[الوجة الثاني]
قلت سأذكر إن شاء الله هذا السؤال مقررا وجوابه مبينا مفسرا بعد نجاز الأدلة كما هو دأب السادة الأئمة على أني أقول لو صح السؤال المذكور وأقتضى إنتفاعه أن لا يكون [فيما] نحن فيه [تخريج خلاف من الأصل المذكور لم يعدم أصلا اخر للشافعي — رحمه الله — يخرج منه. وهو الوجه الثاني من الأدلة فنقول للشافعي — رحمه الله — قولان مشهوران فيما إذا تعارض في الواقعة أصلان او أصل وظاهر فمن الأول ما إذا قد ملفو فا نصفين وأشكل بعد ذلك حاله هل كان حين القد حيا او ميتا فقال القاد كان ميتا ولا قود علي ولا غرم وقال وارث المقدود بل كان حيا و قد قتلته فعليك بموجب قتلك فهل القول قول القاد لأن الأصل براءة ذمته او القول قول الوارث لان الأصل الحياة؟ فيه قولان مشهوران أصحهما عند طائفة أولهما وهو الذي اقتصر عليه الشافعي — رحمه الله — في [كتاب] الأم في باب دعوى الدم ومن الثاني طين الشوارع وثياب القصابين ونحوه، هل يحكم فيه بالنجاسة بناء على الظاهر او بالطهارة بناء على انها الأصل، فيه قولان للشافعي — رحمه الله — جاريان في المقابر المشكوك في نبشها، والأصح ايضا عند الجمهور الطهارة نظرا للأصل وتصحيحه بناء بأن الزوج لو أدعى النفقة على المرأة وهو يعاشرها زمانا طويلا. وانكرت، ان القول قولها لان الأصل عدم الإتفاق عليها وإن كان الظاهر وجوده وقد ذهب بعض أصحابنا في مسألة المقدود الى هيئة ثيابه فإن كان ملفوفا في ثياب الأحيء فالمصدق الولي، وان كان في الكفن فالمصدق القاد وهذا يجوز ان يكون لانه اعتمد في ذلك على الظاهر دون الأصل ويجوز ان يكون لأخل ان الظاهر قد اعتضد به أحد الأصلين فقوي به والكلام في ذلك بين أيدينا وإذا] عرف أن للشافعى في ذلك قولين لزم القائل بمذهبه المقلد له إن يقول يطرد مثل ذلك في كل ما تعارض فيه أصلان أو أصل وظاهر إلا أن يوجد لصاحب المذهب نص لا يقبل التأويل في بعض الصور فتوقف فيها ولا جرم. قال الأصحاب فيما إذا حلف على زوجته بالطلاق أن لا تخرج إلا بإذنه فخرجت وأدعى أنه أذن لها ليدوم النكاح وانكرت الإذن ففي من القول قوله منهما فيه وجهان يخرجان من تقابل الأصلين. فإن الأصل عدم الإذن والأصل بقاء الزوجية. والأول هو الذي أورده الجمهور وكذا ذكروا الوجهين. فيها إذا قال أنت طالق أن لم يدخل زيد الدار أو أن لا يدخل زيد الدار فمات زيد وأشكل الحال هل دخل أم لا وكذا ذكر. فمما فيها إذا قال لا أدخل الدار إلا أن يشآء زيد ثم دخل ومات زيد ولم يدرهل شآء زيد ذلك أم لا. والذى نص عليه الشافعي في هذه كما قال الغزالي في كتاب الإيمان عند الكلام فيها إذا حلف ليضربن عبده مائة خشبة الحنث نظرا إلى أن الأصل عدم المشيئة ولاسبب يظهر به وجودها قال وهذا إذا ما حلف على ضرب مائة خشبة فضربه بها دفعة واحدة وشك هل وصل إليه ألمها أم لا. فإنه نص على البر