مُفَرِّجُ الكُروبْ فِي أَخْبَار بني أَيُّوب
تأليف
جمال الدّين مُحَمَّد بن سَالم بن وَاصل الْمُتَوفَّى سنة ٦٩٧ هـ
«الْجُزْء الأوَّل»
وَيَنْتَهِي بِمَوْت نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فِي سنة ٦٥٩ هـ
نشر لأوّل مرّة عَن مخطوطات كمبردج وباريس وإستانبول
ضَبطه وحققه وعلق حَوَاشِيه وَقدم لَهُ وَوضع فهارسه
الدكتور جمال الدّين الشيال
أستاذ التَّارِيخ الإسلامي - جَامِعَة الْإسْكَنْدَريَّة
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدّمة الناشر
(١)
ترجع صلتى بهذا الكتاب «مفرّج الكروب» إلى سبعة عشر عاما مضت منذ عرّفنى به ولفت نظرى إلى أهميته أستاذى المؤرخ المحقق الدكتور محمد مصطفى زيادة عند ما كنت أعدّ بحثا تحت إشرافه موضوعه «تاريخ اليمن تحت حكم بنى أيوب (١)» ثم شغلت عن الكتاب والبحث مؤقتا بأعمال علمية أخرى، ولكننى كنت دائم الرجوع إليه والإقبال على قراءته والإفادة منه، وفى كل مرة كنت أرجع إليه فيها كانت تتأكد لدى أهميته القصوى كمصدر أساسى لدراسة تاريخ بنى أيوب بصفة خاصة ودراسة تاريخ الشرق الأدنى ودوله جميعا في القرنين السادس والسابع بصفة عامة وهما قرنان حافلان بالأحداث العالمية الهامة وخاصة الحروب الصليبية وغارات التتار.
وكانت تداعب مخيلتى دائما أمنية عزيزة هى أن أتمكن يوما ما من التوفر على دراسة هذا الكتاب وإعداده للنشر، فلما حصلت على الماجستير، وبدأت أتخير موضوع بحثى الذى أعدّه للدكتوراه اتجه ذهنى في الحال إلى «مفرّج الكروب» وكان أن أعددت بحثى للحصول على هذه الدرجة العلمية وعنوانه «جمال الدين بن واصل وكتابه مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب»، وقمت فيه بدراسة حياة هذا المؤرخ الكبير وجهوده العلمية دراسة تحليلية دقيقة مع العناية بوجه خاص بكتابه «مفرّج الكروب».
_________
(١) أرجو أن أوفق لاخراج هذا البحث قريبا.
م 1 / 3
فلما انتهيت من هذه الدراسة بدأت أفرغ لتحقيق أمنيتى القديمة وهى إعداد النص نفسه للنشر، وها أنذا اليوم أقدّم للقارئ الجزء الأوّل من هذا التاريخ الكبير الهام.
(٢)
ولا ينتظرنّ القارئ منى هنا أن أقدّم له تلك الدراسة التحليلية التي أعددتها عن المؤرخ والكتاب، فسيكون موضعها بإذن الله المجلد الأخير من هذه النشرة، وإنما أنا سأوجز هنا فكرة سريعة للتعريف بابن واصل ولبيان موضوعات هذا الجزء الأوّل ولشرح منهجى الذى التزمته في نشر الكتاب.
جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل المازنى التميمى الحموى الشافعى مؤرخ كبير من مؤرخى القرن السابع الهجرى (١٣ م) ولد مع مولد هذا القرن، وتوفى قبيل نهايته (٦٠٤ - ٦٩٧ هـ - ١٢٠٨ - ١٢٩٨ م). وطنه الأصلى حماة، ولكنه طوّف في بلدان الشرق الأدنى الكبرى وعواصمه، وخاصة دمشق وبيت المقدس وحلب والكرك وبغداد ومكة والمدينة والقاهرة، وأقام في عاصمة مصر سنوات طويلة في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب، وشهد أثناء مقامه في مصر حملة لويس التاسع الصليبية عليها، واحتضار الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك، وما عاصر ذلك من غزوات التتار للعراق والشام وسقوط بغداد، وانتهاء الخلافة العباسية على أيديهم، ثم انتقالها إلى القاهرة؛ ثم اتصل بالظاهر بيبرس وأرسل سفيرا عنه إلى منفرد بن فردريك الثانى ملك الصقليتين وامبراطور الدولة الرومانية المقدسة.
ولابن واصل مؤلفات كثيرة في الأدب والهندسة وعلم الهيئة والطب والتاريخ، ضاع معظمها وبقى بعضها مبعثرا في مكتبات العالم المختلفة ينتظر من يعنى بدراسته وإحيائه؛ ولعل أهم مؤلفاته جميعا - ما ضاع منها وما بقى - كتابه التاريخى الكبير «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب» الذى أرّخ فيه للدولة الأيوبية منذ قيامها إلى نهايتها في تفصيل واف وتحقيق شامل دقيق، ولا غرو فقد اتصل بمعظم ملوكهم في الشام ومصر، وبمعظم رجال الدولة وأدبائها وعلمائها في القطرين؛ فالحوادث التي يرويها - وخاصة في القسم الثانى من الكتاب - يرويها عن مشاهدة حينا
م 1 / 4
وعن مشاركة فيها حينا آخر؛ ولهذا كان كتابه الأصل والمرجع الذى أخذ عنه كل المؤرخين اللاحقين له في القرون التالية (الثامن والتاسع والعاشر) عند تأريخهم للدولة الأيوبية.
(٣)
وموضوع كتاب «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب». كما يتضح من عنوانه ومحتوياتها التأريخ لدولة بنى أيوب منذ قيامها إلى زوالها، وقد أرّخ لصدر الدولة وسنواتها الأولى مؤرخون سابقون لابن واصل، كما أرّخ لها حتى نهايتها مؤرخون معاصرون له، فما قيمة «مفرّج الكروب» وما مكانته بين تلك الكتب؟
أرّخ لصدر الدولة من المؤرخين السابقين:
القاضى الفاضل في مياوماته (أو متجدّداته)، وفى رسائله.
والعماد الكاتب الأصفهانى في: الفتح القسى في الفتح القدسى، والبرق الشامى، والعتبى والعقبى، وخطفة البارق وعطفة الشارق.
وعز الدين بن الأثير في الكامل في التاريخ.
وبهاء الدين بن شداد في السيرة اليوسفية.
وابن أبى الدم في التاريخ المظفرى.
وأرّخ للدولة - حتى سنواتها الأخيرة، أو حتى نهايتها - من المؤرخين المعاصرين لابن واصل:
سبط ابن الجوزى في مرآة الزمان.
