كتاب نفائس الأصول في شرح المحصول
تأليف الإمام الفقيه
شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن
الصنهاجي المصري
المشهور بالقرافي المتوفى سنة ٦٨٤هـ
دراسة وتحقيق وتعليق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - والشيخ علي محمد معوض
قرظه
الأستاذ الدكتور: عبد الفتاح أبو سنة
الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف
وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
وخبير التحقيق بمجمع البحوث الإسلامية
مكتبة
نزار مصطفى الباز
الطبعة الأولى
١٤١٦هـ - ١٩٩٥م
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله عليه توكَّلتُ
قال سيدنا ومولانا الشيخ الإمام العالم العلامة بقية السلف، وقدوة الخلف، لسان المتكلمين، سيف المناظرين، فريدُ دهره، ووحيد عصره شهابُ الدينِ أحمدُ بنُ إدريسَ المالكىُّ، المعروفُ بـ «القَرَافيِّ» متع الله المسلمين ببقائه:
الحمد الله الذي تفرد في عظم ألوهيته بكمال المجد والعلاء، وتوحد في جلال صمديته بغايات شرف الصفات والأسماء، وتمجد بجلال أزليته في صفاته وهويته عن إمكان الحدوث والابتداء، وتقدَّس في وجوب ديمومية أبديتهِ عن عواض التغير والفناء، الذي عجز عن إدراك كنه حقيقته غايات
1 / 87
عقول العقلاء، وتاهت في سُرَادقات عظمة جلاله نهايات ألباب الألباء، أحاط عمله القديم بكل موجود ومعدوم، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، نفذت سوابق مشيئته في بريته، فلا يكون إلا ما يشاء في حالتي السراء والضراء، وطوري الشدة والرخاء، حليت بمدارج معارج شرف تقريبه أرواح خاصته الأنبياء، وتنعمت بتجليات مواهب ملكوته صدور الأولياء، وخضع لعواصف قواصف رهبوته من في الغبراء والزرقاء، عظمت مواهب آلائه، فالدنيا والآخرة في بحار جوده أيسر العطاء، أعطى الجزيل، وأظهر الجميل، فأعظم به في بسط العطاء، وسبل الغطاء، أنزل الرسائل، وشرع الوسائل؛ فحاز أيسرها حكمة الحكماء، نوع آدابها، وفرع أسبابها، وأرشد طلابها بأوضح الأنباء،
1 / 88
فرسخت أصولها، وبسقت فروعها، وأينعت ثمارها في صدور العلماء، وأفضل الصلوات الطيبات على محمد سيد النُّجباء، وواسطة عِقْد الأصفياء، اختار الله تعالى له من المقامات القدسية أعلاها، ومن الصفات النفسانية أسناها، ومن الرسائل الربانية أسماها، ومن الصحابات والقرابات أوفاها، ومن الأمم العاملة أقواها، وأفضلها في برِّها وتقواها، وقدمه على جميع الملائكة والأنبياء ليلة الإسراء، فهو الرسول الأعظم، والإمام الأقوم، والشفيع المقدم.
إذا اشتدت إليه حاجات الأمم يوم الفصل والقضاء، آدم فمن دونه تحت لوائه وسيادته على الثقلين، من صفاته وأسمائه شمس الوجود، معدن الجود، وجامع الحمد، وحائز الجِدّ في جميع التصرفات والآراء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومحبيه صلاةً يجزيه الله بها عن أمته أحسن
1 / 89
الجزاء، وأسلم بها من دَرَك الشقاء، وضَنْك البلاء، وشماتة الأعداء، وأحوز بها منازل السعداء في دار البقاء.
