المقدمات
مقدمة المحقق
...
مقدمة المحقق:
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومَن يُضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] .
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١] .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١] .
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مقدمة / 1
أما بعد؛ فقد مضت حركة الاجتهاد في الدين؛ قوية سديدة، مطردة نامية، خصبة الإنتاج، ميمونة الولائد؛ من منتصف القرن الثاني، حيث بدأ استقرار المذاهب بوضع الأصول، وتمييز العام منها الجامع بين المذاهب المختلفة، والخاص الذي ينفرد به مذهب عن مذهب آخر، وتتابع تولد المذاهب إلى منتصف القرن الرابع، فكلما قطع واحد منها دور التأصيل على يد مؤسسه ومتخذ أصوله؛ دخل في دور التفريع، وهو دور الاجتهاد المقيد؛ فتلاحقت المذاهب على دور التفريع إلى استهلال القرن الخامس، وهنالك تمحض الفقه لعمل جديد هو عمل التطبيق بتحقيق الصور وضبط المحامل؛ فكان اجتهاد جديد هو الاجتهاد في المسائل، ثم دخل الفقه في أوائل القرن السادس دون الترجيح، وهو دور اجتهاد نظري، يعتمد درس الأقوال وتمحيصها والاختيار فيها بالترجيح والتشهير، حتى انتهى ذلك الاختيار إلى عمل تصفية، برز في دور التقنين، بتأليف مختصرات محررة على طريقة الاكتفاء بأقوال تثبت، هي الراجحة المشهورة، وأقوال تلغى هي التي ضعفها النظر في الدور الماضي باعتبار أسانيدها أو باعتبار مداركها أو باعتبار قلة وفائها بالمصلحة التي تستدعيها مقتضيات الأحوال.
وبذلك وقف سير الفقه عند تلك المختصرات، وأقبل الفقهاء يجمعون دراساتهم حول المختصرات، مقتصرين في تخريج المسائل عليها في حال أن صورا من الوقائع الحادثة التي لم تشتمل تلك المختصرات على نصوص أحكامها كانت تتعاقب ملحة في طلب الأجوبة التي تحل مشاكلها، والأحكام التي تقرر وجهة السير فيها.
فكان ذلك ملفتا أنظار الفقهاء إلى ضيق النطاق الالتزامي الذي ضربوه على أنفسهم باقتصار على المختصرات، وحاديا بهم إلى الرجوع إلى المجال الأوسع: مجال الأقوال العديدة، والآراء المتباينة داخل كل مذهب، ذلك
مقدمة / 2
المجال الذي لم يزل يستفحل به الهجران منذ القرن السادس.
وبتلك الرجعة التي خرج بها الفقه عن نطاق الالتزام؛ وجد الفقهاء أنفسهم في وضع حرج دقيق، من حيث إن المجتمع الإسلامي بما شاع فيه من الضعف والانحلال قد أخذ ينزلق خارج نطاق الحدود والأخلاق الشرعية؛ حتى أصبحت صور الحياة الفردية والاجتماعية مختلفة في نسب متفاوتة عن المُثُل العليا التي رسمتها أحكام الدين الإسلامي.
ومن حيث إن الفقيه الذي يضطلع بواجبه في تقويم الحياة الفردية والاجتماعية على مبادئ الدين وتعاليمه يكون بين أمرين:
إما أن يحاول حمل الناس على الطريقة الملتزمة والأحكام التي تعاقبت الأجيال منذ قرنين وأكثر على احترامها بحرمة الدين والانكسار من الخروج عنها مخالفة وعصيانا؛ فيكون في حملهم على ذلك من أعنات المكلفين، وتحجير الواسع، والتزام ما لا يلزم ما لا يرضاه لنفسه وللناس الفقيه الموفق.
وإما أن يجر الفقيه عامة الناس وراءه إلى المجال الأوسع الذي يصبو إليه؛ حيث الاختلاف، والأنظار، وأعمال المناسبات والضرورات؛ فيكون قد جرأهم على ما كانوا مشفقين منه، مستعظمين لأمره، غير مستهترين فيه؛ من مخالفة الأحكام التي عرفوها ودانوا بها، وبذلك ينفتح للأهواء باب يلج منه كل إنسان إلى اختيار ما يوافق ميله، وينسجم مع حالته؛ فيصبح الدين أمرا نسبيا إضافيا، يختلف عند كل شخص أو جماعة عما هو عليه عند شخص آخر أو جماعة آخرين؛ حتى تختل الشريعة وتنحل عراها.
لا سيما وقد ألف الناس أمورا شائعة بينهم لم يزالوا يألفونها والعلماء ينكرونها، وهي التي يشنع العلماء على الناس أخذهم بها، باعتبار كونها من البدع على النحو الذي أورده أبو بكر الطرطوشي، فإذا فتح باب الاختيار والخروج عن
مقدمة / 3
الأحكام الفقهية المألوفة، والحكم على بعض الأشياء بالحسن والمشروعية، مع أن السلف لم يحسنوها ولم يقروا مشروعيتها؛ فإنهم لا يلبثون أن يجروا البدع ذلك المجرى، ويتأولوا لها أوجها تئول بها إلى الحسن والمشروعية؛ فكيف يستطاع بعد ذلك تغيير المنكر ومقاومة البدعة؟!
