قد كنت في منعة أسرُّ بها ... أمنع ضيمي وأهبط العصما
وأسحب الرَّبط والبرود إلى ... أدنى تجاري وأنفض اللِّمما
وقال حين مضت له تسعون حجّة، وهي قصيدة:
كأنِّي وقد جاوزت تسعين حجَّة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدَّهر من حيث لا أرى ... فما بال من يرمي وليس برام
فلو أنَّها نبل إذن لاتقَّيتها ... ولكنَّما أرمي بغير سهام
إذا ما رآني النَّاس قالوا ألم تكن ... حديثا جديد البزِّ غير كهام
فأفنى وما أفنى من الدَّهر ليلة ... ولم يغن ما أفنيت سلك نظام
على الرَّاحتين مرَّة وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثا بعدهنَّ قيامي
وأهلكني تأميل يوم وليلة ... وتأميل عام بعد ذاك وعام
قالوا: وعاش ذو الإصبع العدوانيّ، وهو حرثان بن محرّث من عدوان ابن عمرو بن قيس بن عيلان ثلاثمائة سنة، وقال:
أصبحت شيخا أرى الشَّخصين أربعة ... والشَّخص شخصين لمَّا مسَّني الكبر
لا أسمع الصَّوت حتَّى أستدير له ... ليلا وإن هو ناغاني به القمر
وإنما قال ليلا لأن الأصوات هادئة، فإذا لم يسمع بالليل والأصوات ساكنة كان من أن يسمع بالنهار مع ضجَّة الناس ولغطهم أبعد.
كتاب الوصايا عن أبي حاتم " وأولى الوصايا " أخبرنا أبو روق قال، قال أبو حاتم قالوا، وكان ملك من ملوك اليمن يقال له، الحارث بن عمرو الكندي، بلغه عن ابنه لعوف الكندي جمال وكمال، وهو الذي يقال له: لا أحد يشبه عوفا جمالا وكمالا؛ فبعث إلى امرأة من قومها، يقال لها عصام، فقال: إنه بلغني عن بنت عوف جمال وكمال، فاذهبي، فاعلمي لي علمها.
فانطلقت حتى دخلت على أمها، وهي أمامة بنت الحارث، فأخبرتها خبر ما جاءت له، وإذا أمها كأنها خاذل من الظباء، وحولها بنات لها، كأنهن شوادن الغزلان.
فأرسلت إلى ابنتها، فقالت: يا بنيّة، إن هذه خالتك، أتتك لتنظر إلى بعض شأنك، فاخرجي إليها، ولا تستتري عنها بسيئ، وناطقيها فيما استنطقك فيه.
فدخلت عليها، ثم خرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع.
فأرسلها مثلا.
فلما جاءت إلى الحارث قال: ما وراءك يا عصام؟ قالت: أيها الملك، صرّح " المخض " عن الزبد.
فأرسلها مثلا.
ثم قالت: أقول حقا، وأخبرك صدقا، لقد رأيت وجها كالمرآة الصينية، يزينّه حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلته السلاسل، قد تقّوسا على مثل عيني الظبية العبهرة، التي لم تر قانصا، ولم تذعرها قسورة، تبهتان المتوسم إذا فتحهما، بينهما أنف كحدّ السيف المصقول، ولم يخنس به قصر، ولم يمعن به طول، حفّت به وجنتان كالأرجوان، في بياض محض كالجمان، شقِّق فيه فم لذيذ الملتئم، فيه ثنايا غرّ، وأسنان كالدر، ذات أشر، ينطق فيه لسان، ذو فصاحة وبيان، يحركه عقل وافر، وجزاب حاضر، تلتقي دون شفتان حمَّاوان، كأنهما في لين الزبد، تحمىن ريقا كالشُّهد، نصب على ذلك عنق أبيض، كأنه إبريق فضة.
لها صدر كصدر التمثال، مدت منه عضدان مدمجتان، ممتلئتان لحما، مكتنزتان شحما، متصلة بهما ذراعان، ما فيهما عظم يمسّ، ولا عرق يجسّ، متصلة بهما كفان، رقيق قصبهما، تعقد إن شئت منهما الأنامل، وتركّب الفصوص في حفر المفاصل، نتأ في ذلك الصدر ثديان، يخرقان عنها أحيانا ثيابها، ويمنعانها من أن تقلد سخابا، أسفل من ذلك بطن طوى كطي القباطي المدمجة، كُسِىَ عُكَنا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العكن بسرَّة كمدهن العاج، لها ظهر فيه كالجدول، ينتهي إلى خصر، لولا رحمة ربك لا نبتر، لها كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت، كأنه دعص من الرمل، لبَّده سقوط الطلّ، أسفل من ذلك فخذان لفَّاوان، كأنما نصبتا على نضد جمان، متصلة بهما ساقان بيضاوان خدلَّجتان، قد وشيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزَّرد، يحمل ذلك كله قدمان، كحذو اللسان " تبارك الله " مع لطافتهما، كيف يطيقان حمل ما فوقهما؟ وأما ما سوى ذلك فإني تركت نعته، ووصفه، لدقّته، إلا أنه كأكمل وأحسن وأجمل ما وصف في شعر أو قول.
1 / 36