أمَّا بعدُ:
فأفضل ما اكتسبه الإنسان علْمًا يسعد به في عاجل معاشه، وآجل معاده، ومن أفضل ذلك علم أصول الفقه؛ لاشتماله على المعقول والمنقول، فهو جامع أشتات الفضائل، والواسطة في تحصيل لباب الرسائل، ليس هو من العلوم التى هي رواية صرفة لا حَظَّ لشرف النفوس فيه، ولا من المعقول الصرف الذي لم يَحُضَّ الشرع على معانيه، بل جمع بين الشرفين، واستولى على الطرفين، يحتاج فيه إلى الرواية والدراية، ويجتمع فيه معاقد النظر، ومسالك العبر، من جهله من الفقهاء فتحصيله أجاج، ومن سُلِبَ ضوابطه عُدم عند دعاويه الحِجَاج، فهو جدير بأن ينافس فيه، وأن يشتغل بأفضل الكتب في تلخيصاته ومبانيه، ورأيت كتاب «المحصول» للإمام الأوحد فخر الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الإمام العلامة أبى حفصٍ عُمَرَ الرَّازيِّ، قدَّس الله روحه، جمع قواعد الأوائل ومستحسنات الأواخر بأحسن العبارات، وألطف الإشارات، وقد عظم نفع الناس به
1 / 90
وبمختصراته، وحصل لهم بسببه من الأهليَّة، والاستعداد ما لم يحصل لمن اشتغل بغيره.
بسبب أنه ألفه من أحسن كتب السنة، وأفضل كتب المعتزلة: «البرهان» و«المستصفي» للسنة، «والمعتمد» و«شرح العمد» للمعتزلة، فهذه الأربعة هي أصله، مُصانا بحسن تصرف الإمام، وجود ترتيبه وتنقيحه، وفصاحة عبارته، وما زاده فيه من فوائد فكره وتصرفه وحسن ترتيبه، وإيراده وتهذيبه، فاستخرت الله -تعالى - في أن أضَعَ له شرحًا أودعه بيان مشكله، وتقييد مهمله، وتحرير ما اختل من فهرسة مسائله، والأسئلة الواردة على متنه، وما عساه يوجد من الفوائد في غيره، وجمعت له نحو ثلاثين تصنيفا في أصول الفقه للمتقدمين والمتأخّرين من أهل السنة والمعتزلة، وأرباب المذاهب الأربعة منها «البرهان» و«المُستصفي» و«الإحكام» لسيف الدين الآمدى،
1 / 91
وكتاب «الترجيحات» له، و«منتهي السُّول» له، و«المعتمد» لأبي الحسين، و«شرح العمد» له، و«القياس الكبير» له، و«القياس الصغير» له، و«شرح البرهان» للأبيارى، و«شرح البرهان» للمَازِريِّ، و«الإفادة» للقاضي عبد الوهاب في مجلدين و«الملخص» له، و«الفصول» للباجى في مجلدين، و«الإشارة» له، و«اللُّمع» للشيخ أبي إسحق وشرحه له، و«المعالم»، وشرحها للتِّلمسانى،
1 / 92
و«المحصول» لابن العربى، و«العمْدة» لأبي يعلى مجلدان، و«الواضح» لأبى عبيد مجلدان، و«التمهيد» لأبى
1 / 93
الخَطَّاب مجلدان، و«التنقيحات» للسهروردي، و«الأوسط» لابن برهان مجلدان.