تلك هي دقة الموقف الحرج الذي وقفه الفقهاء في القرن الثامن، وذلك هو سر البطولة الفكرية التي تمثلت في أول متحرك للخروج بالفقه وأهله من ذلك الموقف الحرج الدقيق، وهو: الإمام أبو إسحاق الشاطبي١.
التعريف بكتاب الموافقات٢:
لما كان الكتاب العزيز هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وكانت السنة راجعة في معناها إليه؛ تُفَصِّل مجمله، وتُبيِّن مشكله، وتبسط موجزه؛ كان لا بد -لِمُريد اقتباس أحكام هذه الشريعة بنفسه- من الرجوع إلى الكتاب والسنة، أو إلى ما تفرع عنهما بطريق قطعي من الإجماع والقياس.
ولما كان الكتاب والسنة واردين بلغة العرب، وكانت لهم عادات في الاستعمال، بها يتميز صَرِيحِ الْكَلَامِ وَظَاهِرِهِ وَمُجْمَلِهِ، وَحَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَعَامِّهِ وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ونصه وفحواه، إلى غير ذلك؛ كان لا بد -لطالب الشريعة من هذين الأصلين- أن يكون على علم بلسان العرب في مناحي خطابها، وما تنساق إليه أفهامُها في كلامها؛ فكان حذق اللغة العربية بهذه الدرجة ركنا من أركان الاجتهاد؛ كما تقرر ذلك عند عامة الأصوليين، وفي مقدمتهم الإمام الشافعي ﵁ في "رسالة الأصول".
_________
١ انظر: "أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي" "٧٠-٧٢" للشيخ محمد الفاضل بن عاشور.
٢ ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات".
مقدمة / 4
هذه الشريعة المعصومة ليست تكاليفها موضوعة حيثما اتفق لمجرد إدخال الناس تحت سُلطة الدين، بل وُضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام مصالحهم في الدين والدنيا معا، وروعي في كل حُكم منها:
إما حفظ شيء من الضروريات الخمس١ "الدِّينُ، والنفس، والعقل، والنسل، والمال"، التي هي أسس العمران المرعية في كل ملة، والتي لولاها لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، ولفاتت النجاة في الآخرة.
وإما حفظ شيء من الحاجيات؛ كأنواع المعاملات، التي لولا ورودها على الضروريات لوقع الناس في الضيق والحرج.
وإما حفظ شيء من التحسينات، التي ترجع إلى مكارم الخلاق ومحاسن العادات.
وإما تكميل نوع من النواع الثلاثة بما يُعين على تحققه.
ولا يخلو بابٌ من أبواب الفقه -عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها- من رعاية هذه المصالح، وتحقيق هذه المقاصد، التي لم توضع الأحكام إلا لتحقيقها.
ومعلوم أن هذه المراتب الثلاث تتفاوت في درجات تأكد الطلب لإقامتها، والنهي عن تعدي حدودها.
وهذا بحرٌ زاخر، يحتاج إلى تفاصيل واسعة، وقواعد كلية، لضبط مقاصد الشارع فيها "من جهة قصده لوضع الشريعة ابتداء، وقصده في وضعها للأفهام بها، وقصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وقصده في دخول المكلف تحت حكمها".
_________
١ في الأصل: "الخمسة".
مقدمة / 5
تحقيق هذه المقاصد، وتحرِّي بسطها، واستقصاء تفاريعها، واستثمارها من استقراء موارد الشريعة فيها؛ هو معرفة سر التشريع، وعلم ما لا بد منه لمن يحاول استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.
إذ إنه لا يكفي النظر في هذه الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا؛ لتضاربت بين يديه الجزئيات، وعارض بعضها بعضا في ظاهر الأمر، إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشارع، ليعرف به ما يأخذ منها وما يدع؛ فالواجب إذًا اعتبار الجزئيات بالكليات، شَأْنَ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ كُلِّيَّاتِهَا فِي كُلِّ نَوْعٍ من أنواع الموجودات.
وإلى هذا أشار الغزالي فيما نقله عن الشافعي، بعد بيان مفيد فيما يُراعيه المجتهد في الاستنباط؛ حيث قال: "ويُلاحظ القواعد الكلية أولا، ويقدِّمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل؛ فتُقدَّم قاعدة الرَّدْع، على مراعاة الاسم الوارد في الجزئي".
ومن هذا البيان عُلِم أن لاستنباط أحكام الشريعة رُكْنَين:
أحدهما: علم لسان العرب.
وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها.
أما الركن الأول؛ فقد كان وصفا غريزيا في الصحابة والتابعين من العرب الخلص، فلم يكونوا في حاجة لقواعد تضبطه لهم، كما أنهم كسبوا الاتصاف بالركن الثاني من طول صحبتهم لرسول الله ﷺ ومعرفتهم الأسباب التي ترتب عليها التشريع، حيث كان ينزل القرآن وتردُ السنة نجوما، بحسب الوقائع مع صفاء الخاطر؛ فأدركوا المصالح، وعرفوا المقاصد التي راعاها الشارع في التشريع، كما يعرف ذلك من وقف على شيء من محاوراتهم عند أخذ رأيهم واستشارة الأئمة لهم في الأحكام الشرعية التي كانوا يتوقفون فيها.
