بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القديم الأزلي الدائم الأبدي الفرد الصمد الواحد ، الحليم الكريم العظيم الجواد الماجد (1)، المتقدس بوجوب وجوده عن الشريك والضد والمعاند ، المتنزه بكماله الذاتي عن الصاحبة والوالد والوالد ، المتوحد بتفرده في الصنع والإبداع عن المعين والظهير والمعاضد ، العالم بمستودعات السرائر ومكنونات الضمائر وما اشتملت عليه العقائد ، المتعالي بتجرده عن نيل الأوهام وإدراك الحواس ، المدرك لجميع الموجودات من الأشخاص والأصناف والأنواع والأجناس ، فهو الغائب الشاهد المختص بالملكوت والعظمة والجبروت ، فكل شيء له خاضع ساجد ، يسبح له ما في السماوات وما في الأرض من رطب وجامد ، أحمده على افضاله المتضاعف وكرمه المترادف المتزايد ، وأشكره على سوابغ قسمه وتواتر نعمه الأوابد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مساعد ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشرك والجاحد ، شهادة أستدفع بها الأهوال والشدائد ، وأدخر
صفحة ٣
بها الزاد يوم المعاد وأسترفد (1) بها من الله تعالى أعظم الذخائر والفوائد.
وصلى الله على سيد الأنبياء وخير الأصفياء محمد بن عبد الله ، القامع شرعه لكل شيطان مارد ، والموضح دينه لأنواع الحكم وأصناف المقاصد ، وعلى آله المطهرين عن الأدناس ، المقدسين عن الخطايا والأرجاس ، الغرر الأماجد ، صلاة يدحض بها كيد كل كائد ويقمع عناد كل معاند ، وسلم تسليما.
أما بعد : فإن الله تعالى شرف العلماء وعظم الفضلاء لاختصاصهم بمزيد الإفضال وتميزهم بأسباب الكمال ، وهو حصول العلم فيهم المقتضي لارتفاعهم عن مشابهة الجمادات وامتيازهم عن العجماوات ، وجعل مساواتهم لغيرهم محل العجب العجاب فقال عز من قائل: ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ) (2). وقد تطابقت الأخبار النبوية والقضايا العقلية البديهية على ارتفاع قدر العلماء إلى ذروة العلى ، وإنهباط منازل الجهال إلى أسفل درك الشقاء. هذا مع (3) ما أعد الله تعالى لذوي البصائر والألباب وأولي النهى والصواب من مزيد الانعام وكثرة الثواب.
ثم (4) إن العلوم متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات ، ومتفاضلة بحسب تفاضل المتعلقات ، وبعضها سبب النجاة ، فيجب على طلاب العلم صرف الهمم إلى البدأة بالأهم منها فالأهم.
ولا شك أن أهم المعارف وأولاها وأجلها وأسناها ، ما يكون سببا للخلاص
صفحة ٤
من المهلكات وموجبا لارتفاع الدرجات ، وقد ظهر لأهل الحل والعقد ، وأرباب السبك (1) والنقد ، أن أشرف الموجودات وأكمل المعلومات ، هو ذات واجب الوجود ، المفتقر إليه كل موجود ، فالعلم به تعالى وتقدس أجل من كل علم وأنفس. هذا مع اتفاق الرسل والأنبياء ، وإطباق العقلاء وإجماع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى على الأعيان ، والحتم (2) بها في كل حين وزمان ، ولم يسوغ أحد من المشرعين ، ولا جوز أحد من العارفين سلوك طريق التقليد لأحد من العلماء ، ولا ارتكاب عقائد الأجداد والآباء ، إلا بعد الجد والاجتهاد والاستقصاء في تحصيل الاعتقاد ، بل حرموا ذلك على الإطلاق ومنعه الشارع بالاتفاق.
وأوجبوا على كل مكلف بذل الوسع في تحصيل المعارف ، ليحصل الأمن من المخاوف ، وذلك إنما هو بعلم الكلام ، فوجب معرفته على الخاص والعام. وقد صنفنا فيه كتبا متعددة ومسائل مسددة.
