267

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

تصانيف

والحقيقة أنه تضافرت - عدا ما ذكرنا - عوامل عدة لتكييف العلاقات التي سادت بين محمد علي والباب العالي في هذه الفترة (1807-1811)، مرد طائفة منها إلى ما صح عليه عزم محمد علي من البقاء والاستقرار في مصر، والظفر بالباشوية الوراثية، ومرد بعضها الآخر إلى حذر الباب العالي من ضياع هذه الولاية المصرية من الدولة، سواء حصل ذلك نتيجة لغزو أجنبي أو لعصيان الباشا ونبذ السيادة العثمانية، أضف إلى هذا أن الباب العالي قد اعتبر أن من حقه على الباشا أن ينهض هذا بوصفه تابعا له، ومتمسكا بالولاء لصاحب السلطان الشرعي عليه لتلبية مطالب الديوان العثماني، فيما فيه المحافظة - في الواقع - على كيان الإمبراطورية العثمانية وتجنيبها الأخطار التي تهددتها.

وكان من أثر هذه العوامل، أن تميزت العلاقات بين الباشا والباب العالي في هذه الفترة، بالتقلب والتغير، فهي تارة تكدرها الشوائب، وأخرى تتسم بطابع التفاهم، وفي كل الأحوال لحمتها وسداها المداراة من الجانبين، لإدراك الديوان العثماني تعذر إخراج محمد علي من باشويته، وهو الذي تتدعم حكومته تدريجيا، وكلما طال بقاؤه في الولاية. أضف إلى هذا أن الباب العالي كان في حاجة إلى معاونة الباشا الصادقة لإخماد عصيان الوهابيين وثورتهم بالحجاز، ووقف إغاراتهم على أملاك الدولة في الشام والعراق، لا سيما بعد أن انكسرت جيوش ولاته أمام الوهابيين، هذا من ناحية؛ ولأن الباشا من ناحية أخرى كان يدرك أن من خرق الرأي نبذ سيادة السلطان ومناوأته طالما لا يجد سندا من الدول الأوروبية يؤازره، وقد شهدت هذه الفترة تسوية الخلافات رويدا رويدا بين الجانبين، حتى إذا وافت سنة 1810 على ختامها، كان الباب العالي قد قطع على نفسه عهدا بإعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي في باشويته، وإن كان قد جعل ذلك مشروطا بخروج جيش محمد علي إلى الحجاز والانتصار على الوهابيين وكسر شوكتهم.

ولقد كان من الواضح في أثناء ذلك كله، أن محمد علي قد صح عزمه على الاستقرار في هذه البلاد وعدم التخلي عن ولايته، إلا إذا أرغم إرغاما بحد السيف - كما قال - على تركها، وذلك قرار لم يكن هناك أي شك في جديته منذ أن نشأت أزمة النقل إلى سالونيك - على نحو ما سبق توضيحه - ثم ظهر هذا العزم صادقا عند انتهاء حملة «فريزر»، وكان مبعث المشروع الذي تقدم به محمد علي من ذلك الحين بصورة محددة لإنشاء باشويته وجاقا من نمط وجاقات الغرب.