و«الوافي» لابن حمدان الحرَّاني مجلدان، و«تعليق على المحصول» لابن يونس الموصلى، و«شرح النَّقْشَوَاني للمحصول»، و«كتاب ابن
1 / 94
القاص»، و«كتاب الإحكام» لابن حزم، و«كتاب الرَّوضة» للشيخ موفق الدين، و«شفاء الغليل» للغزاليِّ، وتعاليق لجماعة من العلماء المعتبرين في أصول الفقه لا أطول بذكرهم، والتزمت من
1 / 95
مختصراته «بالمنتخب» و«الحاصل» لضياء الدين حسن، و«الحاصل» لتاج الدين، و«التحصيل» لسراج الدين. و«التنقيح» للتبريزى، والتزمت أن أعزو كل قول لقائله، وكل سؤال لمورده، وكل جواب لمفيده، ليكون المطالع لهذا الشرح ينقل عن تلك الكتب العديدة الجليلة الغريبة، فيكون ذلك أجمل من النقل عن كتاب واحد في التدريس والإفادة، وعند المناظرات، وليكون إذا وقع خلل فيما نقلته وقد أعزيته إلى موضع يستدرك من الموضع الذي أعزيته إليه، ويمكن استدراكه من أصله، فيكون ذلك أيسر لتحقيق الصواب ورفع الخطأ وما فتح الله تعالى به من المباحث والأسئلة والأجوبة والقواعد والتنبيهات أسرده سردا من غير إعزاء، ولعلي قد أكون صادفت خاطر غيرى في ذلك، ولم أعلم به، غير أن الله تعالى أعلم بمواهبه في صدور عباده، غير أنى أذكر ما وقع لي من ذلك بفضل الله - تعالى - وفتحه، رجاء النفع به إن شاء الله تعالى، وقد يتفق لى بعد ذلك أن أجده لغيرى فلا أعيد ذكره خشية الإطالة، وقد يقع الخاطر على الخاطر في القصائد المنظمة، فكيف بموارد العقول، فإنه أقرب لأنها كالمرائي، إذا استوت في الجلاء، تجلَّى في جميعها الصورة الواحدة، ولا أورد من الأسئلة إلا ما هو حق عندى لا جواب عنه، أو ما عنه جواب، غير أن كثيرا من الفضلاء يعسر عليهم الجواب عنه، فأذكره لجوابه لا لذاته، وليحترز منه، ويتنبه به على أمثاله، وأما الأسئلة الضعيفة فلا أوردها؛ لأنها تطويل بغير فائدة مهمة، والعمر أقصر شُقة من أن يطول بالعتاب، وكذلك إذا وقع جواب حق، أو سؤال حق لا أورد عليه الأسئلة الضعيفة، ثم أجيب عنها، فتصير أجوبة وأسئلة، وأسئلة وأجوبة فيتسلسل الحال، فهذا لا يليق إلا بعلم الخلاف للتمرُّن على الجدال والمناظرات، أما بغيره فلا، ومهما كان لفظ «المحصول» غنيا عن البيان تركته، إلا أن يكون عليه سؤال، متى كان محتاجا لبيان، وهو يحصل من أثناء إيراد الأسئلة عليه تركت بيانه لحصوله من الأسئلة طلبا
1 / 96
لتقليل الحجم، وترك التطويل، وأبدأ بالمحصول. فإذا تلخص كلامه، وما عليه ثنيت بمختصراته، فإن زاد بعضها لفظا، أو غيّر وضعها، فأذكر ما يتعلق بذلك التغيير، أو بتلك الزيادة من إيراد وتحرير وغير ذلك، ثم أثلث بتصانيف الناسِ المتقدم ذكرها، فأنقل ما فيها جميعها في كل مسألة تكون فيها من زيادة فائدة إن وجدتها، والمتكرر أسقطه، ويصير هذا الكتاب شرحا لـ «المحصول» ولمختصراته من ال «المنتخب»، و«الحاصل» وغيره، فيعظم نفعه، ويجل في الوضع وقعه، مستعينا بالله - تعالى - على خلوص النية وحصول البغية وسميته «نَفَائس الأصُولِ في شَرْحِ المَحْصُولِ»، وقد أقدم قبل الخوض في شرح الكتاب أربعة أبحاث يناسب تقديمها:
البحث الأول
قال «السيف الآمدي»: حق على كل من حاول علما أن يتصور معناه بالحد والرسم، ليتميز له مطلوبه عن غيره، وأن يعرف موضوعه، ليتميز عن غيره من الموضوعات، وغايته المقصودة من تحصيله، حتى لا يكون سعيه عبثا، والذي يبحث فيه عنه من المسائل ليتصور طلبها، وما منه يستمد ليحصله من تلك المادة، وما هي مبادئه ليبنى عليها.