وكمال الدين بن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب.
وأبو شامة في الروضتين في أخبار الدولتين، والذيل على الروضتين.
وكتاب «مفرّج الكروب» لابن واصل يمتاز - كتاريخ كامل لبنى أيوب - عن هذه الكتب جميعا، وذلك لأن بعض هذه الكتب أرّخ لصدر الدولة وسنواتها الأولى، أو لمنشئها ومؤسسها، أو للنصف الأوّل منها فحسب؛ والبعض الآخر لم يقصد مؤلفوه إلى التأريخ لبنى أيوب قصدا، وإنما هى تواريخ عامة، أو تواريخ
م 1 / 5
مدن، منهجها التأريخ للعالم الإسلامى جملة، سنة بعد سنة، وما تضمنته من تاريخ بنى أيوب جزء من كل.
وكتاب «مفرّج الكروب» كتاب ضخم مفصل كل التفصيل، فهو بحق أوفى تاريخ لدولة بنى أيوب، وهو إلى هذا قد أفاد من معظم من كتبوا قبله عن هذه الدولة، كما أنه أضاف - وخاصة عند كتابته عن النصف الثانى من تاريخ الدولة - الكثير من مشاهداته وتجاريبه ورواياته عن المعاصرين.
وقد أرّخ لبنى أيوب مؤرخون آخرون لاحقون لابن واصل، نعرف منهم مؤرخين اثنين: أولهما مجهول الاسم، عاش في القرن الثامن الهجرى، وعنوان كتابه: «غاية المطلوب في تاريخ بنى أيوب»، وهو مفقود، وإنما يوجد ملخص له عنوانه: «تاريخ نزهة الناظر وراحة الخاطر»، والملخص مجهول أيضا، وإنما يتبين من كتابه أنه ألفه بعد سنة ٧٧٨ هـ (١٣٧٦) (١)، وعنى فيه عناية خاصة بالتأريخ لملوك بنى أيوب أصحاب حصن كيفا، وأنه اعتمد فيه كثيرا على مفرّج الكروب لابن واصل.
وأما الثانى فهو قاضى القضاة عز الدين أبو البركات أحمد بن ابراهيم ابن نصر الله ابن أحمد الكنانى العسقلانى المصرى الحنبلى، ولد بالقاهرة في السادس من ذى القعدة سنة ٨٠٠ هـ، وأخذ التاريخ عن المقريزى والعينى، وتوفى سنة ٨٧٦ هـ (٢)، وعنوان كتابه: «شفاء القلوب في مناقب بنى أيوب» ألفه لمن يسمى العادل من ملوك الأيوبيين المتأخرين في حصن كيفا، وهو يختلف عن «مفرّج الكروب» في ترتيبه ومنهجه، لأنه جعله كتاب تراجم لا حوليات، فقسم ملوك بنى أيوب طبقات، وترجم لهم طبقة بعد طبقة، وقد شرح طريقته في مقدّمة كتابه، قال: «قاعدة الكتاب: أذكر أوّلا أصل البيت الأيوبى. . . ثم نتبعه بذكر التراجم على الطبقات، فالطبقة الأولى أولاد شادى، والثانية أولاد أولاده، والثالثة أولاد أولاد أولاده،
_________
(١) توجد من «نزهة الخاطر» نسخة مخطوطة في Viennc،MX +٣٢٥: انظر: Cahen: La Syrie du nord . . .etc . P. ٨٨.
(٢) انظر ترجمته في: (السخاوى: الضوء اللامع، ج ١، ص ٢٠٥ - ٢٠٧) و(الدكتور مصطفى جواد: مؤرخون مصريون مجهولون، مجلة المستمع العربى، المجلد السادس، العدد ٨، سنة ١٩٤٥).
م 1 / 6
وكذا إلى آخر الكتاب؛ وأقدم من الأخوة أسبقهم موتا، ثم أتبعهم بمن لم أعلم وفاته، ثم أتبعهم بأخوتهم النساء كذلك، ثم أذكر أولادهم في الطبقة التي تلى طبقتهم على حسب ترتيب أصولهم كذلك، وكذا إلى آخر الكتاب. . .» (١) وهذا أيضا قد اعتمد اعتمادا كبيرا على ابن واصل.
فهذان الكتابان ولو أنهما يؤرخان للدولة الأيوبية كمفرّج الكروب، إلا أنهما لاحقان له ومتأخران عنه، فهما لا يتطاولان إلى مرتبته، لأبن ابن واصل معاصر، وهذان غير معاصرين، ولأن ابن واصل مفصل وهما موجزان، ولأن ابن واصل الأصل، وهما الفرع، وعنه يأخذان، وعليه يعتمدان اعتمادا كبيرا؛ وكل ما لهذين التاريخين المتأخرين عليه من مميزات أنهما يتضمنان الترجمة لبقايا بنى أيوب الذين ظلوا يحكمون في حماة أو في حصن كيفا في القرنين الثامن والتاسع. ومن هذه المقارنات جميعا يتضح لنا أن مكانة مفرّج الكروب بين الكتب التي أرّخت لبنى أيوب قبل ابن واصل وبعده لا يمكن أن تدانيها مكانة كتاب آخر من هذه الكتب. وتزداد معرفتنا بقيمة «مفرّج الكروب» إذا علمنا أن جميع المؤرخين المتأخرين الذين عاشوا بعد القرن السابع الهجرى أمثال: بيبرس المنصورى، واليونينى، وشافع بن على، وقرطائى العزى الخازندارى، وأبى الفدا، والنويرى، والذهبى، وابن الفرات، والمقريزى، والعينى، وابن تغرى بردى، والنعيمى، قد اعتمدوا عليه عند التأريخ لبنى أيوب اعتمادا كبيرا، ونقلوا عنه النصوص الكثيرة مع التصريح بالأخذ عنه أحيانا، والسكوت عن ذلك أحيانا أخرى.
(٤)
ذكر هذا الكتاب الصفدى في «نكت الهميان» (٢)، والسيوطى في «بغية الوعاة» (٣) تحت عنوان: «مفرّج الكروب» في دولة بنى أيوب» وذكره أبو الفدا في: «المختصر في أخبار البشر» (٤) وحاجى خليفة في «كشف الظنون» (٥)
_________
(١) شفاء القلوب، صور شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأول، رقم ٢٤٠٣٠، ص ٣ ب.
(٢) ص ٢٥٠
(٣) ص ٤٤
(٤) ج ٤، ص ٣٨
(٥) ج ٢، ص ٧٧٢ ا.