وقد أجمع رأينا في هذا الكتاب الموسوم ب «نهاية المرام في علم الكلام» على جمع تلك الفوائد التي استنبطناها والنكت التي استخرجناها ، مع زيادات نستخرجها في هذا الكتاب لطيفة ، ومعان حسنة شريفة لم يسبقنا إليها المتقدمون ولا سطرها المصنفون.
ثم نذكر على الاستقصاء ما بلغنا من كلام القدماء ، ونحكم بالإنصاف بين
صفحة ٥
المتكلمين والحكماء ، وجمعت فيه بين (1) القوانين الكلامية والقواعد الحكمية المشتملة (2) عليهما المباحث والنهاية (3). فكان في هذا الفن قد بلغ الغاية (4)، لأجل أعز الناس علي وأحبهم إلي وهو الولد العزيز محمد ، رزقه الله تعالى الوصول إلى أقصى نهايات الكمال ، والارتقاء إلى أعلى ذرى (5) الجلال ، وأيده بالعنايات الأزلية ، وأمده بالسعادات الأبدية ، وأحياه الله تعالى في عيش رغيد (6) وعمر مديد ، بمحمد وآله الطاهرين.
وقد رتبت هذا الكتاب على مقدمة وقواعد مستعينا (7) بالله لا غير ، فإنه الموفق لكل خير ودافع كل ضير.
وتشتمل المقدمة على فصول (8):
** الأول : في بيان شرف هذا العلم
ويدل عليه وجوه :
أأن البديهة حاكمة بشرف العلم وعلو شأنه. لا شك أن شرف العلم تابع لشرف المعلوم ، ولما كان الغرض الأقصى من هذا الفن معرفة الله تعالى وصفاته وكيفية أفعاله وتأثيراته ، والبحث عن رسله وأوصيائهم ، وأحوال النفس والمعاد ، وهذه أشرف المطالب خصوصا وواجب الوجود تعالى أشرف الموجودات ،
صفحة ٦
فالعلم به أشرف العلوم.
ب أن مقدمات العلوم قد تكون قطعية ، وقد تكون ظنية ، ويحصل بالأول اليقين ، وبالثاني الظن ، والأول أشرف.
ومقدمات هذا الفن قطعية يقينية (1)، إما (2) بديهية أو كسبية راجعة إليها ، فتكون براهينه أوثق من غيره ، فيكون أشرف.
ج الإنسان خلق لا كغيره من الحيوانات ، بل جعل محلا لخطاب الله تعالى وتكليفه ، لينال السعادة الأخروية ، وهي أجل (3) المطالب وأتم المقاصد ، ولا شك أن نيل هذه السعادة إنما يحصل بالإيمان بالله تعالى ورسله واليوم الآخر ، وذلك كله إنما يحصل بمعرفة هذا الفن ، فيكون أشرف.
د السعادة الدنيوية لا يمكن تحصيلها ، إلا بالحكمة العملية المعلوم فيها معرفة أحوال نظام العالم ، والعلوم السياسية والمدنية (4)، والأخلاق المحمودة والمذمومة ، لتكمل النفس باستعمال تلك ، والتنزه عن هذه (5)، وذلك إنما يحصل بالرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ، وإنما يستفادان من هذا العلم.
ه العلم إما ديني أو دنيوي ، والثاني غير معتد به عند العقلاء ، لأنه يجري مجرى الحرف والصناعات ، فالمعول عليه هو الأول لا غير ، والعلوم الدينية كلها متوقفة على صحة هذا العلم ، لأنه المتكفل لإثبات الصانع تعالى ، وإثبات قدرته وعلمه ، ليصح تكليفه ، ويتيسر (6) للفقيه والمحدث والمفسر للكتاب
صفحة ٧
العزيز وغيرهم من العلماء الخوض في علومهم. وإذا ثبت استغناؤه عن غيره واحتياج غيره إليه كان أشرف.
وأن للضد مدخلا في حسن الضد الآخر وقبحه ، فإذا كان الخطأ في هذا العلم كفرا وبدعة ، وهما من أقبح الأشياء وأخسها (1)، وجب أن يكون هذا العلم الذي يحصل به إصابة الحق ، من أشرف الأشياء وأحسنها.