1 / 97
أما حدُّ أصول الفقه فسيأتى إن شاء الله -تعالى -في الشرح.
وأمَّا موضوعه، فموضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه لذاته، فموضوع أصول الفقه الأدلة الموصلة للأحكام الشرعية، وأقسامها، واختلاف مراتبها، وكيفية الاستدلال بها على الأحكام الشرعية على وجه الإجمال دون التفصيل، وكيفية حال المستدل بها، فالموضوع لعلم أصول الفقه كله ثلاثة أجزاء الأدلة والاستدلال، وهو باب التعارض والترجيح، وصفة المستدل، وهو باب المجتهد والمقلّد، والمفتي والمستفتِي، كما أن موضوع الفقه الأفعال من جهة أنها يعرض لها حكم شرعي في مكلف، أو لا يعرض لها حكم شرعي كالنائم والساهي، وأسباب الأحكام والشروط والموانع، والحجاج الكائنة عند الحكام كالبينات والأقارير ونحوها.
وموضوع علم التفسير ألفاظ الكتاب العزيز ومعانيه.
وموضوع علم الحديث ألفاظ الحديث وأسانيدها ورواتها.
وموضوع علم الطب مزاج الإنسان من حيث يصح ويسقم، وعلى هذا المِنوَال يُعرف موضوع كل علم، فهذا بسط كلام سَيْفِ الدِّينِ، وإنما هو اختصره.
وأما غايته، فالوصول إلى معرفة الأحكام الشرعيَّة.
وأما مسائله، فهي أحوال الأدلة المبحوث عنها فيه.
وأما استمداده، فعلم الكلام والعربية والأحكام الشرعيَّة.
أما الكلام فلتوقُّفه على أن الناطق بهذه الأدلة رسول صادق.
وأما العربية؛ فلأن من جهلها جهل دلالات الألفاظ في الكتاب والسنة، وأقوال إجماع الأمة من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص وغير ذلك.
1 / 98
وأما الأحكام الشرعية، فلا بد من تصورها ليعلم كيف يفيدها أصول الفقه، ولا يتوقف على الأحكام من جهة أنها حاصلة للأفعال؛ لأن الأحكام متوقفة على أصول الفقه، وهو أدلته من هذا الوجه، فيلزم الدور، بل من الوجه الذي ذكرناه.
وأما مبادئه، فمبادئ كل علم التصورات، والتصديقات المسلمة في ذلك العلم من غير برهان ليبنى عليها ذلك العلم، كانت مسلمة في نفسها كمبادئ علم أصول الدين التى هي البدهيات، أو مقبولة على سبيل المصادرة، وتكون مبرهنة في علم آخر قبل هذا العلم، وهي هاهنا ما يحتاجه أصول الفقه من الكلام والعربية والأحكام الشرعية على ما تقدم.
قال الأبيارىُّ في «شرح البرهان»: أصول الفقه له معنيان: يطلق لقبا، ويطلق مضافا.
فإنْ أطلق لقبا فهو من الفنون مشتمل على جملة من الأحكام الشرعية، وحقائقها، وأقسامها، والمميز لها، وهو أدلتها، وأقسام الأدلة، وشرائطها، وكيفية الاستدلال بها، وكيفية المستدل.
وإذا أطلق مضافا فهو الأدلة خاصة من هذا الوجه، لا يتوقف على الكلام والعربية والفقه، إنما يتوقف من الوجه الأول الذي هو لقب.
1 / 99
وفى كلامه نظر.
أما اللقب فيتوقف على تلك الأمور؛ لأن بعضها جزء، وبعضها لازم للمجموع، وأما المضاف فلأن خصوص المضاف إنما يعرف بالمضاف إليه من حيث هو كذلك، والمضاف إليه الفقه، فيتوقف المضاف الذي هو الأصل على معرفته، والفقه هو الأحكام، وهو يستلزم من الكلام صدق الرسول والعربية وغيرها، فالقِسْمَان متوقفان؛ والتوقف أعم من توقف الجزء، وتوقف اللزوم، غير أن اللوازم منها قريب لا بدّ من معرفته، وحضوره في الذهن، وبعيد قد يستغنى عنه.
