص ما كتبته جريدة السعادة،
1 / 9
لسان حال حكومة الحماية، بعددها رقم ٤٥٩٢ في هذا الصدد تحت عنوان بلاغ عسكري (أصدر سعادة الجنرال خليفة سعادة القائد الأعلى للجنود بالنيابة أمرًا يقضي بمنع الكتاب المعنون بالنبوغ المغربي في الأدب العربي الصادر باللغة العربية في تطوان من الدخول إلى المنطقة الفرنسية بالمغرب الأقصى، وكذلك بيعه وعرضه وتوزيعه، ومن خالف ذلك يعاقب بمقتضى القوانين المقررة». .
وإذا كان هذا القرار دلالة فهي تأكيده لكون الكتاب عملًا وطنيًا فوق كونه عملًا أدبيًا ولذلك استحق أن يحظى من الاستعمار الفرنسي الغاشم بهذا الجزاء الظالم. . وكان أن ثارت ثائرة الصحف الوطنية بتطوان ضد هذا التدخل العسكري الاستبدادي في شؤون الفكر والثقافة، فكتبت كل من جريدة «الحرية» وجريدة «الوحدة المغربية، مقالات نارية تنتقد فيها القرار المذكور وتندد بالحرية الفرنسية المزعومة، مما جعل الصحافة الاستعمارية تصاب بالسعَّار، فتصب جام غضبها على الوطنية المغربية عمومًا، وتخصَّني بحملات عدائية أنتهزها الأذنابُ والمنافقون، فلم يقصروا في الأذى والضرر.
ومن الأنصاف أن أقول أن هذا كان في الجنوب أو المنطقة السلطانية إذ ذاك. وأما في الشمال أو المنطقة الخليفيه، فقد تلقي الكتاب بقبول حسن من لدن السلطة، واقتنت منه إدارة المعارف كمية من النسخ، وزعتها على المكتبات والمعاهد في المنطقة. ثم لما ترجم إلى الإسبانية بمعرفة الأستاذين خير ونيمو كريو أورد ونياز ومحمد تاج الدين بوزيد، قابلته المحافل الأدبية في إسبانيا بمزيد من التقريظ والتقدير، وبلغ الأمر أن وصلتني رسالة من وزارة الخارجية الإسبانية بتاريخ ١٨ نوفمبر ١٩٣٩ تعلمني بأن وزارة المعارف العمومية لهذه البلاد، قد منحتني درجة دكتوراه شرف للآداب من جامعة مدريد بمناسبة صدور كتابي النبوغ المغربي في ترجمته الإسبانية، وتدعوني إلى زيارة إسبانيا في رحلة تستغرق شهرًا على نفقة الحكومة. وجاءت هذه التحية الكريمة في الوقت المناسب، فمحت من نفسي آثار المعاملة السيئة التي عومل بها الكتاب من السلطات الفرنسية وعملائها، ورددت الجواب بالشكر وعرفان الجميل ولكني أجلت السفر إلى أن يشاء الله تجنبًا للقيل والقال.
