ورأيت سنان بن ثابت بن قرة الحراني حين انتحل ما ليس من صناعته، واستنهج ما ليس من طريقته قد ألف كتابا جعله رسالة إلى بعض إخوانه من الكتاب، واستفتحه بجوامع من الكلام في أخلاق النفس وأقسامها من الناطقة والغضبية والشهوانية، وذكر لمعا من السياسات المدنية مما ذكره أفلاطون في كتابه في السياسة المدنية، وهو عشر مقالات، ولمعا مما يجب على الملوك والوزراء، ثم خرج إلى أخبار يزعم أنها صحت عنده ولم يشاهدها، ووصل ذلك بأخبار المعتضد بالله، وذكر صحبته إياه، وأيامه السالفة معه ثم ترقى إلى خليفة خليفة في التصنيف، مضادة لرسم الإخبار والتواريخ وخروجا عن جملة أهل التأليف، وهو وإن أحسن فيه، ولم يخرجه عن معانيه، فإنما عيبه أنه خرج عن مركز صناعته، وتكلف ما ليس من مهنته، ولو أقبل على علمه الذي انفرد به من علم إقليدس والمقطعات والمجسطى والمحورات، ولو استفتح آراء سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، فأخبر عن الأشياء الفلكية، والآثار العلوية، والمزاجات الطبيعية، والنسب والتأليفات، والنتائج والمقدمات، والصنائع المركبات، ومعرفة الطبيعيات: من الإلهيات، والجواهر والهيآت، ومقادير الأشكال، وغير ذلك من أنواع الفلسفة لكان قد سلم مما تكلفه، وأتى بما هو أليق بصنعته، ولكن العارف بقدره معوز، والعالم بمواضع الخلة مفقود، وقد قال عبد الله بن المقفع: من وضع كتابا فقد استهدف، فإن أجاد فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف .قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعوعي: ولم نذكر من كتب التواريخ والأخبار والسير والآثار إلا ما اشتهر مصنفوها، وعرف مؤلفوها ولم نتعرض لذكر كتب تواريخ أصحاب الأحاديث في معرفة أسماء الرجال وأعصارهم وطبقاتهم ؛ إذ كان ذلك كله أكثر من أن نأتي على ذكره في هذا الكتاب، إذ كنا قد أتينا على جميع تسمية أهل الأعصار من حمله الآثار، ونقلة السير والأخبار، وطبقات أهل العلم من عصر الصحابة، ثم من تلاهم من التابعين، وأهل كل عصر على اختلاف أنواعهم، وتنازعهم في آرائهم: من فقهاء الأمصار وغيرهم من أهل الآراء والنحل والمذاهب والجدل، إلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، في كتابنا المترجم بكتاب أخبار الزمان، وفي الكتاب الأوسط.
المؤلف يذكر أنه أودع كتابه أجزل الفوائد
وقد وسمت كتابي هذا بكتاب مروج الذهب، ومعادن الجوهر؟ لنفاسة ما حواه، وعظم خطر ما استولى عليه: من طوالع بوارع ما تضمنته كتبنا السالفة في معناه، وغرر مؤلفاتنا في مغزاه، وجعلته تحفة للأشراف من الملوك وأهل الدرايات لما قد ضمنته من جمل ما تدعو الحاجة إليه، وتنازع النفوس إلى علمه من دراية ما سلف وغبر في الزمان، وجعلته منبها على أغراض ما سلف من كتبنا، ومشتملا على جوامع يحسن بالأديب العاقل معرفتها، ولا يعذر في التغافل عنها، ولم نترك نوعا من العلوم، ولا فنا من الأخبار، ولا طريقة من الآثار، إلا أوردناه في هذا الكتاب مفصلا، أو ذكرناه مجملا، أو أشرنا إليه بضرب من الإشارات، أو لوحنا إليه بفحوى من العبارات.
المؤلف ينهي عن التصرف في الكتاب ويخوف من ذلك
فمن حرف شيئا من معناه، أو أزال ركنا من مبناه، أو طمس واضحة من معالمه، أو لبس شاهدة من تراجمه، أو غيره، أو بدله، أو بشأنه، أو اختصره، أو نسبه إلى غيرنا، أو أضافه إلى سوانا، فوافاه من غضب الله وسرعة نقمه وفوادح بلاياه ما يعجز عنه صبره، ويحار له فكره، وجعله الله مثلة للعالمين، وعبرة للمعتبرين، واية للمتوسمين، وسلبه الله ما أعطاه، وحال بينه وبين ما أنعم به عليه: من قوة ونعمة مبدع السماوات والأرض، من أي الملك كان والآراء، إنه على كل شيء قدير. وقد جعلت هذا التخويف في أول كتابي هذا وآخره، ليكون رادع المن ميله هوى، أو غلبه شقاء، فليراقب الله ربه، وليحافر منقلبه، فالمدة يسيرة، والمسافة قصيرة، وإلى الله المصير. وهذا حين نبدأ بجمل ما استودعناه هذا الكتاب من الأبواب، وماحوى كل باب منها من أنواع الأخبار، وبالله التوفيق.
الباب الثاني ذكر ما اشتمل عليه الكتاب من الأبواب
مباحث الكتاب
صفحة ٥