سَقى الرّمْلَ جوْنٌ مُستَهِلٌّ رَبابُهُ ... وما ذاكَ إلا حُبُّ مَنْ حَلّ بالرَّمْلِ
وقال آخرون: بل قولُ الأول من حسَنِ التّصدير:
سَريعٌ الى ابنِ العمِّ يشْتُمُ عِرضَهُ ... وليسَ الى داعي النّدَى بسَريعِ
وقال أناسٌ: قول ابنِ أحمر من جيّدِ ما قيلَ في التصدير وهو:
تغمَّرتُ منها بعدَ ما نفِدَ الصِّبَى ... ولمْ يَرْوَ من ذي حاجةٍ من تَغَمَّرا
التغَمّر الشُّرب القليل. وقال الفرزدق:
أصْدِرْ هُمومَكَ لا يقْتُلْكَ واردُها ... فكلُّ واردَةٍ يومًا لَها صدَرُ
ومنها:
باب الالتفات
وهو انصِرافٌ عن مخاطبةٍ الى إخبارٍ وعن إخبارٍ الى مخاطبة، وهو من بديع البديع. وقال جرير:
متى كان الخيامُ بذي طُلوحٍ ... سُقيتِ الغَيثَ أيَّتُها الخيامُ
أتذكرُ يومَ تصْقُلُ عارضَيْها ... بعُودِ بَشامةٍ، سُقِيَ البَشامُ
ويُروى:
أتَنْسى إذْ تُودِّعُنا سُلَيْمَى ... بعودِ بَشامَةٍ، سُقِيَ البشامُ
ومن الالتفات البارع قول النابغة:
ألا زَعَمَتْ بنو عَبْسٍ بأنّي ... ألا كَذَبوا، كبيرُ السنِّ فانِ
وقال آخر:
فإني إن أفُتْكَ يَفُتْكَ مني ... فلا تُسْبَقْ به، عِلْقٌ نفيسُ
وقال كُثَيِّر:
لوَ انّ الباخِلينَ، وأنتِ منهُم، ... رأوْكِ تعلّموا منكِ المِطالا
ومن هذا القِسْمِ اعتراضُ كلامٍ في كلامٍ لم يتمّ معناه، ثم يعود الشاعرُ إليه فيُتمُّهُ مرّة واحدة، وهو من جيّد الالتفات. قال طَرَفة:
فسَقى ديارَكِ، غيرَ مُفسِدِها، ... صوْبُ الربيعِ ودِيمةٌ تَهْمي
فقدْ تمّ المعنى بقولِه: غيرَ مُفسِدِها. وقال نافع بن خليفة الغَنَويّ:
رِجالٌ، إذا لمْ يُقْبَلِ الحقُّ منهمُ ... ويُعْطَوْهُ، عاذوا بالسيوفِ القواضِبِ
فتمّم المعنى بقوله: ويُعْطَوْهُ. ومنها:
باب الاستطراد
ومعنى الاستطراد خروج الشاعر من ذمٍّ الى مدحٍ أو من مدحٍ الى ذمّ. وللمُحدَثين في هذا الباب أشعارٌ كثيرة عجيبة. قال زهير:
إنّ البخيلَ ملومٌ حيثُ كان ول ... كنَّ الجَوادَ على عِلاّتِه هَرِمُ
استطردَ الكلامَ الي مدْحِ هرِم. وقال الفرزدق:
كأنّ فِقاحَ الأزْدِ حوْلَ ابنِ مِسْمَعٍ ... إذا عَرِقَتْ، أفواهُ بكرِ بنِ وائِلِ
استطرد الكلام الى ذمّ بكرِ بن وائل. وقد حَثا جريرٌ التّرابَ في وجه السابقِ الى هذا المعنى فضلًا عمّن تلاهُ، فإنّه استطرد باثنين في بيتٍ واحد وهو:
لمّا وضَعْتُ على الفرزدقِ ميسَمي ... وضَغا البَعيثُ جدَعْتُ أنفَ الأخطلِ
الضَّغُو والضُّغاءُ صوتُ الذليلِ المقهور وقال آخر:
أنتَ ابنُ بِيضٍ لعَمْري لستُ أُنكِرُهُ ... حقًّا يقينًا، ولكن مَنْ أبو بِيضِ؟
وقال بكرُ بنُ النطّاح في مالِك بن طَوْق وهو استطرادٌ من مدحٍ الى مدح:
عرضْتُ عليها ما أرادَتْ من المُنى ... لتَرْضَى فقالَتْ قُمْ فجِئْني بكَوْكَبِ
فقُلتُ لها: هذا التّعَنُّتُ كلُّهُ ... كمن يتَشهّى لحمَ عَنقاءَ مُغرِبِ
سَلي كلَّ أمرٍ يستقيمُ طِلابُه ... ولا تَذْهَبي يا دُرُّ، في كل مذْهَبِ
فأُقْسِمُ لو أصبحتُ في عِزِّ مالكٍ ... وقُدْرَتِهِ أعْيا بما رُمْتِ مَطْلَبي
فتىً شَقِيَتْ أموالُهُ بنَوالِهِ ... كما شَقِيَتْ قيسٌ بأرماحِ تغْلِبِ
وشبيهٌ بهذه الأبيات ما ذكرَهُ الأصفهاني في كتابه قال: قال أحمدُ بن عُبيد اللهِ بن عمّار: كنا عندَ المُبرِّد يومًا وعندَه فتىً من وُلْدِ أبي البَختريّ وهْب بن وهب القاضي، أمردُ حسَنُ الوجه، وفتىً من وُلْدِ أبي دُلَف القاسم بن عيسى العِجْلي شبيهٌ به في الجمال، فقال المبرد لابن أبي البَختري: أعرفُ لجَدِّكَ قِصةً طريفةً من الكرَم حسنةً لم يُسْبَقْ إليها، فقال الفتى: وما هي؟ قال: دفعِيَ رجُلٌ من أهلِ الأدبِ الى بعض المآدبِ فسقَوْهُ نبيذًا غير الذي كان يشربون، فقال:
نَبيذانِ في مجلسٍ واحدٍ ... لإيثارِ مُثْرٍ على مُقْتِرِ
1 / 19