ز موضوعات سائر العلوم على ما سيظهر ، راجعة إلى هذا العلم ، وموضوعه بديهي الثبوت ، فجميع العلوم محتاجة إليه ، ومبادئها مستندة إليه ، فيكون أشرف (2).
** الفصل الثاني : في علة تسميته بالكلام (3)
كل علم من العلوم لا ينفك عن البحث والمناظرة والكلام ، لكن خصص هذا العلم باسم الكلام لوجوه :
أالعادة قاضية بتسمية البحث في دلائل وجود الصانع تعالى وصفاته وأفعاله ، الكلام في الله تعالى وصفاته ، فسمي هذا العلم بذلك. ولا استبعاد في تخصيص بعض الأسماء ببعض المسميات دون بعض.
ب أنكر جماعة البحث في العلوم العقلية والبراهين القطعية ، فإذا سئلوا عن مسألة تتعلق بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوة والمعاد ، قالوا : نهينا عن الكلام في هذا العلم ، فاشتهر هذا العلم بهذا الاسم.
صفحة ٨
ج هذا العلم أسبق من غيره في المرتبة ، فالكلام فيه أسبق من الكلام في غيره ، فكان أحق بهذا الاسم.
د هذا العلم أدق من غيره من العلوم ، والقوة المميزة للإنسان وهي النطق (1) إنما تظهر بالوقوف على أسرار هذا العلم ، فكان المتكلم فيه أكمل الأشخاص البشرية ، فسمي هذا بالكلام ؛ لظهور قوة التعقل فيه.
ه هذا العلم يوقف منه على مبادئ سائر العلوم ، فالباحث عنه كالمتكلم في غيره ، فكان اسمه بعلم الكلام أولى.
وأن العارفين بالله تعالى يتميزون عن غيرهم من بني نوعهم ، لما شاهدوه من ملكوت الله تعالى ، وأحاطوا بما عرفوه من صفاته ، فطالت ألسنتهم (2) على غيرهم فكان علمهم أولى باسم الكلام.
** الفصل الثالث : في موضوعه (3)
اعلم أن لكل علم على الإطلاق أمورا ثلاثة : موضوعا ومبادئ ومسائل.
** ونعني بالموضوع :
أو لما تساوى ذاته من لوازمه ، وهذه أجمع تسمى
ومن أراد التفصيل في هذه الثلاثة فليراجع الفصل السادس من المقالة الثانية من الفن الخامس من منطق الشفاء ؛ التحصيل : 197 203 ؛ الجوهر النضيد : 212 215 ؛ كشف الظنون 1 : 6 8 ؛ كشاف اصطلاحات الفنون 1 : 22 24.
صفحة ٩
بالأعراض الذاتية ، وأما ما يلحقه لأمر أعم من ذاته عارض لها أو لأمر أخص فهما عرضان غريبان.
وباعتبار هذا الموضوع تتمايز العلوم وتختلف ، مثلا : أجرام العالم من حيث الشكل موضوعة للهيئة ، ومن حيث الطبيعة موضوعة للسماء والعالم من الطبيعي (1). فلولا اعتبار هاتين الحيثيتين لامتزج العلمان واختلط أحدهما بالآخر. (2)
والموضوع قد يكون واحدا على الإطلاق ، وقد يكون متكثرا (3)، لكن بشرط تناسب تلك الأشياء المتكثرة ، إما بأن تتشارك في ذاتي كالخط والسطح والجسم ، إذا جعلت موضوعات الهندسة ، فإنها تشترك في الكم المتصل القار الذات ، وهو جنس لها ، أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه وأحواله ، والأدوية والأغذية وما شاكلها ، إذا جعلت جميعا موضوعات علم الطب ، فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية في ذلك العلم.
وإنما سمي الموضوع موضوعا للعلم ؛ لأجل أن موضوعات مسائل ذلك العلم ترجع إليه ، بأن تكون نفسه أو جزئيا تحته (4) أو جزءا منه أو عرضا ذاتيا له.