هذه قصة كتاب النبوغ المغربي باختصار، من لدن التفكير في وضعه وجمعة،
1 / 10
إلى ما بعد طبعه ومنعه. والآن وقد مرت على ظهور طبعته الأولى هذه المدة الطويلة، وكثر الطلب عليه من مختلف الجهات وخصوصًا بعد استقلال المغرب، وتوجه الأنظار إلى هذه البلاد التي كانت محاطة بستار حديدي من نظام الحماية، يمنع الاتصال بينها وبين شقيقاتها العربيات، والأوطان الإسلامية الأخرى، وسائر العالم الحر، فأن الحاجة أصبحت جد ماسة إلى إعادة طبعه، وتقديمه وثيقة وسندًا إلى جميع هؤلاء الذين يهمهم الوقوف على تاريخ المغرب الفكري وماضيه الحضاري. ولكن بعد مراجعته طبعًا وتجديد النظر في محتوياته من مادة وفكرة وترتيب، ضرورة أن المعلومات التي كانت لدينا زمن تأليفه هي غير المعلومات الآن، والتفكير وسائر وسائل العمل، قد تطورت بتطور الزمن، فلم يكن أبدا من إدخال تعديل جوهري عليه يتلخص فيما يلي:
أولًا - إضافة المواد الجديدة التي وقفنا عليها بعدُ، سواء فيما يرجع إلى تراجم الأشخاص أو الآثار الأدبية، أو الدراسات الموضوعية التي تناولناها في مختلف العصور، فقد ظهرت في عالم الطباعة كتب مهمة لها اتصال وثيق موضوعنا كمجموعتي رسائل موحدية، ورسائل سعدية، ورابع البيان المغرب لابن عذاري، ومغرب ابن سعيد، والغصون اليانعة، ورايات المبرزين له، واطلعنا على الحماسة المغربية اللجراوي، وتثير الجمان لابن الأحمر والمدارك للقاضي عياض، ورحلة ابن رشيد، وغير ذلك من المخطوطات النادرة التي تحتوي على مواد أساسية في الموضوع كان من الضروري أن تضاف إلى أماكنها وتكمل عناصر البحث.
ثانيًا - تصحيح بعض الأغلاط التي وقعت لنا في كتابة بعض التراجم، ونسبة بعض الآثار الأدبية والعلمية لغير من هي له، والحكم في بعض المسائل بما ظهر لنا خلافه وما إلى ذلك. ويقوي الداعية إلى هذا التصحيح أننا رأينا الذين كتبوا في موضوع الأدب المغربي يقلدوننا في تلك الأغلاط، سواء الذي صرح منهم باعتبار النبوغ من مراجعه، والذي لم يصرح بذلك، وهو أمر مؤسف يدل على ضعف الهمم، وكلال العزائم، في الذين تصدوا حتى الآن لهذا البحث، على الرغم من تيسير صعابه، وتذليل عقابه. ولذلك كان لزامًا علينا أن نبادر بتصحيح كل غلط من هذا القبيل ولو للمحافظة على هذه الثقة (العمياء) التي وضعها فينا الزملاء الكرام.
1 / 11
ثالثًا - تحرير بعض الفصول من التأثير السياسي، والعاطفي الذي كتبت به، نتيجة لما كان المغرب يمر فيه من ظروف سياسية، وأحوال اجتماعية معاكسة لمطامحه العليا، وآماله الكبرى، في الوحدة والاستقلال، والتطور داخل إطار العروبة والإسلام. . ومن أخطر ذلك السياسة البربرية التي انتهجها الاستعمار الفرنسي للتفرقة بين عناصر المواطنين المغاربة، وتأليب بعضهم على بعض أخذا بمبدأ فرق تسد. . فكان الكتاب كلما سنحت الفرصة، يحمل على هذه السياسة حملة شعواء، ويوجه القارئ المغربي في الاتجاه السليم المجاني لهذه العنصرية المقيتة، والذي هو الحق والصواب، والآن لما شالت زعامة الاستعمار، وفشلت سياسته في هذا الصدد، لم يبق موجب لذلك التوجله، أو على الأقل للهجة الشديدة التي كتب بها ذلك التوجيه.
رابعًا - تحوير في التصميم الذي وضع عليه الكتاب، فنحن لقلة المعلومات التي كانت عندنا عن العصر المرابطي أو لضعف استعدادنا في استخراج هذه المعلومات من تضاعيف الكتب والمراجع العامة، كنا أدمجنا هذا العصر في العصر الموحدي. والآن وقد توفرت لدينا معلومات قيمة عن المرابطين وعهدهم، فصلنا عصرهم عن عصر الموحدين، وخصصناه بدراسات مهمة عن الاتجاه السياسي، والحركة العالمية، والحياة الأدبية، وميزناه بخصائصه التي ينفرد بها عن العصر الموحدي. وبالطبع فقد خلصنا هذا العصر أيضًا من الاشتباكات التي كانت تجمع بينه وبين العصر المرابطي، لما كانا متداخلين؛ وبذلك نكون قد أعدتنا كتابة العصر الموحدي من جديد، كما أننا كنا العصر المرابطي كله ابتداء.
