6- من كتابه في النساء

صفحة ١٣٧

فصل من صدر كتابه في النساء

| فصل من صدر كتابه في النساء

إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمدا على فراشه. وأول ذلك إدخال الضيم على مروءته، واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته.

ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة، وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة، وحب الرعية للأئمة، وحب المصطنع لصاحب الصنيعة، مع اختلاف مواقع ذلك من النفوس، ومع تفاوت طبقاته في العواقب، احتجنا إلى الاعتذار من ذكر العشق المعروف بالصبابة، والمخالفة على قوة العزيمة، لنجعل ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب، وسخف الرأي الذي دعا إلى تأليفه، والإشادة بذكره. إذا كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ، ومن قائل متكلف، ومن سامع طاعن، ومن منافس مقصر. كما أنها لا تنفك من ذي سلامة متسلم، ومن عالم متعلم، ومن عظيم الخطر حسن المحضر، شديد المحاماة على حقوق الأدباء، قليل التسرع إلى أعراض العلماء.

صفحة ١٣٩

وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب. وليس كل حب يسمى عشقا، وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار، كما أن السرف اسم لما زاد على المقدار الذي يسمى جودا، والبخل اسم لما نقص عن المقدار الذي يسمى اقتصادا، والجبن اسم لما قصر عن المقدار الذي يسمى شجاعة.

وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء، مستعمل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن الزبير: " والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء ".

وذكر بعض الناس رجلا كان مدقعا محروما، ومنحوس الحظ ممنوعا، فقال: " ما رأيت أحدا عشق الرزق عشقه، ولا أبغضه الرزق بغضه! "

فذكر الأول عشق الشرف، وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات.

وقد يستعمل الناس الكناية، وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة، يريدون أن يظهر المعنى بألين اللفظ، إما تنويها وإما تفضيلا، كما سموا المعزول عن ولايته مصروفا، والمنهزم عن عدوه منحازا . نعم، حتى سمى بعضهم البخيل مقتصدا ومصلحا، وسمي عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصيا.

صفحة ١٤٠

ولما رأينا الحب من أكبر أسباب جماع الخير، ورأينا البغض من أكبر أسباب الشر، أحببنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير، ليفرق بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما، والموجبة لكونهما.

فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها، ظفر المحب بحبيبه، والعاشق بطلبته، ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه، في وزن سعادة الطالب المنجح وسروره، ووجدنا العشق كلما كان أرسخ، وصاحبه به أكلف، فإن موقع لذة الظفر منه أرسخ، وسروره بذلك أبهج.

فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بعدوه المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته.

قلنا: إنا قد رأينا الكرام والحلماء، وأهل السؤدد والعظماء، ربما جادوا بفضلهم من لذة شفاء الغيظ، ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس، وبعد الهمة والقدر. ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق، وبالثمين من العروض. وربما خرج من جميع ماله، وآثر طيب الذكر على الغني واليسر. ولم نر نفس العاشق تسخو بمعشوقه، ويجود بشقيقة نفسه لوالد ولا لولد بار، ولا لذي نعمة سابغة يخاف سلبها، وصرف إحسانه عنه بسببها.

صفحة ١٤١

ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال به، في جنب ما يهبون للنساء. حتى كأن العطر والصبغ، والخضاب والكحل، والنتف والقص، والتحذيف والحلق، وتجويد الثياب وتنظيفها، والقيام عليها وتعهدها، مما لم يتكلفوه إلا لهن، ولم يتقدموا فيه إلا من أجلهن، وحتى كأن الحيطان الرفيعة، والأبواب الوثيقة، والستور الكثيفة، والخصيان والظؤورة، والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن، والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن.

فصل منه

| فصل منه

وباب آخر: وهو أنا لم نجد أحدا من الناس عشق والديه ولا ولده، ولا من عشق مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام. قال الله تعالى: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ". فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خولهم من كرامته، ومن عليهم من نعمته، ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء. ولقد قدم ذكرهن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم.

صفحة ١٤٢