م 1 / 7
والزركلى في «الاعلام» (١)، وبروكلمان في «تاريخ الآداب العربية» (٢) تحت عنوان «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب».
والعنوان الثانى هو الصحيح، لأنه هو الذى اختاره ابن واصل لكتابه، فقد قال في المقدمة: «وسميته مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب» (٣). وقد عرف هذا الكتاب في بعض المؤلفات الحديثة باسم «تاريخ الواصلين»، وهو عنوان خاطئ تحمله نسخة باريس رقم ١٧٠٢، وسنناقش هذه التسمية الخاطئة فيما يلى عند تحليلنا لنسخ الكتاب.
(٥)
المعروف حتى الآن أنه يوجد من هذا الكتاب في مكتبات العالم أربع نسخ خطية:
١ - نسخة مكتبة جامعة كمبروج رقم ١٠٧٩
وتوجد منها صور شمسية بمكتبة جامعة فؤاد الأوّل رقم ٢٤٠٥٠، (وقد رمزنا لها في هذه النشرة بالحرف ك)، وتتكوّن من مجلد واحد يشتمل على الجزء الأوّل من الكتاب، فقد كتب على الصفحة الأولى منه:
الجزء الأوّل من مفرج الكروب في تواريخ بنى أيوب
ويلى العنوان سطر كان يحمل اسم المؤلف، غير أنه يبدو أن ورقة صغيرة قد ألصقت عليه لإخفائه، وتحت هذا السطر «رحمه الله تعالى» مما يجعلنا نرجح أن هذه النسخة قد كتبت قطعا بعد وفاة المؤلف أي في القرن الثامن الهجرى.
_________
(١) ج ٣، ص ٨٩٧
(٢) Vol .I،P ٣٢٢.
(٣) مقدمة نسخة كامبردج، ولاحظ أن كاتب هذه النسخة قد أحدث تغييرا بسيطا في العنوان عند إثباته على الغلاف فكتبه هكذا «مفرج الكروب في تواريخ بنى أيوب». أما العنوان في نسخة مللا جلبى فهو «مفرج الكروب في أخبار ملوك بنى أيوب».
م 1 / 8
وجاء في ص ٦٠٠ وهى آخر صفحة في هذا المجلد: «وبذلك تم الجزء الأول من مفرّج الكروب في تاريخ بنى أيوب»، ولم يثبت الناسخ بعد هذا تاريخ الانتهاء من كتابة هذا الجزء، إذ العادة أن يثبت التاريخ في نهاية الجزء الأخير من الكتاب.
ويتكوّن هذا المجلد من ٦٠٠ صفحة، بطول ١٨ سم وعرض ١٤ سم، وعدد السطور في كل صفحة ٢١ سطرا.
وهذه النسخة كاملة منتظمة الترتيب لا خرم فيها، تشتمل على الحوادث متتابعة سنة بعد أخرى، وتنتهى بالانتهاء من حوادث سنة ٦١٦ هـ (أي السنة التي مات فيها العادل الأوّل، وتولى فيها الكامل محمد حكم مصر).
وتمتاز هذه النسخة على غيرها من النسخ الأخرى باحتوائها على مقدّمة المؤلف نفسه، ومنها عرفنا منهجه في تأليف هذا الكتاب والسبب الذى دفعه إلى تأليفه، ولمن ألفه. وهذه النسخة هى الأصل الذى اعتمدناه هنا لنشر هذا الجزء الأوّل من الكتاب.
٢ - نسخة باريس رقم ١٧٠٢
وتوجد منها صور شمسية بدار الكتب المصرية بالقاهرة، رقم ٥٣١٩، وصور أخرى بمكتبة جامعة الاسكندرية رقم ٦٤ وقد رجعنا إلى صفحات منها لضبط النص وتصحيحه عند نشر هذا الجزء الأوّل المطبوع من الكتاب ورمزنا لها بالحرف (س).
وهذه النسخة تشتمل على الكتاب كله - عدا ما بها من خروم - وتتكوّن من مجلدين، ولا ذكر فيها لتقسيم الكتاب إلى أجزاء، وإنما هذا تقسيم المجلد لضخامة الكتاب، وتحتوى هذه النسخة على ٤٤٢ ورقة (أي ٨٨٤ صفحة) قسمت مناصفة على المجلدين، فكل منهما يحتوى على ٢٢١ ورقة، طول كل صفحة ١٧ سم، وعرضها ١٢ سم، وعدد السطور في كل صفحة ٢١ سطرا.
وهذه النسخة أحدث النسخ جميعا تاريخا، فقد كتبت في القرن التاسع الهجرى (سنة ٨٢١ هـ)، وهى أقلها جميعا قيمة لما بها من خروم أضاعت من النص صفحات كثيرة، ولما أصاب الصفحات الباقية عند تجليدها وترقيمها من اضطراب غريب يجعل متابعة النص أمرا عسيرا جدا، وهى أخيرا قد خضعت لتغييرات كثيرة،
م 1 / 9
أحدثها - فيما نرجح - كاتب النسخة؛ وقد أصابت هذه التغييرات العنوان؛ والمقدمة، والمتن. أما العنوان فهو في هذه النسخة:
تاريخ الواصلين في أخبار الخلفاء والملوك والسلاطين تأليف كاتبه ومؤلفه
ويلى هذا السطر الأخير سطران آخران يحملان اسم المؤلف ووظيفته، وقد امحت معظم حروفهما، وقد استطعنا قراءتهما فإذا بهما «شمس الدين كاتب السر»، وهو نفس الاسم الوارد في حرد الكتاب في آخر صفحة من هذه النسخة، فالنص هناك: «. . . وكان الفراغ منه يوم الخميس المبارك حادى عشر محرم سنة إحدى وعشرين [و] ثمانمائة، ختمت بالخير والحسن على يد الفقير شمس الدين أحمد بن أحمد بن محمد الزينى، كاتب السر لحضرة مولا [نا] السلطان برقوق أدام الله عزه وأنصاره».
وقد لاحظت أن الخط الذى كتب به لفظا «تاريخ الواصلين» على الغلاف يختلف عن الخط الذى كتب به بقية العنوان واسم المؤلف؛ فالخط الذى كتب البيانات الأخيرة أحدث من الخط الذى كتب اللفظين الأوّلين، مما جعلنى أرجح أن هذه البيانات أضيفت عند ضم الكتاب إلى المكتبة الأهلية بباريس، وأن مضيفها أخذها عن المقدّمة والخاتمة، فقد ظن - اعتمادا على ما جاء في الخاتمة - أن كاتب النسخة هو مؤلفها.