البحث الثاني
في فضيلة هذا العلم، وقد أجمع قوم من الفقهاء الجهال على ذمّه، واهتضامه، وتحقيره في نفوس الطلبة، بسبب جهلهم به، ويقولون: إنما يتعلم للرياء، والسُّمعة، والتغالب، والجدال، لا لقصد صحيح، بل للمضاربة والمغالبة، وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعى لا بُدَّ له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكم ولا سبب، فإن إثبات الشرع بغير أدلته، وقواعدها بمجرد الهوى خلاف الإجماع، ولعلهم لا يعبئون بالإجماع، فإنه من جملة أصول الفقه، أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهدا قطعا، غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين ﵃ لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما المعاني فكانت عندهم قطعا، ومن مناقب الشافعى ﵁ أنه أول من صنف في أصول الفقه.
1 / 100
وأما قولهم: إنه جدال، فليت شعرى كيف يليق بهم ذم الجدال والجدل، وهو شأن الله تعالى، وشأن خاصته، فقد أقام الله - تعالى - الحجج، وعامل عباده بالمناظرة، قال الله تعالى: ﴿فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين﴾، وقال تعالى: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾، ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه﴾، وقال للملائكة: ﴿ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض﴾، لما قالوا له: ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها﴾، وقامت الحجة له - تعالى - عليهم لما أنبأهم آدم بالأسماء وتناظرت الملائكة بقوله تعالى: ﴿ما كان لي
1 / 101
من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون﴾، وتجادل الأنبياء ﵈.
وفي الصحيح: «تحاجّ آدم وموسى ﵉ فقال موسى لآدمَ -صلواتُ الله عليهم أجمعين - أنتَ آدَمُ خلقك الله بيدهِ وأسجدَ لكَ الملائكة، وعاتبه على أكل الشجرة، فقال له آدم في آخر كلامه: أتلومني على أمر قد قُدّر علىَّ؟ قالَ رسول الله ﷺ: فحجَّ آدم موسى» أى ظهرت حجته عليه. الحديث.
وحاجت الأنبياء أممها، وجادلتها قال الله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه﴾، وحكى المجادلة إلى آخرها إلى قوله تعالى: ﴿فبهت الذي كفر﴾، وقال تعالى: ﴿قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا﴾، وقال تعالى: ﴿قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين﴾، وقال تعالى ﴿وجادلتهم بالتي هي أحسن﴾، وقال تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾ وهو كثير جدا.
فالجدال أصله اللَّىُّ والفَتْلُ، وجَدَلت الحبل إذا فتلته، ومنه سمى الصَّقر أجدل لانبرام جسمه وشدته، فمن لوى إلى الحق فهو محمود، ومن لوى إلى الباطل فهو مذموم، فالجدال كالسَّيف آلة عظيمة حسنة في نفسها، وإنما يَعْرض لها الذم من جهة ما تعمل فيه، فمن قطع به الطريق، وأخاف به السبيل على المسلمين ذُمّ، فكما لا يذم السيف في نفسه لا يذم الجدال في
1 / 102
نفسه، وإنما يُذَمُّ القصد الصارف له إلى الباطل، فما من شيء في العالم إلا هو كذلك، قال الله تعالى: ﴿ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون﴾، فجعل الجميع فتنة إشارة لما ذكرته، وأصول الفقه وأصول الدين من الفروض المتعين إقامتها وضبطها، لوجوب الحجة لله - تعالى - على خلقه، وإيضاح أحكام شريعته، وسيأتى في «المحصول» أنه من فروض الكفايات الحسنة الجليلة التى لها شئون، وشرف عظيم على غيرها.