** أما المبادئ :
** فالتصورات :
جزئي تحته أو عرض ذاتي له. وهذه الأشياء قد يجب تقديم
صفحة ١٠
التصديق بها على العلم ، وهي الموضوع وما يتركب منه ، وقد يكون في ذلك العلم ، وهي الأعراض الذاتية ، وحدود الأول بحسب الماهيات والثاني بحسب الأسماء.
** وأما التصديقات :
وتسمى القضايا المتعارفة ، وهي مبادئ على الإطلاق. ومنها غير بين يجب تسليمها ليبنى عليها ، ومن شأنها أن تبين في علم آخر ، وهي مبادئ بالقياس إلى العلم المبني عليها ومسائل بالقياس إلى الآخر.
ثم تسليم هذه إن كان مع مسامحة وحسن ظن بالمعلم (1)، فهي أصول موضوعة ، وإن كان مع استنكاف سميت مصادرات. (2)
** وأما المسائل :
موضوعاتها.
** وإذ قد تمهدت هذه القاعدة ، فنقول :
قديم ومحدث ، ثم يقسم المحدث إلى جوهر وعرض ، ثم يقسم العرض إلى مشروط بالحياة وغير مشروط. ويقسم الجوهر إلى حيوان ونبات وجماد.
ويبين وجه الخلاف بينها ، هل هو بذاتي أو عرضي؟ ثم ينظر في القديم ، فيبين عدم تكثره بوجه من الوجوه ، وأنه متميز عن الحوادث بما يجب له من الصفات ويمتنع عليه ، ويفرق بين الواجب والجائز والممتنع ، ثم يبين أن أصل الفعل جائز (4) عليه ، وأن العالم فعله ، وإرسال الأنبياء من جملة آثاره ، وأنهم
صفحة ١١
صادقون باعتبار فعل المعجزة منهم ، ثم يستعين العقل بقول النبي صلى الله عليه وآلهوسلم الذي استدل على صدقه فيما يقوله في الله تعالى واليوم الآخر مما يعجز عن إدراكه العقل ولا يحكم بامتناعه. ولا شك في أن هذه الأشياء عارضة للوجود من حيث هو ، فيكون موضوعه هو الوجود المطلق.
** الفصل الرابع : في غايته
إن الإنسان خلق لا كغيره من أنواع الحيوانات ، بل هو مدني بالطبع يفتقر في معاشه إلى غذاء ولباس ومسكن وصلاح أحواله ومن يعوله من نسله وغيرهم ، وهذه أمور صناعية لا يمكن صدورها عن صانع واحد ، وإنما تحصل باجتماع خلق يتعاونون عليه ، ويتشاركون في تحصيله ، ليفرغ كل واحد منهم لصاحبه عن بعض مهمه (1) منهم ، فيتم بمعارضته ومعاوضته. ثم إن الاجتماع على التعاون إنما يتم إذا كان بين بني النوع معاملة وعدل ؛ إذ كل منهم يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على مزاحمته فيه ، وبحسب هاتين يحصل الجور فيقع الهرج والمرج ، ويختل أمر النظام ، ولا بد من عدل متفق عليه ، ولما كانت الجزئيات غير منحصرة وجب وضع قوانين شرعية لكيفية العدل ، وتلك القوانين لو وضعها الناس لحصل الاختلاف ، فيقع الهرج المحذور منه ، فإذن يجب امتياز الشارع بينهم باستحقاق الطاعة ليطيعه الباقون ، وإنما يتميز بمعجزات تصدر عنه دون غيره ، ولما كانت الحكمة إنما تتم بالتكليف ، إذ ضعفاء العقول يستجيزون (2) اختلال العدل الناظم لمعاشهم ، وجب في عنايته تعالى إرسال الأنبياء بشرائع تقتضي نظام الوجود ، ومجازاة الممتثل لها بالإحسان ، ومقابلة المخالف بالعذاب الأخروي ، ووجب معرفة
صفحة ١٢
المجازي واقتران تلك المعرفة بالتكرار الموجب للتذكار ، وهو إنما تتم بعبادات مذكرة متكررة في أوقات متتالية.