وإن كان الأصل عدم الإصابة والألم لأن الضرب هاهنا سبب ظاهر في ذلك وإلى الحنث عند الجهل بمشيئة زيد ذهب الجمهور من الأصحاب. وإذا صاروا إليه حيث لا قرينة ولا ظاهر يعتضد به الأصل المذكور، وهو عدم المشيئة، فلا يعرضه فمصيرهم إلى مثله عند وجود ظاهر يعضده من طريق الأولى. وذلك موجود في مسألتنا لأنا نقول الأصل عدم وجود البيع والكنائس الموجودة الآن بالقاهرة حال فتح البلاد والظاهر الذى فردناه يعضده فكان مقتضى قول الجمهور أن تناط الحكم به ألا أن يأتى المعاندون بحجة تدفع ذلك. بل نقول أن ذلك يجب القطع به مع ملاحظة أصل الشافعي المذكور من أجزاء الخلاف عند تقابل أصلين أو أصل وظاهر وهذا هو الوجه الثالث في الإستدلال وإنما قلت ذلك لأن محل القولين إذا لم يكن مع أحد الأصلين أو الظاهر ما يعتضد به، أما إذا كان فالعمل بالمرجح متعين يدل على ذلك من كلام الغزالي أمران أحدهما قوله في كتاب العتق ضمن فرع أوله إذا أختلفا في قيمة العبد وفات العبد إذا أدعى إلى المعتق نقصان القيمه بسبب نقيصة طارئة فالأصل عدم النقص والأصل براءة الذمة، فيخرج على تقابل الأصلين وليس معنى تقابل الأصلين إستحالة الترجيح بل يطلب الترجيح من مدرك آخر سوى إستصحاب الأصول فإن تعذر. فليس إلا التوقف أما تخيير المفتى بين مناقضين فلا وجه له وقد رأيت في الحاوى [الكبير للماوردي] حكاية التخيير وجها عن بعض الأصحاب وهو يحكى عن القاضى أبي بكر وأبي على وأبي هاشم لكنه مستبعد عند الأصحاب، وما قاله [المصدق] الغزالي قد حكاه [أبي القاسم عبد الكريم] الرافعي [القزويني] ملخصا عن الإمام. والأمر الثانى قوله في كتاب الرهن إذا أذن الراهن للمرتهن في بيع الرهن وباع الراهن ورجع المرتهن فأدعى أنه رجع قبل بيعه فالأظهر أن القول بأن الاصل عدم الرجوع ويعارضه أن الاصل عدم البيع فيبقى أن الأصل إستمرار الرهن وبسط ذلك أن أحد الأصلين عارضه الأصل الآخر فتعلل وبقى أصل آخر خاليا عن المعارضة فعمل به، والأولى أن يقال إذا أجتمع في جانب أصلان متوافقان أو أصل وظاهر ]و[في جانب آخر يعارض ذلك أصل وظاهر فقط أن لا تعارض لأن شرطه التساوى ولا تساوى. ولكن يعمل بالراجح إذا العمل به متعين شرعا وعقلا وبالجملة فكل من الأمرين يوافق قولا للشافعي. فإنه ذكر فيها إذا تعارضت بينة الداخل والخارج أنه تقضى للداخل لكن هل قضى له لترجيح بينته بيده أو لأجل أن بينته عارضت بينة الخارج؟ فتساقطنا وبقيت اليد خالية عن المعارضة. فعمل بها كما لو لم تكن بينة أصلا فيه قولان يظهر أثرهما في إحتياج الداخل إلى اليمين. فعلى الأول لا يحتاج وعلى الثانى يحتاج فإذا تقرر ذلك قلنا ما نحن فيه كذلك إن سلم ما يدعيه المنازع من كون الظاهر من الأيدى إنها موضوعة بحق كما وعدنا بذكره بعد نجاز الأدلة وثم يتم تقرير هذا الوجه من الدليل ان شاء الله تعالى.