ويضاف إلى هذا التحوير تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، فالجزء الأول للدراسات، والثاني للمنتخبات البشرية، والثالث للمنتخبات الشعرية، وقد كان قبل مقسمها إلى جزئيين فقط يجمع الجزء الثاني بين دفتيه المنتخبات الشعرية والنثرية معًا.
وإلى هذا فقد أضفنا زيادات كثيرة إلى غالب الفصول، وخاصة فيما يتعلق بنهضة الفنون ومشاركة المرأة في مختلف مجالات النشاط الفكري للشعب. وبعض الكلمات في هذا الصدد، وهي جهد مقلّ، تفوق ما كتُب بشأنه في بعض التواريخ العامة الأدب العربي جملة.
1 / 12
ولا حاجة بي إلى القول إن روح البحث المجرد التي سيطرت على الكتاب في طبعته الأولى هي التي تتقمصه في طبعته الثانية، وأن التثبت والتحري وعدم إلقاء الكلام على عواهنه، هي الموازين القسط التي تحكمت في كل جملة من جمله، إن لم أبالغ فأقول في كل كلمة من كلماته. ومع ذلك فما أبرئه من نقص، ولا أحاشيه من خطأ، لعلمي بأن الكمال لله. وأن العصمة لا تكون إلا للنبيّ. والله المسؤول أن يكسوه حلل القبول، وأن يجعله سادًا للفراغ الذي يشعر به الجميع في هذا الباب وولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكّي من يشاء، والله سميع عليم. .
طنجة في ربيع الثاني ١٣٨٠
وأكتوبر ١٩٦٠
عبدالله كنون الحسني
1 / 13
عرض وتحليل
1 / 15
عرض وتحليل
بقلم المرحوم الأمير شكيب أرسلان
كتب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان ﵀ بحثًا مستوفى عن كتاب «النبوغ المغربي» حين صدوره في صورة عرض وتحليل، ونحن نثبت هنا القسمين المنشورين منه بجريدة «الوحدة المغربية» الغراء، الصادرة بمدينة تطوان، في عددها ٢٢٤ و٢٣٤، المؤرخين في ٤ صفر و٢٩ ربيع الثاني ١٣٦١، ونقدمها بين يدي الكتاب تتويجًا له وتحلية:
١
قرأت الجزء الأول من هذا الكتاب الممتع الذي أخرجه للناس فذا في بابه السيد الشريف، والعلامة الغطريف الأستاذ/ عبد الله كنون؛ من مفاخر القطر المغربي في دورنا الحالي، وقد كنت أعهد نفسي من بين المشارقة، الرجل الذي اطلع أكثر من غيره في تاريخ المغرب وأهله، وأنعم النظر فيما يتعلق بثقافته وسياسته وسائر شؤونه؛ ولكني رأيت نفسي بعد أن طالعت هذا الكتاب الصغير حجمه والكبير قدره؛ كأني لم أعلم عن المغرب قليلًا ولا كثيرًا، وكدت أقول: إن من لم يطلع على هذا الكتاب لا يحق له أن يدعي في تاريخ المغرب الأدبي علمًا، ولا أن يصدر على حركاته الفكرية حكمًا. وكما قيل في كتاب «نفح الطيب» للعلامة المقري: أنه كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وكلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب؛ الذي من لم يقرأه فليس بأديب، يمكن أن يقال كذلك: إن من لم يقرأ كتاب «النبوغ المغربي في الأدب العربي» فليس على طائل من تاريخ المغرب العلمي والأدبي والسياسي، بل هذا الكتاب في موضوعه أجدر بالإطلاق الشامل من كتاب «نفح الطيب» في موضوعه؛ وذلك بأن «نفح الطيب» على جلالة قدره قد حشر بين دفتيه غثًا وسمينًا، وعاليًا ونازلًا، وأطال حيث ينبغي الاختصار، وأوجز حيث النفوس تشتاق إلى
1 / 17
الإطالة والإكثار. وأيضًا فقد يكون الأديب أديبًا ولم يقرأ «نفح الطيب»، فأما «النبوغ المغربي في الأدب العربي» فهو خلاصة منخولة، وزبدة ممخوضة، استخلصها صاحبها من مئات الكتب المصنفة، وألوف الأحاديث التي لقفها من أفواه العلماء الذين أخذ عنهم، وقلما رأيت مؤلفًا جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وجاء في ضمن ٢٥٠ صفحة بالعريض الطويل في درجة هذا التأليف الذي هو ثمرة تحقيق وتدقيق، ودرس عميق لم يخرج إلى قراء العربية أحسن منه في بابه.