مقدمة / 6
وأما من جاء بعدهم ممن لم يحرز هذين الوصفين؛ فلا بد له من قواعد تضبط له طريق استعمال العرب في لسانها، وأخرى تضبط له مقاصد الشارع في تشريعه للأحكام، وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة بين مقل ومكثر، وسموها "أصول الفقه".
ولما كان الركن الأول هو الحذق في اللغة العربية؛ أدرجوا في هذا الفن ما تمس إليه حاجة الاستنباط بطريق مباشر مما قرره أئمة اللغة، حتى إنك لترى هذا النوع من القواعد هو غالب ما صُنف في أصول الفقه، وأضافوا إلى ذلك ما يتعلق بتصور الأحكام، وشيئا من مقدمات علم الكلام ومسائله.
وكان الأجدر -في جميع ما دونوه- بالاعتبار من صلب الأصول هو ما يتعلق بالكتاب والسنة من بعض نواحيهما، ثم ما يتعلق بالإجماع والقياس والاجتهاد.
ولكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالا؛ فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، اللهم إلا إشارة وردت في باب القياس عند تقسيم العلة بحسب مقاصد الشارع وبحسب الإفضاء إليها، وأنها بحسب الأول ثلاثة أقسام: ضروريات، وحاجيات، وتحسينات ... إلخ، مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جلبت إلى الأصول من علوم أخرى.
وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك، دائر بين تلخيص وشرح، ووضع له في قوالب مختلفة.
وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه؛ حتى هيأ الله ﷾ أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن
مقدمة / 7
الهجري لتدارك هذا النقص، وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل؛ فحلل هذه المقاصد إلى أربعة أنواع، ثم أخذ يفصل كل نوع منها وأضاف إليها مقاصد المكلف في التكليف، وبسط هذا الجانب من العلم في اثنتين وستين مسألة وتسعة وأربعين فصلا من كتابه "الموافقات"، تجلى بها كيف كانت الشريعة مبنية على مراعاة المصالح، وأنها نظام عام لجميع البشر دائم أبدي لو فرض بقاء الدنيا إلى غير نهاية؛ لأنها مراعى فيها مجرى العوائد المستمرة، وأن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد ليس اختلافا في الخطاب الشرعي نفسه، بل عند اختلاف العوائد ترجع كُلُّ عَادَةٍ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ يُحكمُ بِهِ عليها، وأن هذه الشريعة -كما يقول- خاصيتها السماح، وشأنها الرفق، تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ؛ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ؛ فهيما وغبيا.
المباحث التي أغفلوها فيما تكلموا عليه١:
لم تقف به الهمة في التجديد والعمارة لهذا الفن عند حد تأصيل القواعد وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصل باستقرائها إلى استخراج درر غوال لها أوثق صلة بروح الشرعية، وأعرق نسب بعلم الأصول؛ فوضع في فاتحة كتابه ثلاث عشرة قاعدة، يتبعها خمسة فصول جعلها لتمهيد هذا العلم أساسا، ولتمييز المسائل التي تعتبر من الأصول نبراسا، ثم انتقل منها إلى قسم الأحكام الخمسة الشرعية والوضعية، وبحث فيها من وجهة غير الوجهة المذكورة في كتب الأصول، وأمعن بوجه خاص في المباح، والسبب، والشرط، والعزائم، والرخص.
_________
١ ما تحته من مقدمة الشيخ عبد الله دراز أيضا.
مقدمة / 8
وناهيك في هذا المقام أنه وضع في ذلك ربع الكتاب، تصل منه إلى علم جم، وفقه في الدين، وقد رتب عليه في قسم الأدلة قواعد ذات شأن في التشريع، وهناك يبين ابتناء تلك القواعد على ما قرره في قسم الأحكام؛ حتى لترى الكتاب آخذا بعضه بحجز بعض.
ثم إن عرائس الحكمة ولباب الأصول، التي رسم معالمها وشد معاقلها في مباحث الكتاب والسنة، ما كان منها مشتركا وما كان خاصا بكل منهما، وعوارضهما؛ من الأحكام، والتشابه، والنسخ، والأوامر، والنواهي، والخصوص، والعموم، والإجمال، والبيان، هذه المباحث التي فتح الله عليه بها لم تسلس له قيادها، وتكشف له قناعها؛ إلا باتخاذه القرآن الكريم أنيسه، وجعله سميره وجليسه على ممر الأيام والأعوام، نظرا وعملا، وباستعانته على ذلك بالاطلاع والإحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في كلام الأئمة السابقين، والتزود من آراء السلف المتقدمين، مع ما وهبه الله من قوة البصيرة بالدين، حتى تشعر وأنت تقرأ في الكتاب كأنك تراه وقد تسنم ذروة طود شامخ، يشرف منه على موارد الشريعة ومصادرها، يحيط بمسالكها، ويبصر بشعابها، فيصف عن حس، ويبني قواعد عن خبرة، ويمهد كليات يشدها بأدلة الاستقراء من الشريعة؛ فيضم آية إلى آيات، وحديثا إلى أحاديث، وأثرا إلى آثار؛ عاضدا لها بالأدلة العقلية والوجوه النظرية حتى يدق عنق الشك، ويسد مسالك الوهم، ويظهر الحق ناصعا بهذا الطريق الذي هو نوع من أنواع التواتر المعنوي، ملتزما ذلك في مباحثه وأدلته حتى قال بحق: إن هذا المسلك هو خاصية كتابه.