[الوجة الرابع]
والوجه الرابع من الأدلة وهو الذى يظنه أكثر فقهاء الملة أنه لا ينكر أن إحتمال إحداث البيع والكنائس بالقاهرة المحروسة بعد بناءها يمكن كما أنه يمكن أن تكون موجودة قبل ذلك وحينئذ. فأما أن يدعوا أن إيجادها في أمكنتها كان قبل الفتح أو بعده. فإن كان بعده فذلك منقوض بإتفاق من أصحابنا وإن كان قبله فالصحيح كما حكاه النقلة الذين يرجع إلى قولهم في نقل المذاهب التي يجب على المقلدين العمل بها، والفتوى أن البلاد فتحت عنوة.وحكاه شيخ الأنام قاضى القضاة تقي الدين أبو الفتح [محمد] القشيري [إبن دقيق العيد] عن نص مالك [إبن أنس] رضى الله عنه في المدونة [الكبرى] وما فتح عنوة وكان فيه حين الفتح بيع وكنائس ونحوها لا يجوز مصالحة أهل الذمة على إقرارها بالجزية على الصحيح من الوجهين في الوجيز والوسيط والنهاية والمنهاج [الطالبين وعمدة المفتين في الفقه لأبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي] والمحرر [في فقه الإمام الشافعي للرافعي]، وأنه يجب هدمها لأن المسلمين قد ملكوها بالإستيلاء فيمتنع جعلها كنيسة. وعليه يطبق نص الشافعي — رحمه الله — في [كتاب] الأم في سير الواقدي في الجزء الخامس عشر فكل بلدة فتحت عنوة فأرضها ودارها كدنانيرها ودراهمها، وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر وبني قريظة بإتفاق لا يجوز للإمام يترك لهم الدنانير والدراهم في معاملة عقد الذمة. فكذا لا يجوز أن يترك لهم الكنائس وقد ملكها المسلمون لأجل عقد الذمة ثم تركها لهم لا يجوز أن يكون على وجه الهبة لما لا يخفى ولا عمل وجه المعارضة لأجل عقد الذمه لأن البذل يكون منهم لا منا فلم يبق إلا جعلها من مدة لهم لأجل المصلحة وملك الغانمين لا يجوز أن يعطل عليهم لأجل وجه المصلحة. ولهذا لما إختلف قول الشافعي في كون أراضى الفىء تكون موقوفة لم يختلف في أن ما فتح عنوة لا يكون موقوفا وعمر رضى الله عنه إنما وقف أرض السواد إذ قال أنها وقف بعد استطابة قلوب الغانمين أو لإجتهاد رآه وهو قوله لولا آخر المسلمين لقسمت الأراضي كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأجل ذلك والله أعلم.
الفتح لوجب نزعها منهم إلا أن يتصل بالصلح المذكور حكم [حاكم] ممن لا يجوز نقض حكمه فعليهم إثباته إن أدعوه وأرادوا الإبقاء.
[الوجه الخامس]
والوجه الخامس في الإستدلال على الخصوم وهو عندي أظهرها وأحلاها وأعلاها وأسناها مع تسليم إحتمال الوجود قبل الفتح وبعده. وإنما قلت ذلك لأنه لا ينكر أن إمكان الحدوث لذلك بعد الفتح وقبله موجود، وإذا كان كذلك فالموجود الآن من أهل الملتين في هذه الديار [من] اليهود وأهل الزنار لم يعقد لهم ذمة على طريق الإنفراد كما تمدد ذلك ذهن الحاضر والبائد. ومن لقيناه منهم يعترف بذلك ولا ينكره بل يدعى لجهله إن ذلك يعدره ولا شك في أن أوائل أسلافهم قد عقدت لهم الذمه ممن له عقدها في الجملة ولنا خلاف في أن أولاد من عقدت لهم الذمه إذا بلغوا وصاروا من أهل أن تعقد لهم. فهل يجرى عليهم حكم العقد مع أبائهم أم يحتاجون إلى عقد جديد كما أحتاج إليها أباؤهم. والأخير هو الذى قاله الشيخ العلامة الورع الزاهد أبو إسحق [الشيرازي] صاحب التنبيه أنه ظاهر نص الشافعي — رحمه