أشار العلامة مصنف «النبوغ العربي» في مقدمة كتابه إلى جمعه فيه بين العلم والأدب، والتاريخ والسياسة، وإلى تصويره الحياة الفكرية في المغرب، من لدن قدوم الفاتح الأول إلى يوم الناس هذا، ولعمري إن من قرأ هذا الوعد الذي جزم به المؤلف لاعتقد في البدء أنه بالغ فيه جدًا، وحمل نفسه إدًا، وزعم الإحاطة بموضوع تعجز عنه الجملة، ولا تفي به الكتب الجمة، وادعى فتح مغاليق تنوء مفاتيحها بالعصبة، إلا أنه عندما يبدأ القارئ بالمطالعة يجد المؤلف قد وعد فأنجز، وقرب الأقصى بلفظ موجز، وكان فعله محققًا لقوله، وقد مزج في كتابه بين الحركات الفكرية والحركات السياسية مزجًا عجيبًا، حقق فيه الصلة الطبيعية التي لا تكاد تنفك في كل دور من أدوار الأمم بين العلم والسياسة، بحيث لا يرقى الواحد منها إلا رقى الآخر برقيه كاللازم والملزوم. وهو إن لم يكن توخى ذكر الفتوحات والمغازي، ولا حاول استقصاء مآثر السيف في جانب مآثر القلم، فقد ضمن في تضاعيف كلامه على تطور الحركات العقلية في المغرب من لدن الفتح العربي إلى الآن لمحة دالة يفهم منها القارئ تطور السياسة وتعاقب الدول المختلفة التي سادت المغرب من ذلك اليوم إلى الآن، فلا يسير المطالع لهذا الكتاب إلا على ضوء من أول الكتاب إلى آخره، ولا يكاد يشكل عليه فيه مسألة، ولا يستعجم موضوعًا، ولا يفتقر مقام إلى مقال، وهو مع هذا كله من الكتب المختصرة، فكأنما أراد به صاحبه لا مثالًا للتاريخ فحسب، بل مثالًا للبلاغة.
ومن أول ما شغل المؤلف به ذهن القارئ: قضية خفاء الأدب المغربي على المشارقة، وإنكار كثير من هؤلاء لكثير من مزايا إخوانهم المغاربة، وهو غير ملوم في الاحتفال بهذه القضية، وفي كونه نص عليها في أول كتابه؛ لأن للمغاربة حقًا
1 / 18
في المطالبة بمكانهم في الأدب العربي الذي هم من جملة حملة ألويته، بل من نخبة عمار أنديته، ولكن الأمر على حد ما قال الشاعر:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
فالمشارقة الذي يعزو إليهم إخوانهم المغاربة جهل مقامهم في الأدب ليس منهم واحد يلز في جملة العلماء المحققين، وإنما هم من صغار المتأدبة الذي علموا شيئًا وغابت عنهم أشياء. ولم تكن قبل اليوم علاقات العالم بعضها ببعض كما في هذا العصر؛ الذي جعلت فيه الاختراعات العلمية ومظاهر أسرار الكهربائية؛ القاصي قريبًا، والمجهول معلومًا، والبلدان النائية بلدًا يكاد يكون واحدًا، والأسفار المشتطة سفرًا قاصدًا. وقد كان المغرب من قبل في زاوية من الأرض ليس ورائها إلى الغرب سوى بحر الظلمات. نعم. لم يزل المغرب كما كان من الجهة الجغرافية، ولكنه أصبح اليوم قريبا بالباخرة والطائرة، والسلكي واللاسلكي، والهاتف والراديو؛ فصار الشرقي يعرف عن المغرب وأهله في اليوم الواحد ما لم يكن يعرفه في السنة بطولها. فالآن إذا جهل الشرقي أحوال المغرب وعميت عليه مآثره يكون جديرًا باللوم، وحقيقًا بالرثاء لقصور معارفه، فأما عما مضى فلا يتوجه اللوم وأسباب الاتصال قليلة، ووسائل التعارف محدودة.