أما المقدّمة فتوحى بشئ آخر، توحى بأن كاتب النسخة أراد أن ينسب الكتاب لنفسه، فغير العنوان الأصلى «مفرّج الكروب في أخبار بنى أيوب»، واختار له عنوانا جديدا هو «تاريخ الواصلين في أخبار الخلفاء والملوك والسلاطين» - وهو العنوان الذى أضافه المضيف على الغلاف -.
وأبعد هذا المغتصب مقدّمة المؤلف، وحذف القسم الأوّل من الكتاب الخاص بدولة الأتابكة، وأوضح أن منهجه التأريخ للحوادث من سنة ٥٣٠ إلى سنة ٦٨٠، ولست أدرى لم اختار سنة ٥٣٠ بالذات بدءا لتاريخه. وقد أوضح هذا كله في مقدمته التي اصطنعها للكتاب مكان مقدّمة المؤلف، قال: «. . . وبعد، فهذا كتاب جمعت فيه أخبار الملوك والخلفاء والسلاطين، وما حدث في أيامهم وأوقاتهم ودولتهم
م 1 / 10
من النصارى واليهود والفرس والروم، مبينا ذلك بالتفصيل والقول الصحيح، وسميته: «تاريخ الواصلين في أخبار الخلفاء الملوك والسلاطين»، مبتديا من سنة ثلاثين بعد الخمسمائة إلى ثمانين وستمائة، وهو نعم الوكيل. . .» (١). والعجيب أن موضوع الكتاب لا يحقق هذه الأهداف التي أعلنها الناسخ في مقدمته، فهو أوّلا وأخيرا تاريخ لملوك بنى أيوب.
وقد أردت بعد هذا التعرف على شخصية هذا الناسخ المغتصب فأعيانى البحث، بل لقد أثار البحث أمامى مشكلات جديدة. فالمؤرخ - كما يتضح من حرد الكتاب - من رجال القرن التاسع الهجرى، فمن المرجح إذن أن يكون قد ترجم له السخاوى في «الضوء اللامع» لأنه كان يشغل وظيفة هامة من وظائف الدولة - وهى كتابة السر -، والسخاوى يترجم للكثيرين ممن لم يكن لهم ذكر أو شأن كالتجار والصناع والفقراء والصوفية وغيرهم. ومع هذا فلم أجد لشمس الدين أحمد ابن أحمد الزينى ترجمة في الضوء اللامع. ورجعت إلى قائمة كتاب السر التي أوردها كاملة القلتشندى (٢)، وابن تغرى بردى (٣)، فلم أجد بها ذكرا لهذا الرجل؛ وإنما جاء بها أن الذى تولى كتابة السر من سنة ٨١٦ إلى سنة ٨٢٣ هو ناصر الدين محمد البارزى، وكذلك نص كاتب النسخة شمس الدين على أنه فرغ من كتابتها في المحرم سنة ٨٢١ هـ ثم أتبع اسمه بقوله: «كاتب (٤) السر لحضرة مولانا السلطان برقوق» ثم دعا للسلطان بقوله: «أدام الله عزه وأنصاره» مما يفهم منه أن السلطان برقوق كان لا يزال حيا في تلك السنة (٨٢١)، وقد بدا لنا هذا أمرا عجيبا حقا، فإن السلطان الملك الظاهر برقوق حكم مصر من سنة ٧٨٤ إلى سنة ٨٠١، والسلطان الذى كان يحكم مصر في سنة ٨٢١ هو المؤيد شيخ فقد حكم بين سنتى ٨١٥ و٨٢٤
_________
(١) انظر المقدمة الأصلية للمؤلف والأجزاء الأولى التي أسقطها الناسخ من الكتاب الأصلى، فهذه جميعا تكون الصفحات ١ - ٣٨ من نسخة ك، والصفحات ١ - ٦٥ من هذا الجزء الأول المطبوع. انظر ما بلى هنا ص ٦٥، هامش ١، وص ٦٩، هامش ٢
(٢) صبح الأعشى، ج ١، ص ٩٩ - ١٠٠
(٣) النجوم الزاهرة، ج ٧، ص ٣٤٠ - ٣٤١
(٤) كاتب السر هو من كان يسمى قديما كاتب الانشاء أو صاحب ديوان الانشاء، وقد غير هذا اللقب إلى «كاتب السر» منذ عهد المنصور قلاوون. انظر: (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة، ج ٧، ص ٣٣٣ وما بعدها).
م 1 / 11
٣ - نسخة باريس رقم ١٧٠٣
وتوجد منها صور شمسية بمكتبة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية وتقع في ٢١٦ ورقة (٤٣٢ صفحة)، ومتوسط عدد سطور الصفحة ٢٣ سطرا.
وتبدأ هذه النسخة بعنوان نصه «ذكر وفاة السلطان الملك الكامل ﵀»، أي ببعض حوادث سنة ٦٣٥ هـ. وتنتهى بحوادث سنة ٦٥٩ هـ وذلك في ص ٧٢ ا، وجاء في ختامها:
«. . . وأشار على الملك الظاهر أن يولى القضاء بدمشق للقاضى شمس الدين أحمد بن خلكان ﵀ وكان ينوب عن القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن قاضى الديار المصرية بالقاهرة؛ حين كان القاضى بدر الدين متوليا للقضاء بالديار المصرية؛ فأجاب الملك الظاهر إلى ذلك، وتقدّم بأن يسافر القاضى شمس الدين ابن خلكان صحبته، وفى هذه الأيام ولى الملك الظاهر القاضى برهان الدين الخضر ابن الحسن أخا (١٧٢ ا) القاضى بدر الدين بمدينة مصر وعملها - وهو الوجه القبلى - وبقيت القاهرة وعملها - وهو الوجه البحرى - في ولاية القاضى تاج الدين المعروف بابن بنت الأعز؛ والله ولى التوفيق».
أما الصفحات الباقية من هذه النسخة (١٧٢ ا - ٢١٦ ا) فتتضمن ذيلا لمفرّج الكروب كتبه أحد تلاميذ ابن واصل ومواطنيه واسمه: «على بن عبد الرحيم بن أحمد الكاتب الملكى المظفرى» وكان كاتبا للانشاء في مملكة حماة على عهد المظفر الثالث، وقد بدأ هذا الذيل بالتأريخ لحوادث سنة ٦٦٠ هـ وختمه بحوادث سنة ٦٩٥ هـ، وافتتحه بقوله:
«. . . انتهى إلى هاهنا ما أملاه القاضى الإمام جمال الدين محمد بن سالم ابن واصل. . . متع الله بحياته، ولم يستوعب حوادث سنة تسع وخمسين وستمائة، وكانت المتجدّدات في هذه السنوات كثيرة جدا من تنقل التتار في الأطراف المجاورة للشام، واضطراب الناس وانتزاحهم من أوطانهم. . . واستيعاب هذه الأحوال على حقيقتها يطول، وليس ذلك مما نحن بصدده، لأن الغرض حصول الفائدة، وهذا يتفق إن شاء الله بالقول المختصر. ودخلت سنة ستين وستمائة. . . الخ».