الله — على خلاف ما قاله بعض المراوزة ومن تبعه وهو من العراقيين الذين هم اقعد بنقل نصوص الشافعي من المراوزة. وقد جرى على الأخذ بظاهرالنص المذكور منهم القاضي أبو الطيب [الطبري] والشيخ أبو حامد [الإسفراييني] وهما شيخا العراقيين رحمهما الله تعالى ولا جرم قال [محمد إبن هبة الله] البندنيجي في التعليق “وسلم في المجرد أنه المذهب.” وعزاه بن الصباغ إلى نصه في الأم وصححه وأختاره الشيخ العلامة بن أبي عصرون شيخ الشام فى زمانه فى كتابه المسمى بالمرشد وإذا كان كذلك فلا بد من عقد الذمه لهم حتى لو أبوا ذلك كانوا في حكم الناقضين للعهد كما هو مبين في بابه ولا يجوز أن يعقد لهم الذمه ويدخل فيها ما هو موجود من البيع والكنائس التى وقع الشك والإحتمال في حدوثها قبل الفتح أو بعده لأن شرط العقد على ذلك أن يتحقق وجود شرطه او يظن وإذا حصل الشك في التقدم على الفتح أو التأخر عنه أو في أن الفتح كان بالصلح أو عنوة [و] لم يوجد ذلك فلا يجوز بسببه الإقدام على ذلك، وهذه قاعدة مستقره في الشرع أنه متى وجد الشك في شرط الشيء لا يجوز فعله ولا تثبت وقد وجدها هنا وإن قيل لا نسلم إن القدم شرط بل الحدوث بعد الفتح هو المانع وقد وقع الشك فيه ومن القاعدة المستقرة أنه إذا وقع الشك في المانع ترتب الحكم فوجب أن يجوز العقد لهم لأجل ذلك. قلت عن ذلك جوابان أحدهما أن الشيخ سيف الدين الآمدي قال ما كان وجوده مانعا كان عدمه شرطا وحينئذ يعود ما سلف ويصح أن تمنع القاعدة المذكورة في أنا إذا شككنا فى المانع رتبنا الحكم لأن الأصل عدمه.
الثاني وهو أولاهما في ظني أن نقول أنها تتمم القاعدة المذكورة إذا كان المانع وجوديا أما إذا كان عدميا فالأصل العدم فلا يمكن أن ينفى ويقال الأصل عدم المانع وما نحن فيه من هذا القبيل لأن الحدوث كيف قدر قبل الفتح أو بعده طار على العدم والأصل عدم التقدم إلى الزمان الذى وقع الإتفاق على الحدوث فيه. فإذا أمتنع جواز عقد الذمة لهم على هذه البيع والكنائس لأجل ذلك وهي في ديارنا لم هدر لأن إبقاءها كان لأجل حقهم، ولا حق لهم فيها على هذا التقرير. وخالف هذا ما إذا وجد عقد معهم، وشككنا بعده في تقدم الحدوث على الفتح أو تأخره فإنها لا تنقضى لأجل أن الأصل دوام العقد وإستمراره. فلا يزال بالشك. وهذا على رأى بعض الأصحاب منا على ما إذا أختلف المتبايعان في شرط يفسد العقد بعد وجوده إن القول قول من يدعى الصحة وهو أحد القولين في المسألة والقول الآخر أن القول قول من يدعى الفساد، وعلى هذا لا يختلف الحال فيما نحن فيه من ما قبل العقد وبعده ومما يتأيد به الأول أن التي أنقضت عدتها فى الظاهر إذا وجدت ريبة بالحمل قبل التزويح، هل يحل لها النكاح أم لا؟ فيه قولان ولو حصلت الريبة في إبتداء العدة لم يحل النكاح قولا واحدا و كذا يؤيده قول الغزالي في كتاب النكاح أن من بلغ رشيدا ثم سفه في الدين فقط لا يعود الحجر عليه بنفسه إتفاقا، ولو سفه بعده في المال فقط ففي عوده بنفسه خلاف، ولو قارن واحد منهما البلوغ لم يرتفع الحجر ودام وفرق بأنه في هذه الحالة يثبت الحجر بيقين فلا يرتفع بالشك في الرشد فإن إتصال الفسق بالبلوغ يوجد الشك فيه وإذا أرتفع بيقين لم يعد أيضا بالشك بسبب الفسق والله أعلم.