ولا تنس الانحطاط الذي طرأ على العالم الإسلامي شرقيه وغربيه؛ فإنه في مقدمة أسباب جهل بعض أجزائه بأحوال البعض الآخر، ولا تنس أيضا تكالب الاستعمار الأوروبي وكون أهم شروطه الفصل والقطع والضرب بالأسداد بين البلاد المستعمرة وأخواتها، والأمم المستضعفة ومن تمت إليهم بصلة دين أو نسب أو لغة؛ فهذا كله جعل أمور المغرب مجهولة عند غير المحققين من أهل الشرق. ولو كان الاستقلال السياسي موفورًا للعالم الإسلامي لما وقع من التجاهل والتناكر هذا الذي وقع أخيرا، وجعل الأخ لا يعرف شيئا عن أحوال أخيه، فقد عهدنا عندما كان الإسلام إسلاما، وكانت الرجال رجالا أن الحركات الفكرية إذا شاعت في المشرق شاعت في المغرب، وإذا نبغ شاعر أو كاتب في أحدهما تناقل الناس أقواله للآخر، وإذا كتب الإمام الغزالي كتابًا في أقصى الشرق تدارسه الفقهاء في أقصى الغرب، وعمل به الموحدون والغزالي بعد في الحياة، وألف سعد الدين التفتازاني كتابًا في خراسان أو ما يليها تكلم عليه ابن خلدون في فاس أو تونس في عرض كلامه على ملكة المشارقة في العلوم العقلية، والتفتازاني لا يزال حيًا. وإذا ألف ابن هشام كتابًا في النحو وهو
1 / 19
في مصر، ولم تكن المطبعة قد عرفت يومئذ، لم تمض أشهر حتى امتلأت أسواق الوراقين في مدن المغرب بنسخ هذا الكتاب، وابن هشام يومئذ حي، وجعله مثل ابن خلدون موضوعا في مقدمته لذكر ملكة المتأخرين في علوم العربية، وهلم جرا. فالرقي الفكري متصل بالاستقلال السياسي اتصال النتيجة بالمقدمة، ولقد فقدت في الأدوار الأخيرة من العالم الإسلامي أسباب الاتصال بما طرأ من التفكك، ومصير بلاد الإسلام طرائق قددا، تليها دول مختلفة أكثرها خارج عن الإسلام، بل أكثرها عدو للإسلام كاشح يعمل لمحوه من الدنيا، ومن المعلوم أنه لا يعمل للإسلام غير دول الإسلام نفسها. فلا عجب بعد هذا أن يجهل بعضنا مكان بعض وأثر بعض، بل العجب أن تعلم اليد اليمنى باليد اليسرى ونحن على ما نحن عليه من تفكك الأجزاء وتقطع الأوصال، والسياسة كما قلنا هي والأدب شريكا عنان، وفرسا رهان.