ولقد أبان في هذه المسائل منزلة الكتاب من أدلة الشريعة، وأنه أصل لجميع هذه الأدلة، وأن تعريفه للأحكام كلي، وأنه لا بد له من بيان السنة، كما بيَّن أقسام العلوم المضافة إلى القرآن، وما يحتاج إليه منها في الاستنباط وما لا يحتاج إليه، وتحديد الظاهر والباطن من القرآن، وقسم الباطن الذي يصح
مقدمة / 9
الاستنباط منه والذي لا يصح الاستنباط منه، وأثبت أن المكي اشتمل على جميع كليات الشريعة، والمدني تفصيل وتقرير له، وأنه لا بد من تنزيل المدني على المكي، وأن النسخ لم يرد على الكليات مطلقا، وإنما ورد على قليل من الجزئيات لأسباب مضبوطة، وحدد الضابط للحد الأعدل الأوسط في فهم الكتاب العزيز الذي يصح أن يبنى عليه اقتباس الأحكام منه، ثم بين رتبة السنة ومنزلتها من الكتاب، وأنها لا تخرج في أحكام التشريع عن كليات القرآن١، وأثبت ذلك كله بما لا يدع في هذه القواعد شبهة.
وقد جعل تمام الكتاب باب الاجتهاد ولواحقه؛ فبيَّن أنواع الاجتهاد، وما ينقطع منها، وما لا ينقطع إلى قيام الساعة، وأنواع ما ينقطع، وما يتوقف منها على الركنين -حذق اللغة العربية حتى يكون المجتهد في معرفة تصرفاتها كالعرب، وفهم مقاصد الشريعة على كمالها- وما يتوقف منها على الثاني دون الأول، وما لا يتوقف على واحد منهما.
ثم أثبت أن الشريعة ترجع في كل حكم إلى قول واحد، مهما كثر الخلاف بين المجتهدين في إدراك مقصد الشارع في حكم من الأحكام، وبنى على هذا الأصل طائفة من الكليات الأصولية، ثم بين محال الاجتهاد، وأسباب عروض الخطأ فيه ... إلخ.
وفيما ذكرناه إشارة إلى قطرة من ساحل كتاب "الموافقات" الذي لو اتخذ
منارا للمسلمين بتقريره بين العلماء، وإذاعته بين الخاصة؛ لكان منه مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطفلين على موائد الشريعة المطهرة، يتبجحون بأنهم أهل للاجتهاد مع خلوهم من كل وسيلة، وتجردهم من الصفات التي تدنيهم من هذا
_________
١ اعتنى الشيخ العلامة عبد الغني عبد الخالق بمناقشة أدلة المصنف حول هذا الزعم عناية دقيقة فائقة، وذكرنا مناقشاته عند كلام المصنف في المجلد الأخير من كتابنا هذا
مقدمة / 10
الميدان؛ سوى مجرد الدعوى، وتمكن الهوى، وترك أمر الدين فوضى بلا رقيب.
فترى فريقا ممن يستحق وصف الأمية في الشريعة يأخذ ببعض جزئياتها يهدم به كُلِّيَّاتِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا إِلَى مَا ظَهَرَ له ببادئ الرأي من غير إحاطة بمقاصد الشارع لتكون ميزانا في يده لهذه الأدلة الجزئية، وفريقا آخر يأخذ الأدلة الجزئية مأخذ الاستظهار على غرضه في النازلة العارضة؛ فيحكِّم الهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تبعا لغرضه، من غير إحاطة بمقاصد الشريعة ولا رجوع إليها رجوع الافتقار، ولا تسليم لما روي عن ثقات السلف في فهمها، ولا بصيرة في وسائل الاستنباط منها، وما ذلك إلا بسبب الأهواء المتمكنة من النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل، واطراح النصفة وعدم الاعتراف بالعجز، مضافا ذلك كله إلى الجهل بمقاصد الشريعة والغرور بتوهم بلوغ درجة الاجتهاد١، وإنها لمخاطرة في اقتحام المهالك، أعاذنا الله.
ونعود إلى الموضوع؛ فنقول: إن صاحب "الموافقات" لم يذكر في كتابه مبحثا واحدا من المباحث المدونة في كتب الأصول؛ إلا إشارة في بعض الأحيان لينتقل منها إلى تأصيل قاعدة، أو تفريع أصل، ثم هو مع ذلك لم يغض من فضل المباحث الأصولية، بل تراه يقول في كثير من مباحثه: إذا أضيف هذا إلى ما تقرر في الأصول أمكن الوصول إلى المقصود.
_________
١ نجد محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" "٧/ ١٩٧-١٩٨" ينظر نظرة أخرى لهذا الموقف السلبي من "المقاصد"، ويعتذر لهم بأنهم كانوا خائفين على الشريعة من الهدم، ويذكر أنهم "فروا من تقرير هذا الأصل تقريرا صريحا -مع اعتبارهم كلهم له- خوفا من اتخاذ أئمة الجور إياه حجة لاتباع أهوائهم، وإرضاء استبدادهم في أموال الناس ودمائهم؛ فرأوا أن يتقوا ذلك بإرجاع جميع الأحكام إلى النصوص ولو بضرب من الأقيسة الخفية؛ فجعلوا مسألة المصالح المرسلة من أدق مسائل العلة في القياس".
