وأعلامهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتجّ عليهم بأن يَاتُوا بسورةٍ واحدة وآياتٍ يسيرة، إذ هي أنْقَض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغُ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعِهِ مِنْ بَذْلِ نفوسهم وخروجهم من أوطانهم، مع أنهم أشدّ الخَلْق أَنَفَةً، وأكثرهم مفاخرة، والكلام سَيِّدُ عملهم، فحين لم يجدوا حِيلَةً ولا حجًّة قالوا له: أنْتَ تعرف مِنْ حال الأمم ما لا نَعْرِف، فلذلك يمكنُك ما لا يمكننا.
فقال لهم: هاتوها مفتريات لتَبْكِيتهم، فلم يرُمْ ذلك خطيبٌ، ولا طمع فيه شاعر، ولا طبع منه أو تكلّفه، ولو تكلَّفَة لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد مَن يستجيره ويحميه، نصْرَةً لدِينهم، بل أظهر الله دينَه، وخرق العادةَ في أسلوبِ كلامهِ وبلاغته وحلاوتهِ، حتى التَذوا بسماعه ألذّ من أهل اللهْوِ في لهوِهم، وأبقى ذلك فيه إلى صفحات الدهر ليراها ذوو البصائر، كما قال ﷺ: " ما مِن الأنبياء نَبِيءٌ إلاّ أعطي من الآيات، ما مثْله آمَنَ عليه البَشَر، وإنما كان الذي
أوتيته وَحْيًا أوْحَاه إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثرهم تابعًا يَوْمَ القيامة ".
فصلوات الله وسلامه على هذا النبي الكريم الذي أدى الأمانةَ، ونصح أمّتَه
إلى رشدهم وهدايتهم، فهو أوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم، ورضِيَ الله تعالى عن
أصحابه وأتباعِه الذين نَصَروة بأنفسهم وأموالهم.
أما بعد فإنَّ إطلاقَ السَّلَفِ ﵃ على كلامِ اللهِ أنه محفوظ في
الصّدور، مقروءٌ، بالألسنة، مكتوب في المصاحف هو بطريق الحقيقة لا بطريق المجاز، وليس يعنون بذلك حلولَ كلام الله تعالى القديم في هذه الأجرام، تعالى الله عن ذلك، وإنما يريدون أنَّ كلامَه جلّ وعلا مذكور مدلول عليه بتلاوة اللسان، وكلام الجَنَان، وكتابة البنَان، فهو موجود فيها حقيقة وعِلْمًا لا مدلولًا، لأنَّ الشيءَ له وجودات أربع: وجود في الأذهان، ووجود في الأعيان، ووجود في اللسان، ووجود بالبَنَان، أي بالكتابة بالأصابع، فالوجودُ الأول الذات الحقيقي، وسائر الوجَودات إنما هي باعتبار الدلالة والفَهْم.
وبهذا تعرف أنَّ التلاوةَ غير المتلوّ، والقراءة غير المقروء، والكتابة غير المكتوب، لأنَّ الأول من كل قسمين من هذه الأقسام حادث، والثاني منها قديم لا نهاية له.
1 / 4