وقد أصاب الأستاذ صاحب «النبوغ المغربي» في عدم إطلاقه القول على المشارقة أنهم جاهلون بأقدار المغرب، فإنه قيد ذلك بقوله «إنكار كثير من المشارقة لكثير من مزايا المغاربة»، وفي هذا القيد قد أخرج محرر هذه السطور من هذه الجملة الخاسرة؛ فإني على ما بي من قصور وتقصير، وعيوب تضيق فيها المعاذير، أقدر أن أدعي بحق سبق غيري من جميع أنحاء العالم العربي إلى معرفة مزايا المغرب وأهله، وإيجاب عدم التفرقة بحال من الأحوال بين مغرب ومشرق، أقول هذا من باب التحدث بنعمة الله.
٢
عالج السيد عبد الله كنون في صدر كتابه هذا حادثين جليلين هما من أهم حوادث الفتح الإسلامي في العالم، وهما: إسلام البربر، هذه الأمة العظيمة التي لولا دخولها في الإسلام لكانت بلاد شمالي أفريقيا أقطارا معادية للإسلام، مناوئة للعروبة، بخلاف ما هي عليه الآن من الاعتصام بهما وتكوينهما جزءا لا ينفك من أجزاء العالم الإسلامي، ولا يقل شأنا فيه عن مصر، والشام، وجزيرة العرب، والأناضول، وفارس، وهلم جرا، بل حصنا منيعا تتكسر على جوانبه هجمات الأمم التي لا تطيق وجود الإسلام في الأرض. وكذلك حادث استعراب البربر الذين أصبحوا بتأثير الدين
1 / 20
الحنيف واللسان العربي الشريف كتلة واحدة هم والعرب، يعادون من عاداهم، ويوالون من والاهم، ويكونون دائما يدا واحدة على من سواهم، وإن وجدت بين الأحايين بين الفريقين منازعات ومشاجرات فلا تكون إلا من قبيل تنازع قبائل العرب أنفسهم بعضها مع بعض، أو من باب المنازعات العائلية التي لا تمنع أصحابها من الاتحاد على الأجنبي وتناسي جميع الأحقاد بإزاء الخطر العام، وهذا على حد المثل العامي القائل. . . (أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عم على الغريب).
ولله در القائل:
وذوي ضباب مضمرين عداوة ... قرحى القلوب معاودي الأكناد
ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهمو إذا ذكر الصديق أعادي
كيما أعدهمو لأبعد منهمو ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
بل البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض، ولئن كان التاريخ قد روى بين العرب والبربر مخاصمات شعبية عامة كما جرى في الأندلس مثلا بعد فتحها بقليل وأوجب نكوصا كانت عواقبه السيئة فيما بعد، فقد ندر وقوع هذه الحوادث ذات الشكل العام بين الأمتين، وغلب عليهما الشعور بالوحدة الإسلامية حتى صارتا مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢].
ولا ننسى ما قام به البربر في التاريخ الإسلامي من جلائل الأعمال في الذب عن حوض هذه الملة، سواء على أيدي المرابطين أو الموحدين، أو بني مرين أو غيرهم، مما يجعلهم في مقدمة صفوف المجاهدين الذين تتباهى بمآثرهم أمة محمد ﷺ، وعلى كل حال، يمكننا أن نقول بحسن اهتداء البربر وتآخيهم مع إخوانهم العرب حملة القرآن الأولين امتدت جزيرة العرب من شرقي البحر الأحمر الضيق إلى شرقي الأوقيانس الأطلنطيقي الواسع، فصارت هذه الأقطار كلها سلسلة عربية إسلامية غير منفصلة ولا متعصبة. وهذا قد وفاه حقه الأستاذ كنون، وأوضح أسباب انتشار الإسلام من أول الفتح بين الأمة البربرية، وذكر من
1 / 21
