وكان السبب في دخول قسطنطين بن هلاني في دين النصرانية والرغبة فيه أن قسطنطين خرج في بعض حروب برجان، أو غيرهم من الأمم، وكانت الحرب بينهم سجالا نحوا من سنة، ثم كانت عليه في بعض الأيام، فقتل من أصحابه خلق كثير، فخاف البوار، فرأى في النوم كأن رماحا نزلت من السماء، فيها عذاب، وأعلاما على رؤوسها صلبان من الذهب والفضة والحديد والنحاس، وأنواع الجواهر والخشب وقيل له: خذ هذه الرماح، وقاتل بها عدوك تنصر، فجعل يحارب بها في النوم، فرأى عدوه منهزما، وقد نصر عليه، وولاه الدبر، فاستيقظ من رقدته، ودعا بالرماح فركب عليها ما ذكرنا، ورفعها في عسكره، وزحف إلى عدوه، فولوا وأخذهم السيف، فرجع إلى مدينة نيقية، وسأل من أهل الخبرة عن تلك الصلبان، وهل يعرفون ذلك في شيء من الآراء والنحل ؟ فقيل له: إن بيت المقدس من أرض الشام مجمع لهذا المذهب، وأخبر بما فعل من قبله من الملوك من قتل النصرانية، فبعث إلى الشام، وإلى بيت المقدس، فحشد له ثلثمائة وثمانية عشر أسقفا، فأتوه وهو بنيقية، فقص عليهم أمره، فشرعوا له دين النصرانية، فهذا هو السنودس الأول، وهو الاجتماع على ما ذكرنا، وقد قيل: إن أم قسطنطين هلاني كانت قد تنصرت وأخفت ذلك عنه قبل هذه الرؤيا. وكان ملك قسطنطين إلى أن هلك إحدى وثلاثين سنة، وفى وجه آخر من التاريخ أنه ملك خمسا وعشرين سنة، وقد أتينا على أخباره وحروبه وخروجه مرتادا لموضع القسطنطينية، ووروده إلى هذا الخليج الآخذ من بحر مايطس ونيطس في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط، وإن خليج القسطنطينية يأخذ من هذا - البحر ، ويجري فيه الماء جريا، ويصب إلى بحر الشام، ومسافة هذا الخليج ثلثمائة وخمسون ميلا، وقيل: أقل من ذلك، وعرضه في الموضع الذي يأخذ من بحر مايطس نحو من عشرة أميال، وهناك عمائر، ومدينة للروم تدعى سباه، تمنع من يرد في هذا البحر من مراكب الروس، وغيرها، ثم يضيق هذا الخليج عند القسطنطينية، فيصير عرضه - وهو موضع العبور من الجانب الشرقي إلى الموضع الغربي الذي فيه القسطنطينية - نحوا من أربعة أميال، وعليه العمائر، وينتهي في ضيقه إلى الموضع المعروف بالأندلس، وهناك جبال وعين ماء كثير، ماؤها موصوف، تعرف بعين مسلمة بن عبد الملك وكان نزولها عليها حين حاصر القسطنطينية، وأتته مراكب المسلمين، وفم هذا الخليج مما يلي بحر الشام، ومنتهى مصبه مضيق، وهناك برج يمنع من فيه من يرد من مراكب المسلمين في الوقت الذي كانت للمسلمين فيه مراكب تغزو الروم، وأما الآن فمراكب الروم تغزو بلاد الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وأخبرني أبو عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي الأزدي - وهو شيخ الثغور الشامية. قديما وحديثا إلى وقتنا هذأ، وهو من أهل التحصيل - أنه لما عبر إلى القسطنطينية في هذا الخليج حين دخل لإقامة الهدنة والفداء كان يتبين جرية هذأ الماء وتردده مما يلي بحر مايطس، وربما يتبين في الماء الذي يلي بحر الشام فيجده فاترا، وهذا يدل على الصال ماء هذين البحرين، وأنه قد دخل في بحر الروم إلى هذا الخليج أيضا، وسمعت غير واحد من أهل التحصيل ممن غزا غزاة سلوقية مع غلام زرافة - وقد كانوا قد دخلوا إلى خليج القسطنطينية، وساروا فيه مسافة بعيدة - أنهم وجدوا الماء في هذا الخليج يقل في أوقات من الليل والنهار ويكثر كالمد والجزر، وعليه العمائر والمدن، فلما أحسوا بنقص الماء بادروا بالخروج منه إلى البحر الرومي، وأن في مدخله من بحر الروم مدينة تقرب من فم الخليج، والخليج يطيف بالقسطنطينية من جهتين مما يلي الشرق ومما يلي الشمال، وفي الجانب الجنوبي البر، وفيه باب الذهب مطلي على صفائح النحاس، وهو عدة أسوار مما يلي الغرب، وفيه قصر وأعلى أسوارها الغريبة نحو من ثلاثين فراعا، وقد ذكر أنه أقل من ذلك، وأن أقصر موضع فيه عشرة أفرع، وأعلى موضع من سورها ما كان مما يلي الجنوب، فأما ما كان مما يلي الخليج فسور واحد، وفيه قصر وبواشير وأبراج كثيرة، ولها أبواب كثيرة مما يلي البر والبحر، وحولها كنائس كثيرة، وقد قيل: إن لها ثلاثين بابا، ومنهم من زعم أن عليها مائة باب صغارا وكبارا وهو بلد عفن مختلف المهاب مرطب للأبدان لكونه بين ما وصفنا من هذه البحار.
قال المسعودي: ولم تزل الحكمة باقية عالية زمن اليونانيين، وبرهة من مملكة الروم، تعظم العلماء وتشرف الحكماء، وكانت لهم الآراء في الطبيعيات والجسم والعقل والنفس، والتعاليم الأربعة - أعني: الإرتماطيقي، وهو علم الأعداد والجو مطريقي، وهو علم المساحة والهندسة، والاسترونوميا، وهو علم النجوم، والموسيقى وهو علم تأليف اللحون - ولم تزل العلوم قائمة السوق، مشرقة الأقطار قوية المعالم، شديدة المقاوم، سامية البناء، إلى أن تظاهرت ديانة النصرانية في الروم، فعفوا معالم الحكمة، وأزالوا رسمها، ومحوا سبلها، وطمسوا ما كانت اليونانية أبانته، وغيروا ما كانت القدماء منهم أوضحته.
الموسيقى وشرفها
صفحة ١٤٢