مقدمة / 11
وجملة القول أن كلا مما ذكره في كتب الأصول، وما ذكره في "الموافقات"؛ يعتبر كوسيلة لاستنباط الأحكام من أدلة الشريعة؛ إلا أن القسم المذكور في الأصول على كثرة تشعبه، وطول الحجاج في مسائله، تنحصر فائدته في كونه وسيلة؛ حتى لطالما أوردوا على المشتغلين به الاعتراض بأنه لا فائدة فيه إلا لمن يبلغ درجة الاجتهاد؛ فكان الجواب الذي يقال دائما: إن فائدته لغير المجتهد أن يعرف كيف استنبطت الأحكام، ولكن التسليم بهذا الجواب يحتاج إلى تسامح وإغضاء كثير؛ لأنه إنما يعرف به بعض أجزاء وسيلة الاستنباط مفككة منثورة، والبعض الآخر -وهو المتعلق بركن معرفة مقاصد الشريعة- فاقد، وما مثله في هذه الحالة إلا كمثل من يريد أن يعلمك صنعة النساجة فيعرض عليك بعض أجزاء آلة النسيج محلولة مبعثرة الأجزاء، ولا تخفى ضئولة تلك الفائدة.
أما القسم الذي ذكره الشاطبي في الأجزاء الأربعة من كتابه؛ فهو وإن كان كجزء من وسيلة الاستنباط، يعرف به كيف استنبط المجتهدون أيضا؛ إلا أنه في ذاته فقه في الدين، وعلم بنظام الشريعة، ووقوف على أسس التشريع، فإن لم نصل منه إلى الاتصاف بصفة الاجتهاد، والقدرة على الاستنباط؛ فإنا نصل منه إلى معرفة مقاصد الشارع، وسر أحكام الشريعة، وإنه لهدى تسكن إليه النفوس، وإنه لنور يشرق في نواحي قلب المؤمن؛ يدفع عنه الحيرة، ويطرد ما يلم به من الخواطر، ويجمع ما زاغ من المدارك؛ فلله ما أفاد الشريعة الإسلامية هذا الإمام ﵁!
السبب في عدم تداول الكتاب١:
بقي أن يقال: إذا كانت منزلة الكتاب كما ذكرت، وفضله في الشريعة
_________
١ ما تحته مأخوذ من مقدمة الشيخ عبد الله دراز على "الموافقات".
مقدمة / 12
على ما وصفت؛ فلماذا حجب عن الأنظار طوال هذه السنين ولم يأخذ حظه من الإذاعة، بَلْهَ العكوف على تقريره، ونشره بين علماء الشرق، فلو لم تكن الكتب المشتهرة أكثر منه فائدة ما احتجب واشتهرت؟
وجوابه: أن هذا منقوض؛ فإنه لا يلزم من الشهرة عدمها فضل ولا نقص، فالكتب عندنا كالرجال؛ فكم من فاضل استتر، وعاطل ظهر؟ ويكفيك تنبيها على فساد هذه النظرية ما هو مشاهد؛ فهذا كتاب "جمع الجوامع بشرح المحلى" بقي قرونا طويلة، هو كتاب الأصول الوحيد الذي يدرس في الأزهر ومعاهد العلم بالديار المصرية، مع وجود مثل "الإحكام" للآمدي، وكتابي "المنتهى" و"المختصر" لابن الحاجب، و"التحرير"، و"المنهاج" و"مسلم الثبوت"، وغيرها من الكتب المؤلفة في نفس القسم الذي اشتمل عليه "جمع الجوامع".
وقد نسجت عليها عناكب الإهمال؛ فلم يبرز بعضها للتداول والانتفاع بها إلا في عهدنا الأخير، ولا يختلف اثنان في أن "جمع الجوامع" أقلها غناء، وأكثرها عناء.
وإنما يرجع خمول ذكر الكتاب إلى أمرين١:
أحدهما: المباحث التي اشتمل عليها.
وثانيهما: طريقة صوغه وتأليفه.
_________
١ يضاف إليهما ما انتشر من أساليب عقيمة في درس العلوم وتحصيلها بداية من القرن التاسع؛ فقد أخذ الناس يعكفون على "المختصرات" يحفظونها، ويرددون أقوال غيرهم، وتركوا الاجتهاد والبحث والابتكار.
انظر: "أليس الصبح بقريب" "٧٩" لمحمد الطاهر بن عاشور، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص١٠٧" لحمادي العبيدي.
مقدمة / 13
فالأول كون هذه المباحث مبتكرة مستحدثة لم يُسبق إليها المؤلف كما أشرنا إليه، وجاءت في القرن الثامن بعد أن تم للقسم الآخر من الأصول تمهيده وتعبيد طريقه، وألفه المشتغلون بعلوم الشريعة وتناولوه بالبحث والشرح والتعلم والتعليم، وصار في نظرهم هو كل ما يطلب من علم الأصول؛ إذ إنه عندهم كما قلنا وسيلة الاجتهاد الذي لم يتذوقوه، فلا يكادون يشعرون بنقص في هذه الوسيلة، فلم تتطاول همة من سمع منهم بالكتاب إلى تناوله وإجهاد الفكر في مباحثه، واقتباس فوائده، وضمها إلى ما عرفوا، والعمل على إلفها فيما ألفوا، ولفْتِ طلاب العلم إليها، وتحريك هممهم وإعانتهم عليها.