م 1 / 12
ولم يسجل على هذه النسخة تاريخ كتابتها، وإنما سجل أحد مالكيها على الصفحة الأخيرة تاريخ تملكه لها، وهو: «انتقل بالمبيع الشرعى إلى أفقر عباد الله إلى رحمته الفقير محمد بن أحمد بن إسماعيل البعنى الدمشقى الكنعانى المقدسى في سنة ١٠١٩ تسعة عشر وألف، بثمن قدره عشرين غروش». ومع هذا فأنا أرجح أن هذه النسخة كتبت في القرن الثامن الهجرى، وبعد وفاة المؤلف والمذيل بقليل.
ولا يفوتنى أن أشير هنا إلى أن نسخة باريس السابقة (١٧٠٢) تحتوى أيضا على هذا الذيل، ولكن يبدو أن كاتب النسخة أجرى قلمه في هذا الذيل بالتعديل والتغيير فأفسده كما أفسد مقدمة الكتاب الأصيل وعنوانه من قبل، فهو قد نص على أن ابن واصل قد انتهى في مفرّج الكروب بالتأريخ لحوادث سنة ٦٦١ (لا سنة ٦٥٩)، والذيل في هذه النسخة أيضا ينتهى بحوادث سنة ٦٨٠ (لا سنة ٦٩٥) - كما نص على ذلك كاتب النسخة السابقة (١٧٠٢) في مقدّمته - فهذه النسخة الأخيرة إذن تفضل سابقتها في كثير.
٤ - نسخة استانبول، مكتبة ملا جلبى رقم ١١٩ (١)
ومنها صور شمسية بمكتبة جامعة الاسكندرية، رقم ٤٩٨، وتقع في ٢٠٠ ورقة (أي ٤٠٠ صفحة)، ومتوسط عدد السطور في الصفحة الواحدة ٢٤ سطرا.
وهذه النسخة أقدم النسخ جميعا وأقيمها لولا أنه ينقصه أوائل الكتاب وخواتيمه، فهى تحتوى على أواسط الكتاب وتبدأ بالتأريخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنة ٥٨٩ هـ، وتنتهى بحوادث سنة ٦٣٥ هـ بالحديث عن وفاة الملك الأشرف موسى ابن العادل. وتبدأ النسخة بهذا العنوان:
«ذكر ما استقرت الحال عليه من الممالك بعد وفاة السلطان رحمة الله»
ولا تحمل الصفحة الأخيرة (ص ٢٠٠ ب) أي علامة من علامات الانتهاء أو الفراغ من الكتاب مما يدل على أنه كان لهذه النسخة بقية متصلة بها اتصالا تاما، ولكنها
_________
(١) أنتهز هذه الفرصة لأقدم الشكر إلى المستشرق المعروف الأستاذ ريتر Ritter، فهو الذى أرشدنى إلى وجود هذه النسخة، وهو الذى قام بتصويرها لمكتبة جامعة الاسكندرية إجابة لتوصيتى.
م 1 / 13
انتزعت منها أو ضاعت، بدليل أن النص متصل في هذه الصفحة إلى السطر الأخير منها، وهذه آخر جملة وردت بهذه النسخة:
«وكان في خدمته (أي الأشرف) جماعة من الأماثل وأهل الفضل، منهم شيخنا في العلوم الرياضية علم الدين قيصر بن أبى القسم بن عبد الغنى، وكان عظيما في العلوم الرياضية، وعمر له مواضع حسنة، منها الجوسق المعروف ىطىحه (كذا) في مدينة رأس عين، في غاية الحسن، على شكل مثمن، وبإزائه نهر يتصل ببلاد الخابور».
والصفحة الأولى من هذه المخطوطة تحمل الدليل على منهج المؤلف في تجزيىء الكتاب، فيها ما يشير إلى أن هذه النسخة هى الجزء الثانى، وهذا هو نص العنوان الذى تحمله هذه الصفحة الأولى:
الجزء الثانى من كتاب مفرّج الكروب في أخبار ملوك بنى أيوب رحمهم الله تعالى
وإنى لأرجح أن هذه النسخة هى نسخة المؤلف نفسه أو أنها على الأقل كتبت أثناء حياته. فقد كتب اسم المؤلف على الصفحة الأولى وتحته «عفا الله عنه» والعادة أن الناسخ إذا كتب الكتاب بعد وفاة مؤلفه أن يدعو له بالرحمة، فيتبع اسمه بالدعاء المعروف «﵀». أما النص تحت العنوان فهو:
«تأليف الفقير إلى رحمة الله تعالى محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل، عفا الله عنه».
ومما يرجح هذا الظن أن نفس الصفحة تحمل بعد ذلك اسم مواطن للمؤلف من حماة تملك النسخة بعد وفاة المؤلف بخمس وأربعين سنة فقط، كما تحمل اسم عالم آخر قريب للسابق نص على قراءته للنسخة في سنة ٧٨٤ هـ أي بعد وفاة المؤلف بسبع وثمانين سنة. وهذان هما النصان:
«كان في يد على بن الحسن بن على بن عبد الوهاب الحموى؛ ابتاعه بالقاهرة في جمادى الآخرة سنة اثنين وأربعين وسبعمائة»
م 1 / 14
«طالع مفرّج الكروب من أوله إلى آخره أقل عبيد. . . . . . بهم إلى رحمته أيوب بن حسن بن على بن عبد الوهاب، عفا الله عنه وتاب عا. . . . . . رحم عليه وعلى والديه ودعا له بخاتمة الخير، وذلك في شهر ذى الق (عدة سنة) أربعة (وثمان) ين وسبعمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا. . . . . . به وسلم تسليما كثيرا.