ولم يكن انتصار الباشا على حملة «فريزر»، واضطرار هذه الحملة إلى الانسحاب من الأراضي المصرية في الظروف التي عرفناها، الباعث الفرد الذي حفز الباشا على السعي من أجل تنفيذ مشروع استقلاله عن الباب العالي، بل إن ضعف الدولة الذي أعجزها عن تطويع باشواتها المتمردين عليها في طائفة من ولاياتها الأخرى، وطمع الدول في ممتلكاتها، ثم اختلال الأمور في مركز السلطنة ذاتها، كل هذه كانت أسبابا زادت من تحفز الباشا، كما أنها جعلته مطمئنا إلى استطاعته الفوز بمأربه، إذا هو ظل مثابرا على سعيه، وكان لحادث الانقلاب الذي قام به الإنكشارية في إسلامبول وأفضى إلى عزل السلطان سليم الثالث وقتله، ثم انتهى بعزل السلطان التالي مصطفى، وتولية محمود الثاني، أبلغ الأثر في نفس محمد علي، من حيث دلالته على اضطراب الأحوال في مقر السلطنة، بصورة لا شك في أنها سوف تزيد من ضعفها وعجزها عن ردع ولاة الدولة المتمردين، ومن حيث إنه ساعد على رسوخ اعتقاد محمد علي بأن الواجب يقتضيه العمل بكل سرعة لتثبيت باشويته في مصر بصفة دائمة، حتى ينأى بها عن الأخطار التي قد تتهددها نتيجة لمثل هذه الانقلابات إذا وقعت مرة أخرى، وطرأ على ذهن أصحاب السلطة الجدد محاولة عزله أو نقله من باشويته، وقد بلغت القاهرة أنباء هذه الانقلابات وتفاصيل حوادثها، وما أفضت إليه، كل ذلك دفعة واحدة على ما يبدو، في أواخر جمادى الثانية 1213؛ أي في الثلث الأخير من شهر أغسطس 1808. ثم لم يمض قليل على ذيوع هذه الأخبار حتى كان قد وصل إلى بولاق في 24 أغسطس رسول من القسطنطينية وعلى يده مرسوم بإجراء الخطبة باسم السلطان محمود بن عبد الحميد، فتحقق الخبر.

وظهر تصميم الباشا على الاحتفاظ بباشويته واستكمال سلطانه بها، وأنه قد صح عزمه على البقاء والاستقرار بها وعدم مبارحتها، أولا في تمسكه بالإسكندرية التي تسلمها من الإنجليز، وضمها إلى باشويته، وثانيا في استقدامه سائر أفراد أسرته من قولة، ثم أسرات رجاله ومعاونيه الصادقين. وقد عهد الباشا إلى أبنائه ومن وثق في ولائهم له بالمناصب الهامة في الحكومة.

وكانت العلاقات بين الباشا والديوان العثماني قد استمرت في الفترة التالية لجلاء حملة «فريزر» عن الإسكندرية، لا يعتورها الكدر، فقد تقدم كيف أن الباب العالي أرسل الهدايا للباشا ولكبار العسكر، كما أعاد إبراهيم بك بن محمد علي من القسطنطينية، إظهارا لرضاء السلطان وتقديره لجهود الباشا في الانتصار على الإنجليز (سبتمبر 1807)، فاستمر هذا الرضا في الشهور التالية، حتى إذا جاء موعد تجديد الولاية للباشا وتثبيته بها عن العام التالي، حضر قابجي من القسطنطينية في ديسمبر 1807 يحمل مرسومات أحدها بتقرير لمحمد علي باشا على ولاية مصر، وآخر بالدفتردارية باسم ولده إبراهيم، وآخر بالعفو عن جميع العسكر جزاء على إخراجهم الإنجليز من ثغر الإسكندرية، وحمل هذا القابجي - ويدعى بيانجي بك - خلعا وشلنجات هدايا للباشا ولرجاله. وقد غادر البلاد في فبراير من العام التالي، راجعا إلى القسطنطينية.

ولكنه لم تمض شهور قلائل حتى قامت «حركة الينكجرية» وانتهت الانقلابات التي وقعت بالقسطنطينية بالمناداة بمحمود الثاني في 29 يوليو 1808، وكان في هذا الشهر نفسه أن وصل الإسكندرية قبطان من رجال البحرية العثمانية، قصد فورا إلى القاهرة لمقابلة محمد علي، قال عنه «دروفتي» في رسالته إلى حكومته من القاهرة من 10 أغسطس «إنه يحمل أوامر تطلب من محمد علي باشا إعطاءه قومندانية المواني والشواطئ المصرية»؛ أي إرجاع الإسكندرية وسائر المواني إلى الإشراف العثماني تحت إدارة القبطان باشا بالقسطنطينية مباشرة، وتعيين رؤساء لحكومتي الإسكندرية ودمياط خاضعين رأسا للباب العالي، ومستقلين عن باشوية القاهرة.