والثاني أن قلم أبي إسحاق ﵀ وإن كان يمشي سويا ويكتب عربيا نقيا؛ كما يشاهد ذلك في كثير من المباحث التي يخلص فيها المقام لذهنه وقلمه؛ فهناك ترى ذهنا سيالا، وقلما جوالا، قد تقرأ الصفحة كاملة لا تتعثر في شيء من المفردات ولا أغراض المركبات؛ إلا أنه في مواطن الحاجة إلى الاستدلال بموارد الشريعة والاحتكام إلى الوجوه العقلية، والرجوع إلى المباحث المقررة في العلوم الأخرى، يجعل القارئ ربما ينتقل في الفهم من الكلمة إلى جارتها، ثم منها إلى التي تليها، كأنه يمشي على أسنان المشط؛ لأن تحت كل كلمة معنى يشير إليه وغرضا يعول في سياقه عليه؛ فهو يكتب بعد ما أحاط بالسنة، وكلام المفسرين، ومباحث الكلام، وأصول المتقدمين، وفروع المجتهدين، وطريق الخاصة من المتصوفين، ولا يسعه أن يحشو الكتاب بهذه التفاصيل؛ فمن هذه الناحية وجدت الصعوبة في تناول الكتاب، واحتاج في تيسير معانيه وبيان كثير من مبانيه إلى إعانة مُعانيه، ومع هذا؛ فالكتاب يعين بعضه على بعض؛ فتراه يشرح آخره أوله وأوله آخره.
مقدمة / 14
مصادر الشاطبي وموارده في الكتاب:
الشاطبي ﵀ واسع الاطلاع، ينقل من كثير من الكتب، ولكنه قليل التصريح بأسمائها١، ويميل إلى الإلغاز والإبهام في ذلك، ولا سيما في كتابنا هذا وكتابه الآخر "الاعتصام"، خلافا لـ"الإفادات والإنشادات".
والإمام مالك وكتبه وكتب مذهبه وأصحابه٢ هي أكثر ما يذكر في كتابه هذا؛ فهو ينقل كثيرا من "الموطأ"، وصرح٣ به مرارا؛ كما في "٢/ ١١٦، ٢٩٥، ٤/ ١١٢، ١٣١، ٣٢٠ ... "، ومن شروحه كـ"القبس" لابن العربي كما في "٣/ ١٩٧، ١٩٨، ١٩٩، ٢٠١ ... "، و"المنتقى" للباجي كما في "٤/ ١٠٩"، ولم يصرح بهما.
وينقل أيضا من "المدونة" وصرح بذلك في موطنين "١/ ٣٨٧، ٣/ ٤٩٨"، ونقل منها ولم يصرح بها في مواطن، ومن "العتبية" وصرح بها في "٢/ ٣٦١ و٣/ ١٤٧، ١٥٨، ٢٧١ و٤/ ١١٠ و٥/ ١٩٨"، ومن شرحها "البيان والتحصيل" ولم يصرح به، ونقل منه في مواطن كثيرة منها "٣/ ٤٩٨ و٤/ ١١٠".
ونقل أيضا من كثير من كتب المالكية؛ كـ"الموَّازية" في "٥/ ٨٥"، و"نوازل ابن رشد" في "٥/ ١٠٠"، و"مختصر ما ليس في المختصر" في "١/ ٢٧٣"، و"الكافي" في "١/ ٣٨٧"، و"المبسوطة" في "١/ ٣٨٦، ٣٨٧"، و"مقدّمات ابن رشد" في "١/ ١٨٧"، و"الأموال" للداودي "١/ ١٨٤"،
_________
١ مع ملاحظة أنه يعزو الأقوال لقائليها إلا في القليل النادر.
٢ على اختلاف فنونها؛ كأحكام للقرآن، أو شرح للحديث، أو الفقه، أو الأصول ...
٣ ونقل منه ولم يصرح به مرارا أيضا، والظاهر أنه ينقل من روايات كثيرة منه؛ فها هو يعزو حديثا إليه في "٤/ ٣٢٠"، ولم أظفر به في رواياته الخمس المطبوعة للآن.
مقدمة / 15
وصرح بأسماء هذه الكتب.
ونقل الشاطبي -وأكثر جدا- من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض -وصرح به في موطنين فقط، هما في "٣/ ٨٤ و٥/ ٩٦"- ومن "الرسالة" للقشيري، ومن "جامع بيان العلم"١ لابن عبد البر.
وهو ينقل من هذه الكتب أخبار وتراجم وأقوال الصحابة والتابعين، وكذا أخبار مالك وأصحابه، وأخبار الزهاد والعابدين، وقصصهم وحكاياتهم، ونقل من "جامع بيان العلم" أيضا كثيرا من الأحاديث والأخبار والآثار، ومن كتاب ابن عبد البر الآخر "الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء"؛ كما تراه في "٣/ ٢٠٣"، علما بأنه لم يصرح قط بأسماء هذه الكتب.