هذه الأسباب التي أوجبت إقبال البربر على هذا الدين زرافات ووحدانا، ونبذهم ما عداه، ما لا يقدر العدو الألد والخصم الأعند أن يكابر فيه أو يتعامه عنه، وذكر الخلفاء الذين في أيامهم ازداد انتشار الإسلام بين البربر مثل: عمر بن عبد العزيز ﵁، الذي أرسل إليهم طائفة من الفقهاء يعلمونهم القرآن وأصول الدين. ولا عجب وهو الخليفة العادل الورع المقرون اسمه باسم عمر بن الخطاب رضي الله عن الاثنين، حتى قيل في عدلهما: عدل العمرين، وسارت الأمثال في ورع الثاني كما سارت في ورع الأول، وروى المؤرخون أنه لما كثر إسلام القبط في مصر وارتفعت الجزية عمن أسلم منهم، شكا عامل مصر إلى عمر بن عبد العزيز نقصان الجباية عما كانت عليه؛ وذلك بسبب فشو الإسلام في القبط، فأجابه بتلك الكلمة الشهيرة: . . . ويحك إن محمدا لم يجئ جابيا، وإنما جاء هاديا. إذا كان جديرا بهذا الخليفة الورع أن يهتم بالاستقصاء في إسلام البربر، والإمعان في تأدبهم بآداب القرآن حتى غرس فيهم هذه النجابة المعروفة، وأوقد في قلوبهم هذه الحمية الإسلامية التي لم تفارقهم منذ ذلك اليوم. وذكر مآثر موسى بن نصير ﵀ في هذا الباب حتى لم يمض إلا قليل فظهر الطابع العربي على البربر، ونبغ فيهم العلماء والخطباء بالعربية الفصحى، وحسبك شاهدا طارق بن زياد الذي خطب قبل الموقعة التي هز فيها لذريق ملك الأندلس، تلك الخطبة الطنانة التي لو حاول مثلها قس بن ساعدة، أو سحبان وائل، لم يأت بأفصح ولا أبلغ منها. ولقد كنت أفكر مليا في أمر هذه الخطبة وأقول في نفسي: . . . هنا لغز من ألغاز التاريخ لا ينحل معناه بالسهول، فقد اتفقت الروايات على كون طارق بن زياد بربريا قحا، وكذلك اتفقت الروايات أيضا على كونه هو لا غيره صاحب الخطبة الرنانة المعدودة من أنموذجات الخطب العربية، فكيف يمكن التلفيق بين هذين الأمرين المتناقضين، وأنى لطارق البربري مثل هذه العربية، وكنت أفكر في أن طارقا قد يكون أحسن تعلم العربية كما أحسن ذلك كثير من أبناء جيله، وكما تعلمت العربية رجال فارس حتى بزوا في العربية أقرانهم من أنفس العرب، ولكني لم أكن مستريح البال من جهة إتقان طارق للعربي الفصيح وبلوغه فيه هذه الدرجة العليا، وكان يحز في صدري أن تلك الخطبة كانت بلاغتها في المعنى، وإنما وضعها رواة العرب في هذا القالب الفصيح الذي سحر الألباب، وما زلت
1 / 22
مترددًا في هذا حتى جاءني ثلج اليقين على يد الأستاذ عبد الله كنون الذي جزم بأن هذه الخطبة النادرة إنما كانت من جملة ثمرات انطباع البربر بالطابع العربي البحت (١).
ثم أشار الأستاذ إلى مثار الخلاف لأول الفتح بين العرب والبربر، فلم تأخذه العصبية للعرب الذين هو منهم، بل من أشرف بيوتاتهم، سبيل المؤرخ الصادق لا يحابي في الحق، بل سبيل المسلم العامل بمقتضى شريعته، الحافظ قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] الراوي حديث رسوله ﷺ وهو: «ليس منا من دعا إلى عصبية» فذكر أن مثار النزاع بين الأمتين كان استبداد العرب بوجوه المنافع، واستئثارهم بمناصب الدولة من أيام الإمام إدريس ﵁، فكان هذا الأمر سببا للتنافس بين الفريقين في المغرب، وأنا أقول أن هذا الأمر نفسه قد كان سببا لتنافسهما في الأندلس منذ أوائل الفتح، حتى إن فريقا من البربر بلغ منهم السخط أن تركوا الجهاد في الطرف الشمالي من بلاد الجلالقة حيث كان منهم العدد الأغلب من المجاهدين، فأصبحت تلك الثغور عورة، ورجع الإسبان فاستولوا عليها، وكان بذلك مبدأ المقاومة الإسبانية ونمو شوكتها، ولم تزل مع الزمن تنمو
_________
(١) يستشكل بعض الباحثين صدور خطبة طارق بن زياد منه وهو بربري قُح، يُستبعد أن تكون له هذه العارضة القوية في اللغة العربية حتى يأتي بتلك الخطبة البليغة، وهو استشكالٌ في غير محله:
(أولًا): لأن طارق بن زياد إن كان أصله بربريا فقد نشأ في حجر العروبة والإسلام بالمشرق، ولم هو الذي أسلم أولًا بل والده، بدليل اسمه زياد فإنه ليس من أسماء البربر، ولا شك أنه كان من مسلمة الفتح المغربي الأول، وأنه انتقل إلى المشرق حيث تولاه موسى بن نصير ونشأ ولده في هذا الوسط العربي الذي كونه وثقفه.