(٦)
من هذا العرض كله يتضح أنه لم تصلنا نسخة واحدة كاملة من مفرّج الكروب، وإنما نحن نجد لحسن الحظ أن هذه النسخ الأربع تكوّن نسخة كاملة يمكن الاعتماد عليها عند النشر. فالنسخة الأولى - نسخة كمبردج - تحتوى على الجزء الأوّل في ترتيب متسق وتنتهى بحوادث سنة ٦١٦ هـ. والنسخة الرابعة - نسخة استانبول - تؤرخ للحوادث بعد وفاة صلاح الدين سنة ٥٨٩ هـ وتنتهى بحوادث سنة ٦٣٥ هـ. وبذلك يمكن عند نشر الأجزاء المتضمنة للسنوات من سنة ٦١٧ إلى سنة ٦٣٥ الاعتماد على هاتين النسختين.
والنسخة الثالثة (نسخة باريس ١٧٠٣) تتضمن السنوات من ٦٣٥ (حيث تنتهى نسخة استانبول) إلى ٦٥٩ أي إلى نهاية الكتاب والحوادث في هذه النسخ الثلاث متسقة الترتيب لا اضطراب ولا خلط فيها ولا يشوبها أي نقص أو خرم.
أما نسخة باريس الأولى (١٧٠٢) فيمكن - رغم ما يشوبها من عيوب كثيرة - أن يرجع إليها دائما حيث يتفق النص فيها مع النص في أي نسخة أخرى من النسخ الثلاث لضبطه وتقويمه وتصحيحه. وهذا ما فعلناه عند إخراج هذا الجزء الأول من الكتاب، وقد تبين لنا أنه على الرغم من أفضلية نسخة (ك) فقد ساعدت نسخة (س) كثيرا على ضبط النص أو توضيحه أو إثبات جمل قصيرة أسقطها ناسخ (ك) (١).
(٧)
وهذا الجزء الأوّل من الكتاب الذى نقدّمه اليوم للقارئ، قد بدأ المؤلف فيه بذكر نسب بنى أيوب، ثم أرّخ بعد ذلك - في إيجاز غير مخل - لدولة الأتابكة مع العناية بعلاقاتها بالدول المجاورة، وخاصة الخلافتين: العباسية، والفاطمية،
_________
(١) انظر مثلا فيما يلى هنا: ص ٧٤/ ٥ و٧٨/ ٤ و١٤٥/ ٢ و١٤٧/ ٨ و٢٢١/ ١ و٢٤٣/ ٥.
م 1 / 15
والإمارات الصليبية، ثم انتقل إلى الموضوع الأصيل فبدأ بالتاريخ لنشأة الدولة الأيوبية وعرض أثناء ذلك للدولة الفاطمية في مصر في أواخر أيامها وللصراع العنيف بين قوى الصليبيين وقوى نور الدين في سبيل الاستيلاء على مصر، ولجهود صلاح الدين وأفراد أسرته وقواده التي بذلت للقضاء على المؤامرات الداخلية والخارجية، ولفتح بلاد النوبة واليمن. ووقفنا في هذا الجزء عند وفاة نور الدين محمود بن زنكى سنة ٥٦٩؛ أما الجزء الثانى فسيشتمل بإذن الله على عصر صلاح الدين كله وينتهى بانتهاء حياته سنة ٥٨٩ هـ.
(٨)
وقد اعتمدنا عند نشر هذا الجزء على نسخة كمبردج (ك) واتخذناها أصلا للنشر ثم قارنا بينها وبين نسخة باريس رقم ١٧٠٢ (س) في الصفحات التي لها مثيل في هذه النسخة الأخيرة. ومع هذا فقد استعنا لضبط النص وتصحيحه بالمراجع الكثيرة الأخرى المعاصرة وغير المعاصرة؛ وخاصة تلك التي نقل عنها المؤلف؛ وقد نص ابن واصل أحيانا على المراجع التي نقل عنها. ونقل دون نص أحيانا أخرى، ومن المراجع التي نص على نقله عنها: البرق الشامى للعماد الاصفهانى، والسيرة اليوسفية لابن شداد، والروضتين لأبى شامة، والكامل لابن الأثير. الخ. وقد طبعت أسماء المؤلفين والمراجع التي نص المؤلف على الأخذ عنها بحروف الرقعة ليمكن للقارئ متابعتها.
وأكثر نقوله هنا عن ابن الأثير، وقد لاحظت عند المقارنة بين النصين أن نص ابن واصل كثيرا ما يتفق ونص ابن الأثير اتفاقا يكاد يكون تاما (انظر ص ٩٣ هامش ٤)، كما لاحظت أنه يختلف عنه - أحيانا أخرى - إيجازا أو إطنابا، فرواية ابن واصل في بعض الأوقات أكثر تفصيلا من رواية ابن الأثير مما يجعل لها قيمة خاصة ومما يرجح ظننا أن المؤرخين كانا ينقلان عن مراجع أخرى لم يذكراها، وقد استطعت أن أتعرّف على مرجع من هذه المراجع وهو «تاريخ ميا قارقين وآمد» لأحمد بن يوسف بن على بن الأزرق الفارقى» (١)،
_________
(١) توجد من هذا الكتاب نسختان في مكتبة المتحف البريطانى. الأولى قطعة صغيرة منه كتبت في سنة ٥٦٠ هـ أي في حياة المؤلف ورقمها ٦٣١٠، والثانية أكبر وأوفى من الاولى بل تكاد تكون نسخة كاملة، كتبت سنة ٥٧٢ هـ ورقمها ٥٨٠٣، وقد نشر آمدروز أجزاء كثيرة منه في هوامش (الذيل على تاريخ دمشق لابن القلانسى) وللتعريف بالفاوقى وكتابه انظر مقالا في J .R .A .S .١٩٠٢. P. ٧٨٥ .
م 1 / 16
وقد أثبت بالمقارنة بين نص ابن واصل والفقرات المنقولة عن الفارقى في هوامش ابن القلانسى أن تاريخ الفارقى كان من مراجع ابن واصل التي نقل عنها دون الإشارة اليها (١).
وكنت ألاحظ أحيانا أن نص ابن واصل مختصر اختصارا يبهم المعنى؛ بينما تزدحم المراجع الأخرى التي يختصر عنها أو التي تناولت الموضوع ولم ينقل عنها بالتفصيلات الهامة الموضحة فكنت أنقل في الهوامش فقرات من هذه المراجع لأمكن الدارسين والباحثين من فهم النص فهما واضحا لا لبس فيه (٢).
