يا نفس! لا تذمى الدنيا وتقولى: هى دار خديعة ومصيدة وغرور، فإنها ليست كذلك إلا عند ذوى العقول الناقصة ومن يعرض له الجهل والنسيان. ولو كانت دار خديعة بالحقيقة لكان الإنسان منذ بدء ظهوره فيها إلى وقت خروجه منها لا يشافه منها إلا نعيما ولذات وسرورا. ثم تأتيه المساءة حينئذ بغتة فتزيله عن ذلك النعيم ويستحيل به ما كان فيه إلى خلاف ذلك. وليس الأمر فيها كذلك، بل إنما يرى الإنسان ينشأ فى هذه الدنيا ويتربى بأحوال مختلفة لا نظام لها: فيوما محزون، ويوما مسرور، ويوما متلذذ، ويوما متألم متوجع. والشىء إذا أظهر لك جميع ما فى طبعه فقد أنصفك ونصحك؛ وإنما المخادع من كان فى طبعه الخير والشر فأظهر لك الخير وأبطن الشر لوقت الفرصة والمكنة منك. ولست أرى أحدا نال من هذه الدنيا فرصة إلا وأعقبه ذلك غصة وألما. وليس هذا شرط المخادعة من قبل الدنيا، وإنما المخادعة من قبل الإنسان لنفسه، وذلك أن الإنسان الناقص هو المخادع نفسه المهلك لها، لا الدنيا، لأن الدنيا قد أظهرت له جميع ما فى طبعها من نعيم وبؤس. فاغتبط الإنسان الضعيف العقل بنعيمها واعتقده دائما وأنسى بؤسها وأهمله ثم يقول: خدعتنى الدنيا! وأى خداع خدعته الدنيا! وإنما هو المخادع نفسه والمهلك لها.
يا نفس! لا تكن أخلاقك فى هذه الدنيا كأخلاق الصبى الذى لا عقل له: إن أطعم ورفق به رضى وضحك؛ وإن شدد عليه بكى وغضب: فهو بينما يكون ضاحكا حتى يكون باكيا، وبينما يكون راضيا حتى يكون غضبان. وليست هذه أخلاق العقل الوحيد، بل أخلاق مشتركة مذمومة.
يا نفس! إنما رتبت الدنيا على هذه المعانى المختلفة التى هى خير وشر، ونعيم وبؤس، وشدة ورخاء — تنبيها للنفس، وإيقاظا لها، ومثالات تعمل عليها فتكتسب بذلك العقل المضىء المنير والعلم الثابت الذى هو الحكمة والمعرفة بحقائق الأشياء، وإنما وردت إليها النفس لتعلم وتخبر. ومن ورد إلى محل من المحال ليعلمه ويخبره ويعرف حاله ثم ترك العلم والبحث والاختيار وتشاغل بالنعيم والتلذذ — فقد ضيع مطلبه ونسى أربه الذى قصد له.
وإنما شرحت لك يا نفس هذا الشرح لئلا تكونى فى رتبة الذامين للدنيا عند سخطهم عليها، والمادحين لها عند رضاهم عنها، وليس هم بالحقيقة لا ذامين ولا مادحين، بل هم تائهون ضالون قد أضاعوا طلبهم وأنسوا أربهم وذهب استعمالهم آلاتهم باطلا غير متحققين بعلم ولا مكتسبين لقنية.
صفحة ٦٠