وعلم الكلام هو المتكفل بمعرفة المجازي ، وكيفية آثاره وأفعاله وتكاليفه على الإجمال. وذلك هو سبب السعادة الأبدية والخلاص عن الشقاء الأبدي ، ولا غاية أهم من هذه الغاية.
** الفصل الخامس : في مرتبته ونسبته إلى سائر العلوم
إنه لما ظهر أن موضوع هذا العلم هو الوجود المطلق ، وكان الوجود أعم من كل موضوع ، وجب أن يكون هذا العلم أسبق العلوم وأقدمها.
وأيضا فإن مبادئ سائر العلوم إنما تتبين فيه ، ومعرفة ذي المبدأ متوقفة على معرفة المبدأ. فلهذا العلم تقدم بهذا الاعتبار أيضا على غيره من سائر العلوم.
ولأن سبب النجاة إنما هو معرفة هذا العلم وهذه الغاية أكمل من كل غاية ، فلهذا العلم تقدم على غيره بحسب غايته.
ولأن معلومه أشرف من كل معلوم وجب تقدمه على جميع العلوم.
ولأن السمعية متوقفة عليه ، والعقلية إما كلية أو جزئية ، والكلي منها هو هذا العلم وباقي العقليات جزئية ، والجزئي ينتهي إلى الكلي فجميع العلوم متأخرة عن هذا العلم.
** الفصل السادس : في وجوب معرفته (1)
إنه سيظهر لك فيما بعد إن شاء الله تعالى ، أن معرفة الله تعالى واجبة ، وكذا
صفحة ١٣
معرفة صفاته وما يجب له ويستحيل عليه ، ولا تتم هذه المعرفة إلا بهذا العلم ، لأنه المتكفل بذلك ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب على ما يأتي.
وأيضا قوله تعالى : ( قل انظروا ) (1) وقوله : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) (2) وقوله: ( أولم يتفكروا في أنفسهم ) (3) إلى غير ذلك من الآيات الدالة عليه.
وكذا ما ورد من الآيات الدالة على النهي عن التقليد وذمه. ولا خلاف بين العقلاء في ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول : الواجب على قسمين : إما على الأعيان أو على الكفاية. ووجوب هذا العلم على الأعيان ، للنهي عن التقليد في العقائد.
واعلم أن القدر الواجب على الأعيان من هذا العلم ، هو معرفة الله تعالى بالدليل ، ومعرفة ما يجب معرفته من صفاته الثبوتية والسلبية ، ومعرفة آثاره التي تتوقف عليها بعثة الرسل ومعرفة الرسل وصدق الأنبياء ، ومعرفة المعاد ، والإمام. ولا يجب تتبع الجواب عن الشبهات ، ومقاومة الخصوم على الأعيان ، بل ذلك واجب على الكفاية.
صفحة ١٤
** القاعدة الأولى
في تقسيم المعلومات
وفيه مقاصد :
صفحة ١٥
المقصد الأول
في التقسيم إلى الموجود والمعدوم
اعلم أن كل معلوم إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما (1)، فهنا فصول :
** الفصل الأول :
في مباحث الوجود
** البحث الأول : في أن تصور الوجود بديهي
** وفيه مقامات ثلاثة :
** الأول : في الاستدلال على أنه بديهي
اختلف الناس في ذلك ، فذهب المحققون إليه ، ونازع فيه جماعة ، وزعموا أنه يعرف بحده ، واختلفوا في حده ، فقال قوم : إن الموجود هو الثابت العين.
صفحة ١٧
وقال آخرون : إنه ما صح التأثير به أو فيه. وأراد بقوله فيه الجواهر ، لأن الجواهر يصح التأثير فيها ولا يصح بها لأنها لا توجب حكما في الغير.
وقيل : حد الوجود ما يظهر معه مقتضى صفات النفس ، وهذا على رأي من قال : المعدوم له في حال عدمه صفة ، ولكل جنس صفة نفسية ، ومن قال : إن المعدوم لا صفة له حال عدمه قال : الوجود هو الثبوت.