ونقل الشاطبي من كثير من كتب التفسير وأحكام القرآن وفضائله وناسخه ومنسوخه ومشكله؛ مثل: "أحكام القرآن" لإسماعيل بن إسحاق وصرح به في "٥/ ٣٣"، و"أحكام القرآن" لابن العربي وصرح به في "٥/ ١٩٦"، ونقل منه ولم يصرح به في مواطن كثيرة منها "٢/ ٢٧٣ و٤/ ١٩٥"، ونقل مواطن من "تفسير سهل بن عبد الله التستري"؛ كما تراه في "٤/ ١٦٢، ٢٤٢، ٢٤٥"، وكذا من كتاب "فضائل القرآن" لأبي عبيد وصرح بذلك في "١/ ٥١"، ونقل منه ولم يصرح في "٤/ ١٤٨، ١٧٢"، ومن "الناسخ والمنسوخ" لابن العربي وصرح به في "١/ ٣٨٨ و٣/ ٣٤٠"، ولأبي عُبيد ولابن النحاس؛ كما تراه لهما في "٣/ ٣٤٠"، ولمكي بن أبي طالب؛ كما تراه في "٣/ ٣٤٦، ٣٦٣" ولم يصرح بأسمائها، و"مشكل القرآن" لابن قتيبة وصرح به في "٥/ ١٥٠" ولم يصرح به في "٢/ ٢٠٧".
أما كتب الحديث والرواية والأخبار والرجال؛ فهو ينقل من دواوين السنة
_________
١ انظر مثلا: "٤/ ٧٥ و٥/ ١٠٧، ١٢٢-١٢٣".
مقدمة / 16
المشهورة؛ مثل: "الصحيحين"، و"الموطأ"، و"سنن أبي داود"، و"سنن الترمذي"، و"سنن النسائي".
وينقل أيضا من "مسند البزار"، و"جامع الإسماعيلي المخرج على صحيح البخاري"، و"الجهاد" لابن حبيب، و"مشكل الحديث"١ لابن قتيبة، و"فوائد الأخبار" للإسكاف، و"مشكل الآثار"٢ للطحاوي، و"المؤتلف والمختلف" لعبد الغني بن سعيد الأزدي، و"الدلائل"٣ لثابت، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض٤، وصرح بأسماء هذه الكتب جميعا، وترى مواطن ذلك في فهرس الكتب في المجلد السادس.
وقد ظفرتُ من خلال التحقيق بنقولات للشاطبي في كتابه هذا من كتب الحديث وشروحاته لم يصرِّح بأسمائها؛ مثل: "القبس"، و"المنتقى" -كلاهما شرح لـ"الموطأ"، ومضى بيان مواطن ذلك- و"المعلم بفوائد مسلم" للمازري في "٣/ ٤٥٦، ٤٦٤-٤٦٥ و٥/ ٢٩٠، ٤١٨، ٤٢٠"، و"شرح النووي على صحيح مسلم" في "٣/ ٧٠"، و"تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري في "٥/ ٢٨٨"، و"إعلام الحديث شرح البخاري" للخطابي في "٥/ ٩٣".
ووجدته ينقل أحاديث وآثارا من "الشفا" للقاضي عياض، و"البدع والنهي عنها" لابن وضاح، و"الإحياء" للغزالي.
والغزالي من أكثر الأعلام المذكورين في كتاب الشاطبي هذا، وكتبه التي
_________
١ ونقل منه ولم يصرح باسمه في "٤/ ٢٢٦، ٢٣٤".
٢ ونقل منه ولم يصرح باسمه في "٣/ ٢٧٥".
٣ انظر عنه: كتابنا "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" "رقم ٥٣٦".
٤ ونقل منه في "٥/ ٢٩٠" ولم يصرح باسمه.
مقدمة / 17
صرح بالنقل منها كثيرة؛ منها: "الإحياء" -وأكثر من النقل منه- و"إلجام العوام"، و"جواهر القرآن"، و"المستظهرية" -أو "فضائح الباطنية"- و"مشكاة الأنوار"، و"المنقذ من الضلال"١، و"بعض كتبه" في "٥/ ٢٨٩"، وهو من أكثر من يذكرهم من الأصوليين، وينقل من كتابه "المستصفى" ولم يصرح به٢، ومن "شفاء الغليل" وصرح به في "٥/ ٢٠".
ويليه في الذكر: الرازي، ونقل من كتابه "المحصول" كثيرا٣، وصرح به في موطن واحد فقط هو في "٢/ ٧٦"، و"التنقيح" وصرح به أيضا في "٢/ ٧٦".
ثم الجويني، ونقل منه كثيرا، وصرح بـ"البرهان" مرة واحدة في "١/ ٣٦٤"، و"الإرشاد" كذلك في "٣/ ٥٣٧".
ثم القرافي، ولم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "الفروق"٤ في "١/ ٣٩٠، ٣٩٥ و٤/ ٦٥، ١٠٦"، ومن "نفائس الأصول شرح المحصول" في "٢/ ٦٨-٨٠، ٨٦".
ثم العز ابن عبد السلام، لم يصرح باسم أي كتاب من كتبه، ووجدته ينقل من كتابه "القواعد الكبرى" وقد أبهمه.
وينقل أيضا من "القواعد" لشيخه المقري ولم يصرح باسمه، تراه في "١/ ١١١".
_________
١ انظر مواطن النقل من هذه الكتب في الفهارس آخر الكتاب "فهرس الكتب".