البحث الثالث
في تسمية الكتاب بـ «المحصول»، وهو مشكل، لأن الفعل إن كان حَصَلَ فهو قاصر ليس له مفعول، فلا يقال: محصول لأنه اسم مفعول، وإن كان حصَّل بالتشديد فاسم المفعول منه مُحصَّل، نحو كسَّرته فهو مكسَّر، وجرَحْته فهو مُجَرَّح، فمحصول لا يتأتى منه، وليس للعرب هاهنا إلا حَصَلَ وحصَّل، فعلى هذا لفظ محصول ممتنع لغة، والجواب من وجوه:
أحدها: أن صيغة مفعول تكون لغة للمصدر، تقول العرب: فلانٌ لا معقول له أى لا عقل له، وكذلك قيل: في قوله تعالى: ﴿بأيكم المفتون﴾، أى الفتنة، فيكون المحصول بمعنى الحصول، ولا شك أن هذا الكتاب فيه حصول لأنواع من العلوم والفوائد.
وثانيها: أن «حصل» القاصر يتعدى بحرف جر تقول: حصل بكذا، فيكون هذا الكتاب قد حصل به العلم للمشتغل به، ولا شك أن كذلك، فيصدق عليه أنه محصول به.
1 / 103
وثالثها: أن «حصل» يتعدى للظرف من الزمان، والظرف من المكان، فيكون هذا الكتاب محصولا فيه، ولا شك أنه كذلك؛ لأنه مكان حصل فيه العلم مسطورا لمن يقرؤه.
ورابعها: أنه يتعدّى للمفعول من أجله، فتقول: حصل له أى لأجله، فيكون هذا الكتاب حصل العلم لأجله، ولا شك أنه كذلك؛ لأن مصنفه لما أراد وضعه حصَّل، واستحضر في نفسه علما كثيرا لأجل وضعه.
فهذه وجوه أربعة، وعلى الثلاثة الأخيرة منها سؤال وهو: أن اسم المفعول متى كان له صلة من حرف جر، فلا بد وأن ينطق به معه، فلا تقول: زيد ممرور وتسكت، بل تقول: ممرور به، وكذلك مدخول عليه؛ لأن اسم المفعول في تقدير ما لم يسم فاعله، والذي يقام مقام الفاعل هو ذلك المضمر المجرور فلا يجوز حذفه، وقد جوزوه لقوله تعالى: ﴿إن العهد كان مسؤولا﴾، وقوله: ﴿في ليلة مباركة﴾ أى فيها، وقوله تعالى: ﴿شجرة مباركة﴾ أى فيها، فإن (بارك) لا يتعدى إلا بحرف جر.
وأجابوا عن قول الأولين بأن حرف الجر حذف على السعة، فاستتر الضمير في الصفة كما حذف في قوله تعالى: ﴿افعل ما تؤمر﴾ و﴿اصدع بما تُؤمر﴾ حذف حرف الجر فصار تؤمر، ثم حذف وهو منصوب؛ لأن المجرور لا يحذف على الصحيح لما فيه من حذف كلمتين، وقيل: حذفا معا، كذلك حذف حرف الجر هاهنا، ويؤكده إجماع النحاة على قولهم: جار ومجرور، وهو مجرور إليه أى: انجر له المصدر بالحرف، فإذا قلت: مررت بزيد انجرَّ المرور لزيد بالباء، ومع ذلك لم يقولوا: مجرور إليه، بل سكتوا عن إليه.
1 / 104
وكذلك قال صاحب «الجمل»،:كان متصرفه، تقول: كان فهو كائن ومكون، ومعناه فيه، ولم يذكر فيه.
وكذلك قال سيبويه في «كتابه» كما نقله صاحب «الجمل» عنه، ولم يذكر فيه، فتخرج هذه الأجوبة على هذا.
البحث الرابعُ
أخبرنى «الشيخ شمس الدين الِخسْرُوشَاهي» أنّ الإمام فخر الدين
1 / 105