هذا تمام ذكر ما حضرني من الأدلة على ما يخالف دعوى أهل المسكنة والذلة والأخير منها، والذي يليه يقتضى تعميم الحكم فى كل كنيسة وبيعة ونحو ذلك من متعبدات أهل الكتابين، مما وقع الشك فيه هل كان موجودا في الديار المصرية قبل الفتح أو بعده؟ فليتأمل ذلك من سدد الله قصده وألهمه رشده ولا يجري ذلك فيما تحقق وجوده قبل الفتح أو أشتهر لأجل تقريره ممن سلف من الخلفاء الراشدين. وقد أن لنا ذكر ما تقدم الوعد به من سؤال، هو عمدة من قام في نصرتهم من أهل الإسلام وفاء بما ألتزم لهم من الأمان. فنقول فإن قيل إحتمال الحدوث بعد الفتح أو قبله لا ينكر وكذا إحتمال كون البلاد فتحت صلحا أو عنوة لا ينكر، وعلى تقدير أن تكون قد فتحت صلحا وكانت البيع والكنائس إذ ذاك بهذا المكان موجودة ووقع الصلح عليها، فلا يجوز هدمها. وعلى تقدير خلافه ينعكس الحكم فقد دار الأمر بين إحتمالين أحدهما يقتضى الهدم والآخر يقتضى الإبقاء وجهل الحال والظاهر فيها دار بين إحتمال الجواز وهو كونه وضع بحق وإحتمال عدم الجواز وهو كونه وضع عدوانا إنه يحمل على أنه وضع بحق وشاهد ذلك من قول الأصحاب دعواهم أنه إذا أصيبت جذوع على حائط وجهل الحال في وضعها لا يزال حملا لها على أنها وضعت بحق. ويؤيد ذلك ايضا أنه إذا قال صاحب الدابة لشخص ”غصبتها“ وقال منازعه ”لأنك أعرتنيها“ كان القول قوله في عدم الغصب لأن الظاهر من البدأ أنه محق ومدعى الغصب يدعى خلاف الظاهر وقد نقل [إسماعيل بن يحيى] المزني ذلك عن نص الشافعي رحمه الله، وهو في [كتاب] الأم وكيف يقال بأن ذلك يهدم [و] بلدها البصرة بلدة أسلامية خطت في زمان عمر رضى الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة على يد عتبة بن غزوان وقد ذكر في الحاوى أن ما يوجد فيها من كنائس لا ينقض لإحتمال أنها كانت فى قرية أو برية فإتصلت بها عمارات المسلمين فإن عرف أحداث شيء منها بعد بناء المسلمين وعماراتهم ينقض وطريق الجواب عن ذلك، أن يقول ما ذكرناه من الدليل الرابع والخامس يدفع السؤال من أصله. أما الرابع فلأجل أنه مفرع على أن الديار المصرية فتحت عنوة والبصرة كما قال المواردي للشيخ أبي حامد حين سأله هل هي من سواد العراق [فيها] أنشئت في موات أحياه المسلمون وحينئذ. فما كان من البيع والكنائس التي قدر إتصالها بها لا يخلوا إما أن يكون فتح صلحا أو عنوة. فإن كان صلحا ظهر الفرق بينه وبين ما نحن فيه لأنه ما قدر أنه كان يجاورها حين أنشأت كان يجوز تقريره بناء على أن ما فتح صلحا يجوز تقرير ما به من الكنائس. فأمكن إحتمال تقريره ولا كذلك ما نحن فيه فإن ما به من الكنائس الآن على تقدير أن يكون موجودا حين الفتح لا يجوز تقريره على الأصح بنا على أن ما فتح عنوة وبه كنائس لا تجوز تقريرها. فإن المسلمين ملكوها بالفتح وإن كان الموضع المضاف إلى البصرة فتح أيضا عنوة. فلعل ما ذكره الماوردي