وهذا الجزء الأول يشتمل على عدد من الوثائق الرسمية الهامة من رسائل ومناشير وسجلات وتواقيع. . الخ، وقد أثبت المؤلف بعض هذه الوثائق بنصها الكامل ولكنه اكتفى عند الإشارة إلى البعض الآخر بنقل الفقرات الهامة فيها، وقد وردت بعض هذه الوثائق في المراجع التاريخية الأخرى فعارضنا النص هنا عليها لتصحيحها وضبطها (٣). وانفرد ابن واصل مع هذا بذكر وثائق لم تعن المراجع الأخرى بإثباتها وبعض هذه الوثائق هام غاية الأهمية، وخير مثل لها التواقيع التي أصدرها نور الدين لإلغاء المكوس بجميع أنحاء مملكته، فهى تقدم للباحث ثبتا هاما بالمدن والأقسام الإدارية المكونة لمملكة نور الدين وبالمبالغ التي كانت بحبى من ضريبة واحدة وهى ضريبة المكوس (٤).
أما الوثائق التي اقتصر ابن واصل على نقل فقرات منها ووجدنا نصوصها كاملة في مراجع أخرى ففى العزم - إن شاء الله - أن ننشر هذه النصوص الكاملة ملحقة بالجزء الثانى.
وينفرد هذا الجزء أيضا بإيراد نصوص نادرة تلقى أضواء جديدة على بعض الموضوعات التاريخية وبعض نظم الحكم، ففى ص ٦١ مثلا نص يبين مدى ما وصل إليه مركز الخليفة العباسى في العهد السلجوقى، فقد سلبت منه كل السلطات
_________
(١) انظر مثلا ص ٥٨ - ٧١ فيما يلى هنا.
(٢) انظر مثلا فيما يلى هنا: ص ٨٥ هامش ٣ وص ١٦٩ هامش ١ وص ٢٠١ هامش ٣ وص ٢٢٩ هامش ١ وص ٢٣٧ هامش ٢ وص ٢٤٠ هامش ٥
(٣) انظر فيما يلى هنا: ص ١٦٤ و١٦٥ و١٧٠ و٢٢٥ و٢٣٥ الخ.
(٤) انظر فيما يلى هنا: ص ٢٧١ - ٢٧٩
م 1 / 17
الزمنية، وأصبح عليه - كما يقول النص هنا - أن «لا يدخل نفسه في غير أمر الدين».
وفى ص ١٥٠ و٢٨٠ نصان هامان يعينان على فهم نظام الإقطاع في عهد نور الدين بصفة خاصة وفى عهد الأتابكة بصفة عامة.
وفى ص ٢١١ نص هام آخر ذكر فيه المؤلف بعض الحقائق النادرة عن بقايا الأسرة الفاطمية الذين عاشوا في الأسر أو مختفين حتى أواخر الدولة الأيوبية، بل وأشار إلى أنه قابل واحدا منهم في سجنه بقلعه الجبل بالقاهرة وتحدث إليه؛ وقد اعتمد الأستاذ كازانوثا (Casanova) على هذا النص عند كتابة بحثه القيم عن بقايا الأسرة الفاطمية الذى نشره منذ سنوات طويلة في مجلة المعهد الفرنسى بالقاهرة (١).
وهذا الجزء مملوء بالمصطلحات الإدارية والحربية والاجتماعية التي كانت مستعملة في تلك العصور التي يؤرخ لها الكتاب، ومعظم هذه المصطلحات مأخوذ عن لغات غير عربية كالتركية والفارسية واليونانية وغيرها مثل: الدركاه (ص ١٠٢ هامش ١) والخشكنانج (ص ١٠٢ هامش ٣) واللت (ص ١٤٠ هامش ١) والجامكية (ص ١٥٠ هامش ٣) والمنجنيق (ص ١٨٠ هامش ٢) والقنطارية (ص ١٨٣ هامش ٢) والممزج (ص ٢٠٣ هامش ٣) والبرواناه (ص ٢٣٤ هامش ٤) والقبق (ص ٢٦٠ هامش ٨) والجوكان (ص ٢٦٧ هامش ١) والتركش (ص ٢٧٩ هامش ٥) الخ. وقد شرحنا هذه المصطلحات في الهوامش شرحا وافيا بقدر ما سمحت لنا به المراجع، وأشرنا إلى هذه المراجع في نهاية الشرح ليرجع إليها من أراد؛ وفى رأيى أن العناية بشرح هذه المصطلحات عند نشر الأصول التاريخية القديمة أمر واجب لأن هذه المصطلحات من الأدوات الهامة التي لا يمكن لمن يريد التأريخ لنظم الحكم في العالم الإسلامى على تلك العصور الاستغناء عنها. وأرجو أن أوفق لإفراد فهرس خاص بهذه المصطلحات في نهاية الجزء الثانى من هذا الكتاب.
وميزة أخرى نذكرها لهذا الكتاب، وذلك أنه يعتبر مرجعا هاما لدراسة تاريخ مدن الشام الكبيرة في العصور الوسطى، فقد اعتاد المؤلف أن يقف طويلا وأن يتحدّث تفصيلا كلما ورد ذكر مدينة من مدن الشام، وخاصة المدن الهامة الثلاثة: حماة - وطنه الأصلى - وحمص وحلب (٢).
_________
(١) انظر قائمة المراجع غير العربية.
(٢) انظر ص ٧٢، هامش ١
م 1 / 18
وفى هذا الجزء نصوص تساعد الباحث على تحديد تاريخ تأليف الكتاب، أو على الأقل تحديد التاريخ الذى بدأ فيه المؤلف تأليف كتابه:
- فهو يقول مثلا عند حديثه عن مقتل عماد الدين زنكى: «فحكى ابن الأثير ﵀. . الخ» ولهذا الدعاء أهمية خاصة فهو يدل على أن المؤلف كان يكتب هذا الجزء من كتابه بعد سنة ٦٣٠ هـ وهى السنة التي توفى فيها ابن الأثير (١).
- وفى ص ١١٣ يشير إلى وفاة شاهنشاه بن أيوب، ثم يعرّف به بقوله: «وهو جد مولانا السلطان الملك المنصور - صاحب حماة - خلّد الله سلطانه» وهذا الدعاء يدل على أنه كان يكتب هذا الفصل من كتابه بعد سنة ٦٤٢ هـ وهى السنة التي ولى فيها المنصور الثانى حكم حماة (٢).
- وفى ص ١٥٤ عند حديثه عن إربل يقول: «وملكها المستعصم بالله إلى أن ملكها التتر الملاعين حين ملكوا البلاد». وهذا النص يدل على أنه كان يكتب هذا الفصل بعد سنة ٦٥٦ هـ وهى السنة التي استولى فيها هولاكو على بغداد وقتل المستعصم وأرسل قائدا من قواده للاستيلاء على إربل. وهكذا.