ومع أن الباشا رحب بهذا القبطان ترحيبا كبيرا، فقد كان من الواضح - على حد ما قال «دروفتي» في رسالته السالفة - «أنه لا يميل بتاتا إلى تسليمه حكومة الثغور والشواطئ المصرية»، بل إن الباشا ما لبث أن قرر القيام بجولة في الشواطئ المصرية لزيارة دمياط ورشيد والإسكندرية، وهي الجولة التي أراد أن يصحبه فيها «دروفتي»، واعتذر هذا لعدم وجود تعليمات لديه من حكومته تجيز له ذلك - على نحو ما سبق بيانه - وقد قام الباشا بهذه الرحلة، فتجول في جهات الوجه البحري، وذهب إلى دمياط ورشيد والإسكندرية. وقد تحدث «سانت مارسيل» عن الغرض من هذه الرحلة في كتابه إلى الوزير «شامباني» من الإسكندرية في 21 سبتمبر 1808، فقال: «ومع أن أحدا لا يعرف السبب الحقيقي لرحلته هذه، ولكن الاعتقاد السائد هو أنه يبغي أن يستميل السكان إلى تأييد رغبته في الاحتفاظ لنفسه بحكومتي الإسكندرية ودمياط، اللتين يريد الباب العالي تعيين حكام لهما، مستقلين عن باشا القاهرة.»

ثم استمرت مساعي الباب العالي لإخراج الإسكندرية من نطاق باشوية محمد علي، حتى أوائل العام التالي، ولكن دون نتيجة، فيذكر الشيخ الجبرتي في حوادث محرم 1224 (16 فبراير-17 مارس 1809) أن قاصدا «حضر من قبودان باشا يطلب عوائده بالإسكندرية، فقال له حاكم الإسكندرية، ينبغي أن تذهب إلى الباشا بالترعة (ترعة الفرعونية، التي كان الباشا وقتئذ يشرف بنفسه على سدها لمنع انسياب المياه من فرع دمياط)، وتقابله، فذهب إليه وقابله»، ولكن الأجل لم يمهل هذا القاصد للوصول إلى نتيجة قاطعة فيما جاء بسببه؛ فقد بات ليلته عند السد، وأصبح ميتا فأخرجوه إلى المقبرة. وقد شغل الباب العالي بعد ذلك بالمسألة التي طغت على كل ما سواها، وهي استنهاض همة محمد علي لإنفاذ جيشه لقتال الوهابيين بالحجاز، فركدت مسألة الإسكندرية، واستتب سلطان محمد علي بها، وظلت من ذلك الحين هي وسائر الثغور والشواطئ المصرية جزءا لا يتجزأ من باشوية مصر، فكان دخول الإسكندرية - خصوصا في نطاق هذه الولاية - الخطوة الأولى التي خطاها الباشا في سبيل استكمال سلطان باشويته.

وكان من بين الإجراءات التي لجأ إليها محمد علي من أجل توطيد سلطانه في هذه الباشوية، أنه عين أهله وأقاربه في مناصب الجيش والإدارة الهامة، من ذلك رفعه إلى مرتبة الباشوية ابنه طوسون بك الذي عهد إليه بقيادة الحملة المعدة للحجاز، ثم ابنه إبراهيم بك الذي جعله دفتردارا. وقال «دروفتي» في 9 أبريل 1809، وهو يذكر هذه الإجراءات التي اتخذ منها دليلا على أن الباشا إنما يعتمد على القوة في قدرته على البقاء في حكومة مصر، والتي يبغي منها تأكيد وضمان سيادته في مصر، «إنه إذا استثنينا بعض الجند من الأرنئود وقلة من العثمنلي من تركية آسيا الذين هم اليوم أقل كلفة له، وأقل ولاء للباشا كذلك، فإن سائر الجيش يتولى قيادته ضباط من أهله أو أصدقاء الباشا المحالفين له.»

صفحة غير معروفة