من التاويل بناه على ما أدعى أنه الصحيح من أن البلاد إذا فتحت عنوة وبها كنائس يجوز تقريرها، فأنه إذا كان كذلك تم له ذلك وقد رأيت ذلك مصرحا [به] في تعليق البندنيجي، حيث قال إذا كان في البلاد التي أنشأها المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد بيعة أو كنيسة نظر الإمام فى ذلك. فإن كان محدثا قلعه وأبطله وما لم يعرف سببه اقره لجواز أن يكون رسمه قبل إحداث هذه البلاد، فإن قيل فهذه المواضع كلها فتحت عنوة وملكها المسلمون فكيف شاع إقرارهم في كنائسهم مما فتحه المسلمون عنوة قلنا يجوز ذلك على أحد الوجهين فإن ما فتحه المسلمون عنوة وكان فيه بيع عامرة وكنائس موجودة قائمة فيها وجهان، أحدهما يجوز أن يصالحهم على إقرارها لهم وعلى هذا تحمل بيع العراق، والثاني لا يجوز لأنه ملكه المسلمون فلا يصالحهم على أن تجعلوا أملاك المسلمين بيعا وكنائس. هذا آخر كلامه وهو صريح فيما [إذا] ذكرناه وإذ بان أن الصحيح في المذهب كما ذكره الرافعي ومن تبعه والغزالي في الوجيز وغيره أيضا أنه لا يجوز تقرير كنيسة فيما فتح عنوة ظهر منه أن تقرير الكنائس في العراق على خلاف الصحيح عندهم وكذلك في البصرة. فلا يحتج به علينا على أني اقول من نفس كلام الماوردي فى البصرة يمكن أن يوجد فرق بينها وبين ما نحن فيه وذلك أنه جعل إحتمال إتصال العمارة الحادثة مما كان خارجا عنها. هو المسوغ للتقرير وإحتمال الإتصال هاهنا غير ممكن لأن السور الذى بناه المعز مانع من ذلك. فلم يبق إلا إحتمال الوجود في حالة الإنشاء وإنه دام كما يدعيه بعض المعاندين وقد ذكرنا أن ظاهر الحال يرده ويأباه ولا كذلك إحتمال إتصال العمارة في البصرة مما كان فيه البيع ونحوها فأنه لا ظاهر يخالفه فجاز أن يوفر على الإحتمال مقتضاه وبسط ذلك إنا نقول المستدل يزعم أن الأمر إذا جهل كان الظاهر أنه يحق كما سلف تقريره. ونحن نسلم له ذلك ونقول لكن تقدير انشاء القاهرة والكنائس والبيع حاله فيها خلاف الظاهر كما أسلفناه أيضا وحينئذ فقد تعارض في التقرير وعدمه فيها ظاهران على التقابل والأصل عدم الوجود في الزمن الماضي. فأعتضد به أحد الظاهرين وهو الذى يقتضى عدم التقرير فقدم. ومثل هذا لا يجوز أن يقال في البصرة بل الموجود فيها أصل من جانب وظاهر من آخر فعمل بالظاهر كما هو أحد الرأيين كما تقدم وهذا ما قدمت الوعد به عند ذكر الدليل الثالث فإن قلت لا نسلم أن الموجود فيما نحن فيه ظاهر مجرد بل نقول معه أصل أيضا وهو كون الأصل بقاء ما كان [على ما كان] من غير مجدد وحينئذ يكون قد وجد في كل جانب أصل وظاهر فلا ترجح.
قلت الأصل الذى يتمسك به المعترض طار بإتفاق على الأصل الذي تمسكنا به فإن الإنشاء طار على العدم. وإذا كان كذلك عاد الأمر إلى ما قلناه والله أعلم. وأما دفع الدليل الخامس للسؤال فجلى فإن قلت قضيته أن يطرد في البصرة ونحوها.
صفحة غير معروفة