وهذا الجزء أخيرا يعتبر مرجعا هاما لدراسة سيرة المؤلف نفسه فهو يشير في أكثر من موضع إلى بعض حوادث هذه السيرة:
- فهو يشير مثلا في ص ٧٤ إلى أنه كان بالقدس في سنة ٦٢٣ هـ.
- ويشير في ص ٢٠٤، ٢٣٦ إلى كتاب له آخر في التاريخ اسمه التاريخ الكبير.
- وفى ص ٢١٠ يشير إلى أنه سافر إلى مصر سنة ٦٤١ هـ.
- وفى ص ٢٣١ يشير إلى أنه حج إلى مكة وزار المدينة سنة ٦٤٩ هـ إلخ.
ولا يفوتنى أن أشير إلى أننى بذلت غاية جهدى لضبط النص وتقويمه فضبطت الآيات القرآنية بالشكل وحدّدت أرقامها وسورها في الهوامش وكذلك فعلت بالشعر فضبطه بالشكل وقارنته بأصوله في الدواوين إن وجدت وبالمراجع الأخرى إن ذكرته (٣).
_________
(١) انظر ص ٩٩، هامش ٤ ا.
(٢) ص ١١٣ هامش ٣
(٣) لم أقنع بهذه المقارنات، وإنما عرضت الشعر الوارد في هذا الجزء عند طبعه على صديقى الأستاذ الدكتور طه الحاجرى فتفضل بتقويم المعوج منه فلحضرته منى أجزل الشكر.
م 1 / 19
أما الأعلام وأسماء المواقع والبلدان فقد دأبت على التعريف بها في الحواشى ما استطعت إلى ذلك سبيلا مع الإشارة إلى المراجع التاريخية والجغرافية التي أفدت منها ليرجع إليها من يريد التثبت أو الاستزادة، وأما الفهارس الأبجدية التفصيلية فقد أرجأتها مؤقتا لتشمل الجزء الثانى وتنشر في نهايته.
(٩)
وبعد فهذا هو الجزء الأول من كتاب «مفرّج الكروب» وهذا هو منهجنا في نشره، قد بذلنا السنوات الطوال في دراسته وإعداده للنشر حتى كلّ منا البصر واحتجنا إلى علاجه، والله نسأل أن يهبنا القوّة والصحة لإكماله، وأن ييسر مواطنينا في مصر والشرق للافادة منه.
وكتاب له هذه المميزات كان حريا أن ينال حظا أوفر من عناية الباحثين والمؤرخين، وكان حريا أن ينشر بعضه أو كله منذ سنوات، ولكنا مع هذا نجده قد بقى مخطوطا إلى اليوم، وإنه لمما يبعث العجب حقا أن نجد جماعة العلماء الذين عنوا بنشر النصوص العربية الخاصة بالحروب الصليبية في مجموعة المؤرخين الصليبيين
Recueil des Historiens des Croisades
قد نشروا منتخبات من الكامل لابن الأثير، والروضتين لأبى شامة، وتاريخ حلب لابن العديم، والمختصر في أخبار البشر لأبى الفدا، وعقد الجمان للعينى. . . إلخ، ومع هذا فقد أهملوا مفرّج الكروب لابن واصل إهمالا تاما.
وقد بدأ المستشرقون المعاصرون يدركون ما لهذا الكتاب من قيمة كبرى وما للتقصير في نشره حتى اليوم من أثر، وعبّر أحدهم وهو الأستاذ كلود كاهن (C .Cahen) عن هذا في كتابه القيم (سوريا الشمالية في عصر الحروب الصليبية
La Syrie du nord a l'Epoque de Croisades
فقال بعد الفراغ من حديثه عن مفرّج الكروب في فصل المراجع:
«وهو كتاب ذو قيمة كبيرة، وإلى هذا فهو ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزى مرجعنا الأساسى الذى أخذ عنه المؤرخون اللاحقون عند تأريخهم للدولة الأيوبية وقد كان يبدو أن تهيأ لمفرّج الكروب مكانة ممتازة عند المؤرخين المحدثين لكثرة ماله من ميزات جعلت الكثيرين يعتمدون عليه ويأخذون عنه، ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
م 1 / 20
ومع أنه يوجد لهذا الكتاب مخطوطات صالحة وسهل الحصول عليها، فقد بقى حتى الآن دون أن ينشر أو يستفاد منه، وفى هذا فضيحة علمية لا نعتقد أنه من اليسير التغلب عليها قبل مضى وقت طويل:
" C'est un euvre de haute valenr .C'est du plus،avee le (mira az - zaman) de Sibt Ibn Al - Djauzi،notre source principale،indefini - ment reproduite dms l'historio graphic posterieure،pour l'histoire des Ayyoubides .ll semblerait que tant de titres fussent assez pour avoir assure au moufarridj une place d'honneur aupres des historiens modernes .Il n'en est rien،et l'Oeuvre،dont il existe pourtant des manuscrits tres convenables et fort accessibles،reste inedite et presque inutilisee .Il y a la scandale qui ne saurait trop tot cesser"
La Syrie du Nord . . .etc . P. ٧٠
وعندما علم هذا الأستاذ الحجة في تاريخ الحروب الصليبية بعزمى على نشر مفرج الكروب كتب إلى خطابا خاصا قال فيه:
حضرة الزميل العزيز
دعنى أعبر لك عن ارتياحى الكلى لعلمى أنه وجد أخيرا من يأخذ على عاتقه مهمة العمل لنشر ابن واصل. إنه من العسير أن أتصوّر أنه كان من الواجب الانتظار حتى سنة ١٩٤٧ ليحدث هذا؛ كم من الوقت تظن أنه يجب عليك أن تتوفر لإنجاز هذا العمل الكبير الضخم. . . الخ.
Monsieur et cher collegue .
Laissez - moi d'abors vous exprimer toute ma satisfaction d'app-endre qu'enfin quelqu'un s'occupe d'editer Ibn Wacil;il est difficile de comprendre comment il a fallu attendre ١٩٤٧ pour cela. Combien de temps pensez-vous devoir consacrer a ce travail evidemment gros؟
ووصلتنى خطابات مماثلة من كثير من المستشرقين الأساتذة بجامعات أوربا وأمريكا أذكر من حضراتهم: الأساتذة برنارد لويس بجامعة لندن، وجب بجامعة أوكسفورد، وماسينيون بالكوليج دى فرانس، وفيليب حتى بجامعة برنستون، وجميعهم يؤكدون نفس المعنى ويستنجزوننى بين الحين والحين الوعد أن أعمل على الإسراع بإخراج الكتاب.
م 1 / 21