وقال آخرون : الوجود هو الذي يوجب كون ما وصف به موجودا.
وقيل : إنه الذي ينقسم إلى القديم والحادث.
وقيل : الوجود هو الذي ينقسم إلى فاعل أو مفعول.
وهذه التعريفات كلها رديئة لاستلزام التعريف بها الدور ، أو التعريف بالأخفى ، والحق أنه غني عن التعريف ، إذ كل عاقل لا يشك في أنه موجود (1).
وقد استدل أفضل المتأخرين (2) على أوليته بوجوه (3):
** الوجه الأول :
بالكل ، والعلم السابق على الأولي أولى أن يكون أوليا ، والوجود في الكل واحد ، فالوجود المطلق أولي.
وفيه نظر ، فإن للقائل أن يقول : البديهي ، الحكم بأني موجود ، أما تصور وجودي فممنوع ، ونمنع كمالية تصور كل واحد لوجوده ، فجاز أن يتصوره باعتبار
صفحة ١٨
ما ، وحينئذ لا يجب تصور جزئه ، ونمنع أيضا كون الوجود المطلق جزءا من وجودي ، لابتنائه على اشتراك الوجود في المعنى وقد خالف فيه جماعة.
** الوجه الثاني :
بامتناع الخلو عن الوجود والعدم ، وذلك مسبوق بتصور الوجود ، والسابق على البديهي بديهي.
قيل عليه (1): التصديق البديهي لا يستلزم كون تصوراته بديهية ، بل يجوز أن تكون كسبية.
** الوجه الثالث :
توقف الشيء على نفسه ، وإن لم تكن فعند اجتماعها إن لم يحصل زائد كان الوجود محض ما ليس بوجود. وإن حصل كان هو الوجود ، وتلك الأمور معروضاته ، فلا تكون أجزائه.
وتعريفه بالأمور الخارجة عنه محال ، لأن الرسم إنما يفيد تصور الماهية بعد اختصاصه بها ، وذلك إنما يكون معلوما لو عرفنا الماهية وما غايرها من جميع الماهيات ، فيلزم الدور و (3) معرفة ما لا يتناهى ، ولا بالمركب من الداخل والخارج لأنه خارج.
وفيه نظر (4)؛ لأنه لا يلزم من كون أجزاء الوجود وجودات أن تكون هي نفس الوجود ، كما أنه لا يلزم من كون أجزاء الجوهر جواهر أن تكون الأجزاء هي نفس المركب.
صفحة ١٩
سلمنا ، لكن عند اجتماعها لا يحصل زائد غير المركب ولا يكون الوجود محض ما ليس بوجود ، لأن المركب مغاير لأجزائه.
سلمنا ، لكن لا يلزم من حصول الزائد أن لا تكون تلك الأجزاء أجزاء. على أن هذا يقتضي نفي التركيب مطلقا ، كما تقول : الحيوان مثلا ليس بمركب ، لأن أجزاءه إن كانت حيوانات لزم تركب الشيء من نفسه وهو محال. وإن لم تكن فإن لم يحصل زائد عند اجتماعها ، كان الحيوان محض ما ليس بحيوان ، وإن حصل كان هو الحيوان ، وتلك ليست أجزاء له.
سلمنا ، لكن جاز التعريف بالخارج ، وهو يتوقف على الاختصاص لا على العلم به ولا دور ، ولا يلزم العلم بما لا يتناهى على التفصيل لتوقفه على العلم بعارض كالمعلومية.
** الوجه الرابع :
دل على أنه لا شيء أعرف من الوجود (1).
وهو ضعيف لأن الحد لا يجب تركبه من الجنس والفصل.
سلمنا ، لكن نمنع انتفاء الجنس والفصل عنه. وعدم العلم لا يدل على العدم.
سلمنا ، لكن الاستقراء لا يفيد اليقين.
لا يقال : لو كان بديهيا استحال البرهان عليه ، لكنكم برهنتم عليه فلا يكون تصوره بديهيا.
