" أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فإن تقوى الله تعقب الجنة، وإن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتثري المال وتجمع الشَّمل، وتكثر العدد، وتعمر الدار، وتعزّ الجانب، وأنهاكم عن معصية الله وقطيعة الرحم فإن معصية الله تعقب النار، وإن قطيعة الرحم تورث القلّة والذُّلة، وتفرق الجمع، وتدع الدار بلا قِع، وتطمع العدو، وتبدي العورة.
يا بنيّ، قومكم، قومكم، إنه ليس لكم فضل عليهم، بل هم أفضل منكم، إذ فضلَّوكم وسوَّدوكم، ووطئو أعقابكم، وبلغوا حاجتكم فيما أردتم، فلهم بذلك حقّ عليكم وبلاء عندكم، ولا تؤدُّون شكره، ولا تقومون بحقه، فإذا طلبوا فأطلبوهم، وإذا سألوا فأعطوهم، وإن لم يسألوا فابتدأوهم، وإن شمتوا فاحتملوا لهم، وإن غشوا أبوابكم فلتفتح لهم، ولا تغلق دونهم.
يا بنيّ، أني أحب للرجل منكم أن يكون لفعله الفضل على لسانه، وأكره أن يكون للسانه الفضل على فعله.
يا بنيَّ، اتقوا الجواب وزلّة اللسان، فإني رأيت الرجل يعثر قدمه فيقوم من زلته، فينتعش منها سويا، ويزل لسانه فيوفيه وتكون فيه هلكته، يا بنيّ، إذا غدا عليكم رجل وراح فكفى بذلك مسألة وتذكرة بنفسه، يا بني، ثيابكم على غيركم أجمل منها عليكم، ودوابُّكم تحت غيركم أجمل منها تحتكم، يا بني، أَحيوا المعروف وافعلوه، واكرهوا المنكر واجتنبوه، وآثروا الجود على البخل، واصطنعوا العرب وأكرموهم، فإن العربي تعده العدة فيموت دونك، ويشكر لك، فكيف بالصنيعة إذا وصلت إليه في احتمالها وشكرها، والوفاء منها لصاحبها؟.
يا بنيّ، سوِّدوا أكابركم وأعزّوا ذوي أسنانكم تعظموا بذلك، وارحموا صغيركم، وقرِّبوه، وأَلطفوه، وأجيروا يتيمكم، وجودوا عليه بما قدرتم، وخذوا على أيدي سفهائكم، وتعهدوا جيرانكم وفقراءكم بما قدرتم عليه، واصبروا للحقوق، واحذروا عار عدوّكم عليكم في الحرب بالأناة والتؤدة في اللقاء، وعليكم بالتماس الخديعة في الحرب لعدوّكم، وإياكم والنزَّق والعجلة، فإن لمكيدة والأناة والخديعة أنفع من الشجاعة.
واعلموا أن القتال والمكيدة مع الصبر، فإذا كان القضاء عند اللقاء، فإن ظفر امرؤ وأخذ بالحزم قال العاقل: قد أتى الأمر من وجه، وإن لم يظفر قال: ما ضيّع ولا فرّط، ولكن القضاء غالب، فالزموا الحزم على أي الحالين وقع الأمر، والزموا الطاعة والجماعة، وإياكم والخلاف وفراق الجماعة، تواطأوا، وتوازروا، وتواصلوا، وتعاطفوا فإن ذلك يثبت المودة، وتحابّوا، وخذوا فيما أوصيكم به بالجدّ والقيام به تظفروا بدنياكم ما كنتم فيها وآخرتكم إذا صرتم إليها، ولا قوة إلا بالله، وليكن أول ما تبدءون به أنفسكم إذا أصبحتم، تعلموا االقرآن والسنن والفرائض، تأدبوا بأدب الصالحين من قبلكم، من سلفكم الصالح، ولا تقاعدوا أهل الدَّعارة والريبة، ولا تخالطوهم، ولا يطمعن في ذلك منكم، وإياكم والخفّة في مجالسكم وكثرة الكلام، فإنه لا يسلم منه صاحبه، وأدُّوا حق الله عليكم فإني قد أبلغت إليكم الوصية، واتخذت لله عليكم الحجة ".
قال: وتوفِّى الملّب رحمه الله تعالى بمو الروذ بخراسان، فقال نهار بن توسعة:
ألا ذهب الغزو المقرَّب للغنى ... ومات النَّدى والحزم بعد المهلَّب
أَقام بمرو الرُّوذ رهن ثوابه ... وقد غيِّبنا عن كلِّ شرق ومغرب
قالو: ثم ولى بعده قتيبة بن مسلم الباهليّ، فدخل عليه نهار بن توسعة، فقال له قتيبة: - أأنت القائل في المهلب، ألا ذهب الغزو؟ فقال: أنا الذي أقول:
ما كان مذ كنَّا ولا كان قبلنا ... ولا هو فينا كائن كابن مسلمِ
أَعمَّ لأهل الشَّرك قتلا بسيفه ... وأقسم فينا مغنما بعد مغنم
فقال: إن شئت فأقلل، وإن شئت فأكثر، والله لا تصيب منى خيرا، يا غلام، حلِّق على اسمه.
ولزم منزله حتى ولى يزيد بن المهلب خراسان، فأتاه نهار، فدخل عليه، وأنشأ يقول:
إِن يكُ ذنبي يا قتيبة أَنَّني ... بكيت امرأً في المجد قد كان أَوحدا
أَبا كلِّ مظلوم ومن لا أبا له ... وغيث مغياث أَطلعن التَّلدُّدا
رفشأنك، إِنَّ اله إِن سؤت محسن إِليَّ إِذا أَبقى يزيدا وخلدا فقال له: احتكم.
قال: مائة ألف.
فأعطاه مائة ألف درهم.
1 / 45