إذا كان حَرٌّ قدّموني لحَرِّه ... وإنْ كان برْدٌ أخروني عن البَرْدِ
كنّى عن الشرِّ بالحرِّ، وعن الخيرِ بالبردِ. وأنشدوا:
بالمِلحِ يُدْرَكُ ما يُخشى تغيُّرُه ... فما دَوا المِلحِ إنْ حلّتْ به الغِيَرُ
كنايةٌ عن الأمر الذي يُرجى لكشْفِه السلطانُ فَيُبْتَلى ذلك السلطانُ بأمرٍ يشغَلُهُ عن القيام بما يُرجى له. وقال النابغة الذبياني:
سِتّةُ آباءٍ همُ ما هُمُ ... هُم خيْرُ من يشرَبُ ماءَ الغَمامِ
كناية عن أنهم خيرُ الناس كلِّهم لأن الناس كلّهُمُ يشربون ماءَ الغَمام.
وقال معقِّر البارقيّ:
وكل طَروحٍ في الجِراءِ كأنّها ... إذا اغْتَسَلَتْ بالماء فتْخاءُ كاسِرُ
يصف فرسًا شبّهها، إذا عرِقَتْ من الرّكض والتعب، بالعقاب الكاسر وهي الفَتْخاءُ، والفتخُ لينٌ في الجناح محمود.
وهذه كناية بالماء عن العَرَق وأراد أنها في هذه الحال التي يضعُفُ فيها أمثالها هذه حالها، فكيف تكون في ابتداء جريها! والسابقُ الى هذا المعنى امرؤ القيس حيث يقول:
كأنها حينَ فاضَ الماءُ واحتفلَتْ ... صقعاءُ لاح لها بالمَرْقَبِ الذيبُ
في هذا البيت زياداتٌ لم يصِلْ بيتُ معقّرٍ إليها وهو قولُه فاضَ الماءُ، والفائِضُ أعظمُ مما يُغتَسَلُ به لأن الاغتسال حصل من الفائض وزيادة وقوله احتفلت مبالغة في الجهدِ والتعب، وقولُه صقعاء لاح لها بالمرقبِ الذيبُ الصقعاءُ العُقابُ في وجهها بياض، وإذا لاح لها الذئب كان أشد لانقضاضها. وإذا كان انقضاضُها من مَرقَب كان أشدّ لانحدارِها. وقال عمر بن أبي ربيعة:
بعيدةُ مَهْوى القُرْطِ إمّا لنوْفَلٍ ... أبوها، وإمّا عَبدِ شمسٍ وهاشِمِ
كنى بذلك عن طول الأعناق. ومثلُه قولُ حُمَيْد الأرقَط:
طوالُ مَهْوى توَمِ الأقراط
وقال عمرو بن قِعاسٍ الغُطَيْفي:
وسوداءِ المحاجرِ إلْفِ صخْرٍ ... تلاحظني الترقُّبَ، قد رمَيْتُ
كنى بذلك عن ظبية.
ولحْمٍ لم يذُقْه الناسُ قبْلي ... أكلت على خَلاءٍ وانتقَيْتُ
قال الأصمعي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي كنى بذلك عن لحم ولده، فإنه جاع فذبحه وأكله. وقال غيرُهم كنى بذلك عن ملِكٍ هَجاه ولم يهجُه أحد قبلَه، فكأنه أكل لحمَه ميتًا.
وماءٍ ليس من عِدٍّ رَواءٍ ... ولا ماءِ السماءِ قد استَقَيْتُ
كناية عن دموعه.
وجاريةٍ تنازعُني رِدائي ... وراء الحيّ ليس عليّ بيْتُ
كناية عن الريح.
ونارٍ أُوقِدَتْ من غير زَنْدٍ ... أثرتُ جَحيمَها ثم اصْطَلَيْتُ
كناية عن الحرب.
وبيتٍ ليس من وبْرٍ وشعْرٍ ... على ظهرِ المطيّة قدْ بنَيْتُ
كنى عن بيت شِعرٍ نظمَه على ظهر راحلتِه.
وقال ذو الرُّمّة:
وحاملة تسعينَ لمْ تلْقَ منهمُ ... على موْطِنٍ إلا أخا ثِقَةٍ صِفْرا
كنى بذلك عن الكِنانةِ وما فيها من السِّهام يعني أنّه لم يجدْ لها ولدًا إلا أخا ثقة، يَصفُ سِهامَها بالجودة والإصابة والنّفاذ.
وحديثُ خَوّات بن جُبَيْر الأنصاري مع ذاتِ النِحْيَيْن لما أتاها يبتاعُ منها سَمْنًا فوجدَها وحدَها فطمِعَ فيها فحلّت نِحْيًا فذاقهُ ودفَعُه إليها. وحلّ آخرَ فذاقَهُ فلم يرْضَه، فقال: أمْسِكيه فقد شردَ جملي، فقالت أمْهِلْ حتى أشُدَّ رأسَ هذا النِّحْي فقال: إن أمسكتيهِ، وإلا ألقَيْتُهُ عن يدي، فأمسكَتْه فلما شغل يدَيْها ساورَها فلمْ تقدِر على دَفعِه، فقضى وطَرَهُ منها، مشهورٌ. وكان ذلك في الجاهلية، فلما أتى الإسلامُ أسلمَ خَوّاتُ وشهِدَ بدرًا، فقال له يومًا رسول الله ﷺ وهو يبتسمُ: يا خَوّات ما فعلَ جملُكَ الشرود؟ فقال: يا رسول الله عقَلَهُ الإسلامُ. ورُوي أنه قال له يا خوّات كيف شِرادُك، فقال يا رسول الله قد رزقَ الله خيرًا منه، وأعوذُ بالله من الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ. فكنى ﷺ عما سلَف من فِعله أحسنَ كنايةٍ وألطفَها. وقول خوّات: عقلَهُ الإسلامُ، كنايةٌ حسنةٌ عن التوبة ولزوم حُدود الإسلام، والعِلم بالحلالِ والحرام. وهذا مثال في هذا الباب كاف إن شاء الله تعالى، ومنها:
باب الموازنة
1 / 9