لأنا نقول : التصور البديهي له اعتباران : أحدهما : ثبوته في نفسه ، والثاني : ثبوت هذا الوصف ، أعني كونه بديهيا له. والممتنع إقامة البرهان عليه هو الأول ، أما الثاني فلا.
صفحة ٢٠
** المقام الثاني : في أن تصوره أول الأوائل
الأمر في هذا ظاهر ، فإنه لا شيء أعرف عند الإنسان من وجود نفسه ، وثبوت ذاته.
وأيضا فإنه أعم الأشياء والأعم جزء الأخص ، والعلم بالكل متوقف على العلم بالجزء ، والمتوقف عليه أعرف من المتوقف ، فالوجود أعرف.
وهو ضعيف ، لأنا نمنع كونه أعم الأمور ، فإن المعلوم والمخبر (1) والمذكور والممكن العام أعم من الموجود ، والشيء مساو له ، هذا إن عنى الوجود الخارجي ، وإن عنى المطلق كان مساويا للمعلوم ، والشيء إن أطلق على الذهني فكذلك ، كما قال الشيخ : «إن الوجود إما خارجي أو ذهني ، والشامل لهما الشيئية» ، وإن أريد الخارجي لا غير ، كما هو رأي نفاة شيئية المعدوم كان أخص.
سلمنا أنه أعم ، لكن لا نسلم أن الأعم جزء من الأخص ، فإن العموم إذا كان عموم العارض لا يوجب كونه جزءا ، والوجود وصف خارجي.
وقيل (2): إن الأعم أعرف ، لأن النفس قابلة للتصور ولا منع عن الفيض من قبل الله تعالى إلا لعدم شرط أو وجود مانع ، وكلاهما منتف هنا ، فإن (3) الأعم يستحيل اشتراطه بالأخص ، وكل ما عدا الوجود فهو أخص منه ، والأمور (4) الخاصة قد تتعاند ، ولا تعاند صورة ما يعمها ، لكن كل ما يعاند العام فهو يعاند
صفحة ٢١
الخاص ، فالأعم إذن أقل معاندا وشرطا (1)، فيكون أولى بالوقوع. فالوجود اللازم للماهيات لما كان أعم كان انتقاشه في النفس أكثر من انتقاش غيره.
وفيه نظر ، فإنا نسلم أن الوجود أعم ، لكن نمنع كون ما هو أقل شرطا ومعاندا في الخارج أعرف ، فإنه لا شيء أعرف عند الإنسان من ذاته لذاته وليست أعم الموجودات (2).
** المقام الثالث : في كلام الخصم في هذا الباب
اعلم أن جماعة أنكروا هذا الحكم (3) وكلامهم يقع في موضعين (4):
** الموضع الأول :
** الوجه الأول :
بيان الشرطية : أن التصور ارتسام صورة المتصور في المتصور ، فلو كان الوجود متصورا لزم ارتسام صورة مساوية له في الذهن ، ولا شك في أن الذهن موجود فيجتمع المثلان.
** الوجه الثاني :
كون الشيء ليس غيره ، وهذا سلب خاص يتوقف على مطلق السلب ، فتصور الوجود إنما يتم بعد تصور مطلق السلب ، لكن مطلق السلب إنما يعلم إذا أضيف إلى مطلق الوجود، فيلزم الدور.
صفحة ٢٢
** الوجه الثالث :
** الوجه الرابع :
يأتي ، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية : أنه سيظهر أن حقيقة الله تعالى هي نفس الوجود ، فلو كان الوجود متصورا لزم تصوره تعالى.
** الموضع الثاني :
** الأول :
الماهيات ، وليس تصورها بديهيا ، فلا يكون تصور الوجود بديهيا.
** الثاني :
تقرر من أن العلم بالملزوم علة للعلم باللازم ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.
** الثالث :
أن جماعة من العقلاء زعموا أنه إنما يعرف بحد أو رسم.
** الرابع :
الخارج ، فإذن الأولى بالحضور ذهنا هي الأمور الجزئية ، فالوجود الأعم يكون مرجوحا ، فلا يكون تصوره أوليا.
** الخامس :
** والجواب عن الأول
** :
يجتمع المثلان.
صفحة ٢٣