(ثانيًا): لأن نبوغ غير العرب في اللغة العربية منذ اعتناقهم الإسلام أمرٌ غير بدع حتى يستغرب من طارق، وهو قد نشأ في بيت إسلامي عربي، فعندنا سلمان الفارسي الذي قضى شطر حياته في بلاد عجمية فلما أسلم بعد ذلك تفتق لسانه بالعربية إلى أن قال فيها الشعر، وبيته المضروب به المثل في الاعتزاز بالإسلام واعتباره هو نسبه الذي يفخر به، إذ افتخروا بقيس أو بتميم، لا يخفى على أحد.
ونمثل ببربري آخر، غير طارق وهو: عكرمة مولى ابن عباس الذي قال فيه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة؛ ومقامه في العلم والرواية لا يُجهل.
(ثالثًا): لأنه ليس في الخطبة من صناعة البيان ما يمتنع نسبتها لطارق، وبلاغتها في نظرنا إنما ترتكز أولًا وبالذات على معانيها، والمعاني ليست وقفا على عربي ولا عُجمي. نعم يُمكن أن يكون وقع في هذه الخطبة بعض تصرف من الرواة بزيادة أو نقص، ونحن قد صححنا فيها بالفعل إحدى العبارات التي لم تكن واضحة الدلالة على معناها، ولكن هذا لا ينفي أصل الخطبة، ولا يصح أن يكون حجة للتشكك في نصها الكامل. هذا رأينا ولكل وجهة، والأمير شكيب ﵀ لشدة المودة التي كان يخصنا بها جعلنا حجة في صحة نسبة الخطبة لطارق ولسنا هنا.
1 / 23
وتزداد حتى آلت إلى ما آلت إليه، مما لا حاجة إلى ذكره، ولو كان قومنا العرب عملوا يومئذ بقاعدة المساواة الإسلامية ولم يحابوا أنفسهم على إخوانهم الجدد، ولم يجعلوا في الإسلام عاليا ونازلا لما وقع ذلك الخرق الذي انتهى في الأندلس بذهاب الملك ووقوع الهلك، ونجمت عنه في أفريقيا نفسها أضرار جسيمة لا شك فيها.
وقد ذكر صاحب النبوغ المغربي هذه الحقائق في عرض كلامه على تاريخ الحركة الفكرية في ذلك القطر العظيم، وذلك لما تقدم لنا من اتصال الحركة الفكرية بالحركة السياسية والحركة الاجتماعية إلى الحد الذي لا يمكن معه ذكر إحداهما من دون ذكر الأخرى، ونبه الأفكار إلى نكتة هي من الأهمية بمكان، وهي السؤال: لماذا لم يكن في المغرب الاندماج تاما كما وقع في الشام والعراق والأندلس حيث قد ألقت العروبة بجرانها وعمت السهل والوعر، ولم يبق ثمة إلا أقطار عربية لا تفترق عن جزيرة العرب في شيء؟ فأورد على الفرق الواقع أسبابا معقولة سنخوض فيها بفصل تال.
1 / 24
أول تقريظ
1 / 25