٢ انظر مثلا: "٥/ ٥٤، ٥٥".
٣ مثل "٥/ ١٠٥".
٤ انظر مقارنة بديعة بين "الفروق" و"الموافقات" في: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "١/ ٩٤-٩٥" للأستاذ فتحي الدريني.
مقدمة / 18
ولا ينسى في هذا المقام الإمام الشافعي؛ فإن الشاطبي استفاد منه، ونقل من كتابه العظيم "الرسالة" وصرح به فقط في مرتين "٢/ ١٠٤ و٥/ ٥٦".
ونقل أيضا من كتابه "الأم" ولم يصرح به، وهناك إشارات تنبئ على ذلك، انظر منها: "٢/ ٣٢٤"، واستفاد الشاطبي أيضا من شروحات "الرسالة"، وصرح بأنه وقف على "شرح الرسالة" للقاضي عبد الوهاب في "٣/ ١٢٧".
ونقل الشاطبي أيضا من كتب الباجي وصرح بأسماء بعضها؛ مثل: "أحكام الفصول" في "٥/ ٤٢١" -ونقل منه أيضا في "٥/ ١٠٩، ١١١" ولم يصرح باسمه- و"التبيين لسنن المهتدين" في "٥/ ٨٩".
ونقل عن ابن حزم ولعل ذلك في "النبذ"١ و"مراتب الإجماع"٢، وعن ابن بشكوال، ولعل ذلك في "المنقطعين إلى الله"، وهو مطبوع، ولكن لم أظفر به بعد.
ومن مصادر الشاطبي في كتابه هذا بعض كتب اللغة والأدب؛ كـ"الكتاب" لسيبويه وصرح بالنقل منه في "٥/ ٥٤"، و"الكامل" للمبرد وصرح بالنقل منه في "٤/ ٢٨٣"، و"الخصائص" لابن جني ولم يصرح باسمه، ونقل منه في مواطن منها "٢/ ١٣٣"، و"درة الغواص" أو "مقامات الحريري" وصرح بالنقل منه في "٣/ ٢٨٨".
ونقل أيضا من بعض كتب الفلسفة؛ مثل كتاب ابن رشد "فصل الْمَقَالِ فِيمَا بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْحِكْمَةِ مِنَ الِاتِّصَالِ".
_________
١ انظر: "٤/ ١٨٩".
٢ انظر: "٤/ ٨٢".
مقدمة / 19
ونقل أيضا من بعض كتب الشافعية، ولم أظفر له بنقل من كتب الحنفية أو الحنابلة، وصرح في "٣/ ١٣١" أن هذه الكتب كالمعدومة الوجود في بلاد المغرب.
ومن كتب الشافعية التي نقل منها: "الحاوي الكبير" للماوردي؛ كما في "٤/ ١١١"، ولم يصرح باسمه، ونقل أيضا من "الورع" للصنهاجي فقرات طويلة، ولم يذكر اسمه ولا اسم كتابه؛ كما تراه في التعليق على "١/ ١٧١".
هذه هي المصادر التي ظفرتُ بنقل للشاطبي منها١، ولم أفز بذلك إلا بالمرور على كثير من الكتب، وتقليب آلاف الصفحات، ومضي عشرات الساعات، ولعلي في قابل الأيام أظفر بزوائد فرائد؛ فإن النية متوجهة للعناية بهذا الكتاب حتى بعد طبعه ونشره؛ ليظهر إن شاء الله في طبعات لاحقات مجودا بالقدر الذي ينبغي أن يحتله بين سائر الكتب، وما ذلك على الله بعزيز.
مدح العلماء وثناؤهم على الكتاب:
أجمع مترجمو الشاطبي والباحثون المتأخرون -ولا سيما في علم "مقاصد الشريعة"- على أن الشاطبي هو الإمام الذي فتح الباب واسعا لطلبة العلم وأهله للتطلع إلى أسرار الشريعة وحكمها، ومهد لهم طريق التعامل مع مقاصدها وكلياتها، جنبا إلى جنب مع نصوصها وجزئياتها، بل يكاد٢ هؤلاء أن
_________
١ عدا مجالسه ومناظراته، وصرح ببعضها في كتابنا هذا منها "٤/ ١٣"، وكذا مراسلاته ومكاتباته للعلماء، كما وقع له في مسألة "مراعاة الخلاف".
٢ ظهرت نظرية "المقاصد" قبل الشاطبي على هيئة لمحات وخطرات متناثرة، ثم أخذت تبرز لهذا الفن قواعد، وتتكامل، وتتميز شيئا فشيئا عن قواعد أصول الفقه، واعتمد الشاطبي في كتابه هذا على جهود سبقته لكثير من العلماء، انظر تفصيل ذلك في الكتب التي أفردت "المقاصد" بالدراسة؛ مثل: "مقاصد الشريعة الإسلامية" "ص٨ وما بعد" لابن عاشور، و"مقاصد الشريعة" "ص٤٥ وما بعد" لعلال الفاسي، و"المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" "ص١٤٩ وما بعد" ليوسف العالم، و"الشاطبي ومقاصد الشريعة" "ص١٣٤ وما بعد" لحمادي العبيدي، و"نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي" "ص٢٥٩ وما بعد" لأحمد الريسوني.
١- "نيل الابتهاج" "ص٤٨".
مقدمة / 20